تاريخ العلامة ابن خلدون المجلد الأول الجزء السادس

الباب الثاني
في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل
وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات

الفصل الأول
في أن أجيال البدو والحضر طبيعية
إعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش؛فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضرورى منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي. فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة؛ ومنهم من

ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها. وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة، ولا بد، إلى البدو لأنه متسع لما لا يتسع له الحواضر من المزارع والفدن والمسارح للحيوان وغير ذلك. فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمراً ضرورياً لهم؛ وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكن والدفء إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عما وراء ذلك.ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة، وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس، والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر. ثم تزيد أحوال الرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك، ومعالاة البيوت والصروح وإحكام وضعها في تنجيدها، والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها، فيتخذون القصور والمنازل، ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها، ويبالغون في تنجيدها، ويختلقون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون. وهؤلاء هم الحضر، ومعناه الحاضرون، أهل الأمصار والبلدان. ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة. وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو؛ لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم. فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية لا بد منهما كما قلناه.

الفصل الثاني
في أن جيل العرب في الخلقة طبيعي
قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من الطين والحجارة غير منجدة، إنما هو قصد الاستظلال والكن لا ما وراءه؛ وقد يأوون إلى الغيران والكهوف. وأما أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أو بغير علاج البتة إلا ما مسته النار. فمن كان معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن؛ وهؤلاء سكان المدر والقرى والجبال، وهم عامة البربر والأعاجم. ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم والبقر فهم ظغن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم؛ فالتقلب في الأرض أصلح بهم؛ ويسمون شاوية ومعناه القائمون على الشاء والبقر؛ ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة؛ وهؤلاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة. وأما من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً؛ لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفء هوائه وطلباً لماخض النتاج في رماله؛ إذ الإبل أصعب الحيوان فصالاً

ومخاضاً وأحوجها في ذلك إلى الدفء فاضطروا إلى إبعاد النجعة. وربما زادتهم الحامية عن التلول أيضاً، فأوغلوا في القفار نفرة عن الضعة منهم؛ فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم؛ وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق. إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط؛ وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها. فقد تبين لك أن جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل الثالث
في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه وأن البادية أصل العمران والأمصار مدد لهما
قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم، العاجزون عما
فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم. ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه؛ لان الضروري أصل والكمالي فرغ ناشئ عنه. فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري، ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلاً. فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة. ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها. ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة، وأمكن نفسه إلى قياد المدينة. وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم. والحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته.ومما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر

ومتقدم عليه، أنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر وفي قراه، وانهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف الذي في الحضر. وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وانها أصل لها، فتفهمه. ثم إن كل واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه: فرب حي أعظم من حي، وقبيلة أعظم من قبيلة؛ ومصر أوسع من مصر، ومدينة أكثر عمراناً من مدينة. فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها؛ بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية، والله اعلم.
الفصل الرابع
في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر
وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر؛ قال : <<كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه >>. وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه: فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر وصعب عليه طريقه؛ وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضاً عوائده. وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك. حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، لا يصدهم عنه وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً. وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في

الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها. فعوائدهم في معاملاتهم علي نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر اقل بكثير. فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها؛ فيسهل علاجهم عن علاج الحضر، وهو ظاهر. وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر والبعد عن الخير. فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر. والله يحب المتقين.ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه انه خرج إلى سكني البادية، فقالى له: “ارتددت على عقبيك؛ تعربت؛ ” فقال: “لا، ولكن رسول الله أذن لي في البدو”. فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي  حيث حل من المواطن ينصرونه ويظاهرونه على أمره ويحرسونه، ولم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية؛ لأن أهل مكة يمسهم من عصبية النبي  في المظاهرة والحراسة ما لا يمس غيرهم من بادية الأعراب. وقد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة. وقال  في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة: <<اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم >>؛ ومعناه أن يوفقهم لملازمة المدينة وعدم التحول عنها، فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدؤوا بها، وهو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه. وقيل إن ذلك كان خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلى الهجرة لقلة المسلمين؛ وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفل الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ، لقوله  <<لا هجرة بعد الفتح>> وقيل سقط إنشاؤها عمن يسلم بعد الفتح. وقيل سقط وجوبها عمن أسلم وهاجر قبل الفتح. والكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق وانتشروا ولم

يبق إلا فضل السكنى بالمدينة وهو هجرة. فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك؛ تعربت؛ نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدعاء المأثور الذي قدمناه، وهو قوله: <<ولا تردهم على أعقابهم >>. وقوله تعربت إشارة إلى انه صار من الأعراب الذين لا يهاجرون. وأجاب سلمة بإنكار ما الزمه من الأمرين، وان النبي  أذن له في البدو. ويكون ذلك خاصا به كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة. ويكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكني بالمدينة فقط، لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة، وأجابه سلمة بأن اغتنامه لإذن النبي أولى وافضل؛ فما آثره به واختصه إلا لمعنى علمه فيه. وعلى كل تقدير فليس دليلا على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب؛ لأن مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي  وحراسته، لا لمذمة البدو. فليس في النعي عليه ترك هذا الواجب بالتعرب دليل على مذمة التعرب. والله سبحانه أعلم وبه التوفيق.
الفصل الخامس
في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر
والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا
في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم، فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد؛ فهم غارون آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة

النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم؛ حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة. وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، ويتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات ويتفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم؛ قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ. وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا من أكل أنفسهم. وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشار السبل. وسبب ذلك ما شرحناه. وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبية ومزاجه. فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة. واعتبر ذلك في الآدميين تجد كثيرا صحيحاً. والله يخلق ما يشاء.

