تاريخ العلامة ابن خلدون المجلد الأول الجزء الثامن

الفصل الثامن عشر
في أن آثار الدولة كلها علي نسبة قوتها في أصلها
والسبب في ذلك أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولاً وعلى قدرها يكون الأثر. فمن ذلك مباني الدولة وهياكلها العظيمة. فإنما تكون على نسبة قوة الدولة في أصلها، لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل والتعاون فيه. فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرعايا، كان الفعلة كثيرين جداًوحشروا من آفاق الدولة وأقطارها، فتم العمل على أعظم هياكله. ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود وما قصه القرآن عنهما.

وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتى إنه عزم الرشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد عنه، وشرع فيه ثم أدركه العجز، وقصة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة. فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم والبناء في السهولة تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين. وانظر إلى بلاط الوليد بدمشق وجامع بني أمية بقرطبة والقنطرة التي على واديها، وكذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنة في القناة الراكبة عليها، وآثار شرشال بالمغرب والأهرام بمصر وكثير من هذه الآثار الماثلة للعيان، تعلم منه اختلاف الدول في القوة والضعف.
واعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها؛ فبذلك شيدت تلك الهياكل والمصانع. ولا تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها؛ فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما تجد بين الهياكل والآثار. ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه، وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخباراً عريقة في الكذب، من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام؛ زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه إلى الشمس. ويزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أن للشمس حرارة وإنها شديدة فيما قرب منها؛ ولا يعلمون أن الحر هو الضوء؛ وأن الضوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء، فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك، وإذا تجاوزت مطارح الأشعة المنعكسة

فلا حر هنالك، بل يكون فيه البرد حيث مجاري السحاب، وأن الشمس في نفسها لا حارة ولا باردة وإنما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له. وكذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيين الذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشام، وأطوال بني إسرائيل وجسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا. يشهد لذلك أبواب بيت المقدس؛ فإنها وإن خربت وجددت لم تزل محافظة على أشكالها ومقادير أبوابها. وكيف يكون التفاوت بين عوج وبين أهل عصره بهذا المقدار. وإنه مثار غلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم ولم يفهموا حال الدول في الاجتماع والتعاون، وما يحمل بذلك وبالهندام من الآثار العظيمة، فصرفوه إلى قوة الأجسام وشدتها بعظم هياكلها، وليس الأمر كذلك.وقد زعم المسعودي ونقله عن الفلاسفة مزعماً لا مستند له إلا التحكم، وهو:الطبيعة التي هى جبلة للأجسام، لما برأ الله الخلق كانت في تمام المرة ونهاية القوة والكمال، وكانت الأعمار أطول والأجسام أقوى لكمال تلك الطبيعة؛ فإن طروء الموت إنما هو بانحلال القوى الطبيعية؛ فإذا كانت قوية كانت الأعمار أزيد. فكان العالم في أولية نشأته تام الأعمار كامل الأجسام، ثم لم يزل يتناقص لنقصان المادة إلى أن بلغ إلى هذه الحال التي هو عليها؛ ثم لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال وانقراض العالم وهذا رأي لا وجه له إلا التحكم كما تراه؛ وليس له علة طبيعية ولا سبب برهاني. ونحن نشاهد مساكن الأولين وأبوابهم وطرقهم فيما أحدثوه من البنيان والهياكل والديار والمساكن، كديار ثمود المنحوتة في الصلد من الصخر، بيوتاً صغاراً وأبوابها ضيقة. وقد أشار إلى أنها ديارهم، ونهى عن استعمال مياههم وطرح ما عجن به وأهرق

وقال: <<لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم >>.
وكذلك أرض عاد ومصر والشام وسائر بقاع الأرض شرقاً وغرباً. والحق ما قر رناه.ومن آثار الدول أيضاً حالها في الإعراس والولائم كما ذكرناه في وليمة بوران وصنيع الحجاج وابن ذي النون، وقد مر ذلك كله.
ومن آثارها أيضاً عطايا الدول وأنها تكون على نسبتها. ويظهر ذلك فيها ولو أشرفت على الهرم، فإن الهمم التي لأهل الدولة تتكون على نسبة قوة ملكهم وغلبهم للناس، والهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدولة. واعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش، كيف أعطاهم من أرطال الذهب والفضة والأعبد والوصائف عشراً عشراً، ومن كرش العنبر واحدة، واضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب؛ وإنما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصة تحت استبداد فارس؛ وإنما حمله على ذلك همة نفسه بما كان لقومه التبابعة من الملك في الأرض والغلب على الأمم في العراقين والهند والمغرب. وكان الصنهاجيون بأفريقية أيضاً إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم، فإنما يعطونهم المال أحمالاً والكساء تخوتاً مملوءةً، والحملان جنائب عديدة.
وفي تأريخ ابن الرقيق من ذلك أخبار كثيرة. وكذلك كان عطاء البرامكة وجوائزهم ونفقاتهم، وكانوا إذا كسبوا معدماً فإنما هو الولاية والنعمة آخر الدهر لا العطاء الذي يستنفده يوم أو بعض يوم. وأخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة وهي كلها على نسبة الدول جارية. هذا جوهر الصقلي الكاتب قائد جيش العبيديين لما ارتحل إلى فتح مصر استعد من القيروان بألف حمل من المال. ولا تنتهي اليوم دولة إلى مثل هذا.
موارد بيت المال ببغداد أيام المأمون:
وكذلك وجد بخط أحمد بن محمد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيام المأمون من جميع النواحي، نقلته من جراب

الدولة:(غلات السواد) سبع وعشرون ألف ألف درهم مرتين، وثمانمائة ألف درهم، ومن الحلل النجرانية مائتا حلةٍ ومن طين الختم مائتان وأربعون رطلاً. (كنكر) أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وستمائة ألف درهم (كور دجلة) عشرون ألف ألف درهم وثمانمائة درهم.(حلوان) أربعة آلاف ألف درهم مرتين، وثمانمائة ألف درهم.(الأهواز) خمسة وعشرون ألف درهم مرة، ومن السكر ثلاثون ألف رطل.(فارس) سبعة وعشرون ألف ألف درهم، ومن ماء الورد ثلاثون ألف قارورة، ومن الزيت الأسود عشرون ألف رطل.(كرمان) أربعة آلاف ألف درهم مرتين ومائتا ألف درهم، ومن المتاع اليمانى خمسمائة ثوب، ومن التمر عشرون ألف رطل.(مكران) أربعمائة ألف درهم مرة.(السند وما يليه) أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وخمسمائة ألف درهم، ومن العود الهندي مائة وخمسون