الفصل السادس
في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم
وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه؛ إذ الرؤساء والأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم؛ فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره، ولا بد فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة، لا يعاني منها حكم ولا منع وصد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين بعدم الوازع، حتى صار لهم الإدلال جبلة لا يعرفون سواها.أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم، وتذهب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه. وقد نهى عمر سعدا رضي الله عنهما عن مثلها، لما أخذ زهرة بن جوبة سلب الجالنوس، وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه، فانتزعه منه سعد وقال له: “هلا انتظرت في اتباعه إذني؛ ” وكتب إلى عمر يستأذنه؛ فكتب إليه عمر: “تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به، وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فوقه وتفسد قلبه ” وأمضى له عمر سلبه.وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للباس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك. وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه علي المخافة والانقياد

فلا يكون مدلاً ببأسه. ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو اشد بأساً ممن تأخذه الأحكام. ونجد أيضاًالذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من باسهم كثيراً، ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقار والهيبة؛ فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس.ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة، ولم ينقص ذلك من بأسهم، بل كانوا أشد الناس بأساً،لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم، لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي؛ إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق. فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة، كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم. قال عمر رضي الله عنه: “من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله “، حرصاً على أن يكون الوازع لكل أحدٍ من نفسه ويقيناً بأن الشارع أعلم بمصالح العباد.ولما تناقص الدين في الناس واخذوا بالأحكام الوازعة، ثم صار الشرع علماً وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم.فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للباس لأن الوازع فيها أجنبي؛وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي. ولهذا كانت هذه الأحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم؛ والبدو بمعزل عن هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم والآداب. ولهذا قال محمد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلمين والمتعلمين: “إنه لا ينبغي للمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواطٍ “؛ نقله عن شريح القاضي

واحتج له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغط وأنه كان ثلاث مرات؛ وهو ضعيف، ولا يصلح شأن الغط أن يكون دليلاً على ذلك لبعده عن التعليم المتعارف. والله الحكيم الخبير.
الفصل السابع
في أن سكني البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية
إعلم أن الله سبحانه ركب في طبائع البشر الخير والشر، كما قال تعالى:
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، وقال: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]. والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذبه الاقتداء بالدين. وعلى ذلك الجم الغفير، إلا من وفقه الله. ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض. فمن امتدت عينة إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه إلا أن يصده وازع كما قال:
# والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
فأما المدن والأمصار فعدوان بعضهم على بعض تدفعه الحكام والدولة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على بعض، أو يعدو عليه؛ فإنهما مكبوحون بحكمة القهر والسلطان عن التظالم، إلا إذا كان من الحاكم بنفسه. وأما العدوان من الذي خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً، أو يدفعه ازدياد الحامية من أعوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة. وأما أحياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وفر في نفوس الكافة لهم من الوقار والتجلة. وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم. ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسبٍ واحدٍ؛ لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم؛ إذ نعرة كل أحدٍ على نسبه وعصبيته أهم؛ وما جعل الله في قلوب

عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وقربائهم موجودة في الطبائع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر، وتعظم رهبة العدو لهم، واعتبر ذلك فيما حكاه القرآن عن إخوة يوسف عليه السلام، حين قالوا لأبيه: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14]؛ والمعنى أنه لا يتوهم العدوان على أحدٍ مع وجود العصبة له.وأما المتفردون في أنسابهم فقل أن تصيب أحداً منهم نعرة على صاحبه، فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة واستيحاشاً من التخاذل. فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر لما أنهم حينئذٍ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم.وإذا تبين ذلك في السكنى التي تحتاج للمدافعة والحماية فبمثله يتبين لك في كل أمم يحمل الناس عليه من نبؤةٍ أو إقامة ملك أو دعوةٍ؛ إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه، لما في طبائع البشر من الاستعصاء، ولا بد في القتال من العصبية كما ذكرناه آنفاً؛ فاتخذه إماماً تقتدي به فيما نورده عليك بعد. والله الموفق للصواب.
الفصل الثامن
في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه
وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل. ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة. فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك: نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا. فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة؛ فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها. وإذا بعد النسب بعض الشيء فربما

تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه، فراراً من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه. ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كل أحدٍ على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب؛ وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها. ومن هذا تفهم معنى قوله : <<تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم >>؛ بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه، إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له؛ ونفعه إنما هو في هذه الوصلة والالتحام. فإذا كان ظاهراً واضحاً حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما قلناه. وإذا كان إنما يستفاد من الخبر البعيد ضعف فيه الوهم وذهبت فائدته وصار الشغل به مجاناً، ومن أعمال اللهو المنهي عنه. ومن هذا الاعتبار معنى قولهم: النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر؛ بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح وصار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس، وانتفت النعرة التي تحمل عليها العصبية فلا منفعة فيه حينئذ. والله سبحانه وتعالى اعلم.
الفصل التاسع
في أن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر
من العرب ومن في معناهم
وذلك لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن، حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة؛ وهي لما كان معاشهم من القيام على الإبل ونتاجها ورعايتها، والإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره

ونتاجها في رماله كما تقدم، والقفر مكان الشظف والسغب؛ فصار لهم إلفاً وعادة وربيت فيه أجيالهم حتى تمكنت خلقاً وجبلة، فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم، ولا يأنس بهم أحد من الأجيال. بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله وأمكنه ذلك لما تركه؛ فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها، ولا تزال بينهم محفوظة. واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة؛ لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع، وبعدوا من أرياف الشام والعراق ومعادن الأدم والحبوب، كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط ولا عرف فيهم شوب. وأما العرب الذين كانوا بالتلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسان وطىء وقضاعة وإياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم. ففي كل واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس ما تعرف. وإنما جاءهم ذلك من قبل العجم ومخالطتهم. وهم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم وشعوبهم؛ وإنما هذا للعرب فقط. قال عمر رضي الله تعالى عنه: “تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد، إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا”. هذا إلى ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف من الازدحام مع الناس على البلد الطيب والمراعي الخصيبة؛ فكثر الاختلاط وتداخلت الأنساب. وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن، فيقال جند قنسرين، جند دمشق، جند العواصم، وانتقل ذلك إلى الأندلس؛ ولم يكن لاطراح العرب أمر النسب، وإنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها، وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم. ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم

وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية فاطرحت. ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية بدثورها؛ وبقي ذلك في البدو كما كان. والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل العاشر
في اختلاط الأنساب كيف يقع
إعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها، فيدعى بنسب هؤلاء ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال. وإذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد؛ لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء ومن هؤلاء إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه، وكأنه التحم بهم. ثم إنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمان ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر. وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام والعرب والعجم. وانظر خلاف الناس في نسب آل المنذر وغيرهم يتبين لك شيء من ذلك. ومنه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لما ولاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه، وقالوا هو فينا لزيق، أي دخيل ولصيق، وطلبوا أن يولي عليهم جريراً. فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة: “صدقوا يا أمير المؤمنين، أنا رجل من الأزد أصبت دما في قومي ولحقت بهم “. وانظر منه كيف اختلط عرفجة ببجيلة ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم حتى ترشح للرياسة عليهم، لولا علم بعضهم بوشائجه؛ ولو غفلوا عن ذلك وامتد الزمن لتنوسي بالجملة وعد منهم بكل وجه ومذهب. فافهمه واعتبر سر الله في خليقته. ومثل هذا كثير لهذا العهد ولما قبله من العهود. والله الموفق للصواب بمنه وفضله وكرمه.

الفصل الحادي عشر
في أن الرئاسة لا تزال في نصابها المخصوص من أهل العصبية
إعلم أن كل حى أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم
أيضاً عصبيات أخرى لانساب خاصة هى أشد التحاماً من النسب العائم لهم، مثل عشيرٍ واحدٍ أو أهل بيتٍ واحدٍ أو إخوة بني أبٍ واحدٍ لا مثل بني العم الأقربين أو الأبعدين. فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العائم. والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام، إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة. والرئاسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم ولا تكون في الكل. ولما كانت الرئاسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرئاسة لأهلها. فإذا وجب ذلك تعين أن الرئاسة عليهم لا تزال في ذلك النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم؛ إذ لو خرجت عنهم وصارت في العصائب الأخرى النازلة عن عصابتهم في الغلب لما تمت لهم الرئاسة. فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع، ولا تنتقل إلا إلى الأقوى من فروعه، لما قلناه من سر الغلب. لأن الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج في المتكون؛ والمزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر؛ فلا بد من غلبة أحدها وإلا لم يتم التكوين. فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية. ومنه تعين استمرار الرئاسة في النصاب المخصوص بها كما قررناه.

الفصل الثاني عشر
في أن الرئاسة علي أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم
وذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه.فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدةً، أن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم اقروا بالإذعان والاتباع. والساقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبية فيهم بالنسب، إنما هو ملصق لزيق، وغاية التعصب له بالولاء والحلف؛ وذلك لا يوجب له غلبا عليهم البتة، وإذا فرضنا انه قد التحم بهم واختلط وتنوسي عهده الأول من الالتصاق، ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم، فكيف له الرئاسة قبل هذا الالتحام أو لأحدٍ من سلفه. والرئاسة على القوم إنما تكون متناقلة في منبت واحد تعين له الغلب بالعصبية. فالأولية التي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شك ومنعه ذلك الالتصاق من الرئاسة حينئذ؛ فكيف تنوقلت عنه، وهو على حال الإلصاق والرئاسة لا بد وأن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التغلب بالعصبية. وقد يتشوف كثير من الرؤساء على القبائل والعصائب إلى أنسابٍ يلهجون بها، أما لخصوصية فضيلة كانت في أهل ذلك النسب من شجاعةٍ أو كرم، أو ذكر كيف اتفق؛ فينزعون إلى ذلك النسب، ويتورطون بالدعوى في شعوبه؛ ولا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رئاستهم والطعن في شرفهم. وهذا كثير في الناس لهذا العهد.فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة أنهم من العرب. ومنه ادعاء أولاد رباب المعروفين بالحجازيين من بني عامرٍ أحد شعوب زغبة أنهم من بني سليم ثم من الشريد

منهم، لحق جدهم ببني عامرٍ نجاراً يصنع الحرجان واختلط بهم والتحم بنسبهم حتى رأس عليهم، ويسمونه الحجازي.ومن ذلك ادعاء بني عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبد المطلب رغبة في هذا النسب الشريف وغلطاً باسم العباس بن عطية، أبي عبد القوي. ولم يعلم دخول أحدٍ من العباسيين إلى المغرب، لأنه كان منذ أول دولتهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة والعبيديين؛ فكيف يكون من سبط العباس أحد من شيعة العلويين؟ وكذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس، ذهاباً إلي ما اشتهر في نسبهم أنهم من ولد القاسم، فيقولون بلسانهم الزناتي أنت القاسم أي بنو القاسم، ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن إدريس. ولو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه مستجيراً بهم، فكيف تتم له الرئاسة عليهم في باديتهم وإنما هو غلط من قبل اسم القاسم؛ فإنه كثير الوجود في الأدارسة، فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب؛ وهم غير محتاجين لذلك، فإن منالهم للملك والعزة إنما كان بعصبيتهم، ولم يكن بادعاء علوية ولا عباسية ولا شيء من الأنساب. وإنما يحمل على هذا المتقربون إلى الملوك بمنازعهم ومذاهبهم ويشتهر حتى يبعد عن الرد. ولقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤثل سلطانهم، انه لما قيل له ذلك أنكره، وقال بلغته الزناتية ما معناه: أما الدنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب، وأما نفعه في الآخرة فمردود إلى الله. وأعرض عن التقرب إليه بذلك.ومن هذا الباب ما يدعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنهم من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ وبنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنهم من سليم والزواودة شيوخ رياح أنهم من أعقاب البرامكة؛ وكذا بنو مهنى أمراء طيىء بالمشرق يدعون فيما بلغنا أنهم من أعقابهم، وأمثال ذلك كثير؛ ورئاستهم في قومهم مانعة من ادعاء هذه الأنساب كما ذكرناه؛ بل تعين أن يكونوا من صريح ذلك

النسب وأقوى عصبياته. فاعتبره واجتنب المغالط فيه. ولا تجعل من هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين بنسب العلوية، فإن المهدي لم يكن من منبت الرئاسة في هرثمة قومه، وإنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدين، ودخول قبائل المصامدة في دعوته؛ وكان مع ذلك من أهل المنابت المتوسطة فيهم. والله عالم الغيب والشهادة.
الفصل الثالث عشر
في أن البيت والشرف بالاصالة والحقيقة لأهل العصبية
ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه
وذلك أن الشرف والحسب إنما هو بالخلال؛ ومعنى البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافاً مذكورين، تكون له بولادتهم إياه والانتساب إليهم تجلةّ في أهل جلدته، لما وقر في نفوسهم من تجلّة سلفه وشرفهم بخلالهم. والناس في نشأتهم وتناسلهم معادن؛ قال : << الناسُ معادن: خيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا>>. فمعنى الحسب راجعٌ إلى الأنساب. وقد بيَّنا أن ثمرة الأنساب وفائدتها إنما هي العصبية للنعرة والتناصر؛ فحيث تكون العصبية مرهوبةً ومخشية والمنبت فيها زكيّ محميٌّ تكون فائدة النَّسب أوضح وثمرتها أقوى. وتعديد الأشراف من الآباء زائدٌ في فائدتها؛ فيكون الحسب والشرف أصليَّين في أهل العصبيّة لوجود ثمرة النسب. وتفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبيَّة؛ لأنه سرُّها. ولا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيت إلاَّ بالمجاز؛ وإن توهموه فزخرف من الدَّعاوى. وإذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار، وجدت معناه أن الرجل منهم يعدُّ سلفاً في خلال الخير ومخالطة أهله مع الركون إلى العافيَّة ما استطاع؛ وهذا مغاير لسر العصبيَّة التي هي ثمرة النَّسب وتعديد الآباء؛ ولكنه يطلق عليه حسب وبيت

بالمجاز، لعلاقة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخير ومسالكه؛ وليس حسباً بالحقيقة وعلى الإطلاق؛ وإن ثبت أنه حقيقة فيهما بالوضع اللغويَّ فيكون من المشكك الذي هو في بعض مواضعه أولى.وقد يكون للبيت شرف أوَّلّ بالعصبية والخلال ثم ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدم، ويختلطون بالغمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون به أنفسهم . من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء، لذهاب العصبيَّة جملةً. وكثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم لأوَّل عهدهم موسوسون بذلك. وأكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل. فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت:أوَّلا لما تعدَّد في سلفهم من الأنبياءِ والرسل من لدُنْ إبراهيم عليه السلام، إلى موسى صاحب ملتهم وشريعتهم؛ ثم بالعصبيَّة ثانياً وما آتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به. ثم انسلخوا من ذلك أجمع، وضربت عليهم الذَّلة والمسكنة، وكتب عليهم الجلاءُ في الأرض، وانفردوا بالاستعباد للكفر آلافاً من السنين. وما زال هذا الوسواس مصاحباً لهم فتجدهم يقولون: هذا هارونيٌّ؛ هذا من نسل يوشع؛ هذا من عقب كالب؛ هذا من سبط يهوذا؛ مع ذهاب العصبيَّة ورسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة. وكثير من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان. وقد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لمَّا ذكر الحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلّم الأوَّل. “والحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة” ولم يتعرض لما ذكرناه. وليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إن لم تكن له عصابةٌ يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه فكأنَّه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط. مع أن الخطابة إنَّما هي استمالة من تؤثَر استمالته وهم أهل الحلّ والعقد. وأما من لا قدرة له البتَّة فلا يلتفت إليه ولا يقدر على استمالة أحد ولا يستمال هو. وأهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة؛ إلاَّ أن ابن رشدٍ رَبَا في جبلٍ وبلدٍ لم يمارسوا العصبيَّة ولا أنسوا أحوالها؛ فبقي في

أمر البيت والحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق، ولم يراجع فيه حقيقة العصبيّة وسرَّها في الخليقة. والله بكل شيء عليمٌ .
الفصل الرابع عشر
في أن البيت والشرف للموالي وأهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم
وذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة، والحقيقة إنما هو لأهل العصبية. فإذا اصطنع
أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقوا العبدان والموالي، والتحموا بهم كما قلناه، ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبية ولبسوا جلدتها كأنها عصبتهم، وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها؛ كما قال : <<مولى القوم منهم >>؛ وسواء كان مولى رق أو مولى اصطناع وحلف، وليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبية، إذ هي مباينة لذلك النسب، وعصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند التحامه بهذا النسب الآخر، وفقدانه أهل عصبيتها، فيصير من هؤلاء ويندرج فيهم. فإذا تعددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف وبيت على نسبته في ولائهم واصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم، بل يكون أدون منهم على كل حال.وهذا شان الموالي في الدول والخدمة كلهم؛ فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ في ولاء الدولة وخدمتها، وتعدد الآباء في ولايتها. ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العباس، وإلى بني برمك من قبلهم، وبني نوبخت كيف أدركوا البيت والشرف وبنوا المجد والأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة. فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتاً وشرفاً بالانتساب إلى ولاء الرشيد وقومه، لا بالانتساب في الفرس. وكذا موالي كل

دولة وخدمها إنما يكون لهم البيت والحسب بالرسوخ في ولائها والأصالة في اصطناعها. ويضمحل نسبه الأقدم من غير نسبها ويبقى ملغى لا عبرة به في أصالته ومجده. وإنما المعتبر نسبة ولائه واصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت والشرف؛ فكان شرفه مشتقاً من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم، فلم ينفعه نسب ولادته؛ وإنما بنى مجده نسب الولاء في الدولة، ولحمة الاصطناع فيها، والتربية. وقد يكون نسبه الأول في لحمة عصبيته ودولته، فإذا ذهبت وصار ولاؤه واصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيتها. وانتفع بالثانية لوجودها. وهذا حال بني برمك، إذ المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النار عندهم، ولما صاروا إلى ولاء بني العباس لم يكن بالأول اعتبار، وإنما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة واصطناعهم. وما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة ولا حقيقة له. والوجود شاهد بما قلناه. و{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [سورة…الآية…]. والله ورسوله أعلم.
الفصل الخامس عشر
في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة اباء
إعلم أن العالم العنصريّ بما فيه كائن فاسد، لا من ذواته ولا من أحواله. فالمكونات من المعدن والنبات وجميع الحيوانات: الإنسان وغيره، كائنة فاسدة بالمعاينة. وكذلك ما يعرض لها من الأحوال، وخصوصاً الإنسانية. فالعلوم تنشأ ثم تدرس، وكذا الصنائع وأمثالها. والحسب من العوارض التي تعرض للآدميين؛ فهو كائن فاسد لا محالة. وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه، إلا ما كان من ذلك للنبي  كرامة به وحياطة على السر فيه. وأول كل شرف خارجية كما قيل، وهي الخروج عن الرئاسة والشرف إلى الضعة

والابتذال وعدم الحسب، ومعناه أن كل شرف وحسب فعدمه سابق عليه، شأن كل محدث.ثم إن نهايته أربعة آباء، وذلك أن باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هم أسباب كونه وبقائه. وابنه من بعده مباشر لأبيه، قد سمع منه ذلك وأخذه عنه، إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له. ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد. ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم، وليس بعصابة ولا بخلال، لما يرى من التجلة بين الناس، ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها، ويتوهم أنه النسب فقط؛ فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته، ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم، وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم، والأخذ بمجامع قلوبهم. فيحتقرهم بذلك؛ فينغصون عليه، ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت، ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم كما قلناه، بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله. فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول، وينهدم بناء بيته. هذا في الملوك؛ وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبية أجمع؛ ثم في بيوت أهل الأمصار إذا انحطت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19، 20].واشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب وإلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم. وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس، إلا أنه في انحطاط وذهاب. واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بان؛ ومباشر له؛ ومقلد؛ وهادم. وهو اقل ما يمكن. وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثناء. قال : <<إنما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بنيعقوب+ بن إسحق بن إبراهيم >>، إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد. وفي التوراة ما معناه: أنا الله ربك طائق غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث وعلى الروابع وهذا يدل على أن الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب.ومن كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أن كسرى قال للنعمان: هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة. قال: نعم؛ قال: بأي شيء؛ قال: من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل ذلك بكمال الرابع، فالبيت من قبيلته؛ وطلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة بن بدر الفزاري، وهم بيت قيس، وآل ذي الجدين بيت شيبان، وآل الأشعث بن قيس من كندة، وآل حاجب بن زرارة، وآل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم، فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكام والعدول. فقام حذيفة بن بدر، ثم الاشعث بن قيس لقرابته من النعمان، ثم بسطام بن قيس بن شيبان، ثم حاجب بن زرارة، ثم قيس بن عاصم، وخطبوا ونثروا. فقال كسرى: كلهم سيد يصلح لموضعه. وكانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم، ومعهم بيت بني الذبيان من بني الحارث بن كعب اليمني. وهذا كله يدل على أن الأربعة الآباء نهاية في الحسب. والله أعلم.
الفصل السادس عشر
في أن الأمم الوحشية أقدر علي التغلب ممن لما سواها

إعلم انه كانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر، فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم؛ بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك

باختلاف الأعصار. فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم. واعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء والبقر الوحشية والحمر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين وأخصب عيشها، كيف يختلف حالها في الانتهاض والشدة حتى في مشيتها وحسن أديمها؛ وكذلك الآدمي المتوحش إذا أنس وألف. وسببه أن تكون السجايا والطبائع إنما هو عن المألوفات والعوائد. وإذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة وأكثر توحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد وتكافآ في القوة والعصبية. وانظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير وكهلان السابقين إلى الملك والنعيم، ومع ربيعة المتوطنين أرياف العراق ونعيمه، لما بقي مضر في بداوتهم وتقدمهم الآخرون إلى خصب العيش وغضارة النعيم، كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب، فغلبوهم على ما في أيديهم وانتزعوه منهم. وهذا حال بني طيىء وبني عامر بن صعصعة وبني سليم بن منصور من بعدهم، لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مصر واليمن ولم يتلبسوا بشيء من دنياهم، كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم ولم تخلفها مذاهب الترف حتى صاروا أغلب على الأمر منهم. وكذا كل حي من العرب يلي نعيماً وعيشاً خصباً دون الحي الآخر. فإن الحي المتبدي يكون أغلب له وأقدر عليه إذا تكافاّ في القوة والعدد. سنة الله في خلقه.

الفصل السابع عشر
في ان الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك
وذلك لأنا قدمنا أن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع
عليه؛ وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض؛ فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية، وإلا لم تتم قدرته على ذلك. وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرئاسة؛لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع، وليس له عليهم قهر في أحكامه؛ وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر. وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها؛ فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس. ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً. فالتغلب الملكي غاية للعصبية كما رأيت. ثم إن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة، فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها، تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى؛ وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }.[سورة البقرة الآية 251] ثم إذا حصل التغلب بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها. فإن كافاتها أو مانعتها كانوا أقتالاً وأنظاراً، ولكل واحدة منهما التغلب على حوزتها وقومها، شأن القبائل والأمم المفترقة في العالم. وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضاً، وزادتها قوة في التغلب

إلى قوتها، وطلبت غاية من التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد. وهكذا دائماً حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة: فإن أدركت الدولة في هرمها ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها، وصار الملك أجمع لها؛ وإن انتهت إلى قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة، وإنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها تستظهر بها على ما يعن من مقاصدها. وذلك ملك آخر دون الملك المستبد، وهو كما وقع للترك في دولة بني العباس، ولصنهاجة وزناتة مع كتامة، ولبني حمدان مه ملوك الشيعة من العلوية والعباسية.فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية وأنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك، إما بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك. وإن عاقها عن بلوغ الغاية عوائق كما نبينه وقفت في مقامها إلى أن يقضي الله بأمره.
الفصل الثامن عشر
في أن من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم
وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره وشاركت أهل النعم والخصب في نعمتهم وخصبهم، وضربت معهم في ذلك بسهمٍِ وحصةٍ بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها. فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه، أذعن ذلك القبيل لولايتها، والقنوع بما يسوغون من نعمتها ويشركون فيه من جبايتها؛ ولم تسم آمالهم إلى شيء في منازع الملك ولا أسبابه، إنما همتهم النعيم والكسب وخصب العيش والسكون في ظل الدولة إلى الدعة والراحة والأخذ بمذاهب الملك في المباني

والملابس، والاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك. فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية والبسالة، ويتنعمون فيما آتاهم الله من البسطة. وتنشأ بنوهم وأعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم، ويستنكفون عن سائر الأمور الضرورية في العصبية، حتى يصير ذلك خلقاً لهم وسجية فتنقص عصبيتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية، فيأذنون بالانقراض. وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن الفلك؛ فإن عوارض التعرف والغرق في النعيم كاسر من سورة العصبية التي بها التغلب. وإذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلاً عن المطالبة، والتهمتهم الأمم سواهم. فقد تبين أن الترف من عوائق الملك. والله يؤتي ملكة من يشاء.
الفصل التاسع عشر
في أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل والانقياد إلي سواهم
وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها؛ فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها؛ فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة. واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام؛ وأخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، وقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة: 22]، أي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا وتكون من معجزاتك يا موسى. ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24]. وما ذلك إلا لما أنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة

والمطالبة كما تقتضيه الآية، وما يؤثر في تفسيرها؛ وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذل للقبط أحقاباً، حتى ذهبت العصبية منهم جملة؛ مع انهم لم يؤمنوا حق الإيمان بما أخبرهم به موسى من أن الشام لهم، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم بحكم من الله قدره لهم؛ فاقصروا عن ذلك، وعجزوا تعويلاًعلى ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلة، وطعنوا فيما اخبرهم به نبيهم من ذلك، وما أمرهم به. فعاقبهم الله بالتيه، وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصراً ولا خالطوا بشراً، كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهر من مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وافسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة؛ فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب. ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنةً أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر. سبحان الحكيم العليم.وفي هذا أوضح دليل علي شأن العصبية، وأنها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة، وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله. ويلحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم والضرائب. فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيه؛ لأن في المغارم والضرائب ضيماً ومذلةً لا تحتملها النفوس الأبية إلا إذا استهونته عن القتل والتلف، وأن عصبيتها حينئذٍ ضعيفة عن المدافعة والحماية؛ ومن كانت عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة وقد حصل له الانقياد للذل، والمذلة عائقة كما قدمناه. ومنه قوله  في شأن الحرث لما رأى سكة المحراث فيم بعض دور الأنصار: <<ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذل>>

فهو دليل صريح على أن المغرم موجب للذلة. هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر. فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلا تطمعن لها بملك آخر الدهر ومن هنا يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانوا شاوية يؤدون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك. وهو غلط فاحش كما رأيت؛ إذ لو وقع ذلك لما استتب لهم ملك ولا لمت لهم دولة. وانظر فيما قاله شهربراز ملك الباب لعبد الرحمن بن ربيعة لما أطل عليه، وسأل شهربراز أمانه على أن يكون له، فقال، أنا اليوم منكم يدي في أيديكم، وصعري معكم فمرحباً بكم، وبارك الله لنا ولكم، وجزيتنا إليكم النصر لكم والقيام بما تحثون، ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم. فاعتبر هذا فيما قلناه فإنه كافٍ.
الفصل العشرون
في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس
لما كان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه، وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوَّته الناطقة العاقل، لأن الشر إنماجاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه، وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب، والملك والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان، لأنها خاصة للإنسان لا للحيوان؛ فإذا خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة والفلك، إذ الخير هو المناسب، للسياسة. وقد ذكرنا أن المجد له اصل يبني عليه، وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير، وفرع يتم وجوده ويكمله وهو الخلال. وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها، وهي الخلال؛ لأن وجوده دون

متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً بين الناس. وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاً في أهل البيوت والأحساب، فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل حسب وأيضاً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق، وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم؛ وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع؛ وأحكام البشر إنما هي من الجهل والشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره، فإنه فاعل للخير والشر معاً ومقدرهما إذ لا فاعل سواه. فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ إحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في العباد وكفالة الخلق، ووجدت فيه الصلاحية لذلك.وهذا البرهان أوثق من الأول وأصح مبنى. فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبية. فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من النواحي والأمم، فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن الزلات، والاحتمال من غير القادر، والقرى للضيوف، وحمل الكل وكسب المعدم، والصبر على المكاره والوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء الحاملين لها، والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظن بهم، واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم، ورغبة الدعاء منهم، والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم، والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه، وإنصاف المستضعفين من أنفسهم، والتبدل في أحوالهم، والانقياد للحق والتواضع للمسكين، واستماع شكوى المستغيثين، والتدين بالشرائع والعبادات، والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك، علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم، أو على العموم، وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب

لعصبيتهم وغلبهم، وليس ذلك سدى فيهم، ولا وجد عبثاً منهم؛ والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيتهم؛ فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك وساقه إليهم. وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها؛ فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم، ويتبدل به سواهم ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك، وجعل في أيديهم من الخير: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. واستقرىء ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه ورسمناه. والله يخلق ما يشاء ويختار.واعلم أن من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل أولو العصبية- وتكون شاهدة لهم بالملك- إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التجار والغرباء وإنزال الناس منازلهم. وذلك أن إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في الشرف ويجاذبهم حبل العشير والعصبية، ويشاركهم في اتساع الجاه أمر طبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس مثلها منه. وأما أمثال هؤلاء ممن ليس لهم عصبية تتقى ولا جاه يرتجى فيندفع الشك في شأن كرامتهم، ويتمحض القصد فيهم انه للمجد، وانتحال الكمال في الخلال والإقبال على السياسة بالكلية. لأن إكرام أقتاله وأمثاله ضروري في السياسة الخاصة بين قبيله ونظرائه؛ وإكرام الطارئين من أهل الفضائل والخصوصيات كمال في السياسة العامة. فالصالحون للدين، والعلماء للجاءي إليهم في إقامة مراسم الشريعة، والتجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم؛ والغرباء من مكارم الأخلاق؛ وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف وهو من العدل. فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك، وأن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجود علاماتها. ولهذا كان أول ما يذهب

من القبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم وسلطانهم إكرام هذا الصنف من الخلق. فإذا رأ يته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد أخذت في الذهاب عنهم، وارتقب زوال الملك منهم: {وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له }[سورة ….الآية ..] والله تعالى أعلم
الفصل الحادي والعشرون
في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع
وذلك لأنهم أقدر على التغلب والاستبداد كما قلناه، واستعباد الطوائف، لقدرتهم على محاربة الأمم سواهم ولأنهم يتنزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم، وهؤلاء مثل العرب وزناتة ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللثام من صنهاجة. وأيضاً فهؤلاء المتوحشون ليس لهم وطن يرتافون منه، ولا بلد يجنحون إليه فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السواء. فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد، ولا يقفون عند حدود أفقهم، بل يطفرون إلى الأقاليم البعيدة ويتغلبون على الأمم النائية. وانظر ما يحكى في ذلك عن عمر رضي الله عنه لما بويع وقام يحرض الناس على العراق فقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين القراء المهاجرون عن موعد الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها فقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]. واعتبر ذلك أيضاً بحال العرب السالفة من قبل، مثل التبابعة وحمير، كيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة وإلى العراق والهند أخرى. ولم يكن ذلك لغير

العرب من الأمم. وكذا حال الملثمين من المغرب لما نزعوا إلى الملك طفروا من الإقليم الأول، ومجالاتهم منه في جوار السودان، إلى الإقليم الرابع والخامس في ممالك الأندلس من غير واسطة. وهذا شأن هذه الأمم الوحشية. فلذلك تكون دولتهم أوسع نطاقاً، وأبعد من مراكزها نهايةً. {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20] وهو الواحد القهار لا شريك له.
الفصل الثاني والعشرون
في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة
فلا بد من عوده إلي شعب آخر منها ما دامت لهم العصبية
والسبب في ذلك أن الملك إنما حصل لهم بعد سورة الغلب والإذعان لهم من سائر الأمم سواهم، فيتعين منهم المباشرون للأمر الحاملون سرير الملك. ولا يكون ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة التي يضيق عنها نطاق المزاحمة والغيرة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرتبة. فإذا تعين أولئك القائمون بالدولة انغمسوا في النعيم، وغرقوا في بحر الترف والخصب واستعبدوا إخوانهم من ذلك الجيل، وأنفقوهم في وجوه الدولة ومذاهبها. وبقي الذين بعدوا عن الأمر وكبحوا عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي شاركوها بنسبهم، وبمنجاة من الهرم لبعدهم عن الترف وأسبابه. فإذا استولت على الأولين الأيام، وأباد غضراءهم الهرم فطبختهم الدولة، وأكل الدهر عليهم وشرب، بما أرهف النعيم من حدهم واستقت غريزة الترف من مائهم، وبلغوا غايتهم من طبيعة التمدن الإنساني والتغلب السياسي(،شعر):
# كدود القز ينسج ثم يفنى بمركز نسجه في الانعكاس

كانت حينئذٍ عصبية الآخرين موفورة، وسورة غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة؛ فتسمو آمالهم إلى الملك الذي كانوا ممنوعين منه بالقوة الغالبة من جنس عصبيتهم، وترتفع المنازعة لما عرف من غلبهم، فيستملون على الأمر ويصير إليهم. وكذا يتفق فيهم مع من بقي أيضاً منتبذاً عنه من عشائر أمتهم، فلا يزال الملك ملجئاً في الأمة إلا أن تنكسر سورة العصبية منها أو يفنى سائر عشائرها. سنة الله في الحياة الدنيا، {والآخرة عند ربك للمتقين }[سورة الزخرف آخر الآية 35] واعتبر هذا بما وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود، ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير، ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضاً، ومن بعدهم الآذواء كذلك، ثم جاءت الدولة لمضر. وكذا الفرس لما انقرض أمر الكينية، ملك من بعدهم الساسانية، حتى تأذن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام. وكذا اليونانيون انقرض أمرهم وانتقل إلى إخوانهم من الروم. وكذا البربر بالمغرب لما انقرض أمر مغراوة وكتامة الملوك الأول منهم رجع إلى صنهاجة ثم الملثمين من بعدهم، ثم المصامدة، ثم من بقي من شعوب زناتة وهكذا. سنة الله في عباده وخلقه.وأصل هذا كله إنما يكون بالعصبية، وهي متفاوتة في الأجيال؛ والملك يخلقه الترف ويذهبه كما سنذكره بعد. فإذا انقرضت دولة فإنما يتناول الآمر منهم من له عصبية مشاركة لعصبيتهم التي عرف لها التسليم والانقياد وأونس منها الغلب لجميع العصبيات. وذلك إنما يوجد في النسب القريب منهم؛لأن تفاوت العصبية بحسب ما قرب من ذلك النسب التي هي فيه أو بعد. حتى إذا وقع في العالم تبديل كبير من تحويل ملة أو ذهاب عمران أو ما شاء الله من قدرته، فحينئذ يخرج عن ذلك الجيل إلى الجيل الذي يأذن الله بقيامه بذلك التبديل. كما وقع لمضر حين غلبوا على الأمم والدول وأخذوا الأمر من أيدي أهل العالم، بعد أن كانوا مكبوحين عنه أحقاباً.

الفصل الثالث والعشرون
في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه
ونحلته وسائر أحواله وعوائده
والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه؛ أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصلى لها حصل اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء؛ أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله. وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم. وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم؛ حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير؛ كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة انه من علامات الاستيلاء؛ والأمر لله. وتأمل في هذا سر قولهم: “العامة على دين الملك “

فإنه من بابه، إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم. والله العليم الحكيم؛ وبه سبحانه وتعالى التوفيق.

ماذا تعرف عن الملك فاروق و مصر فى عهد الملك فاروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *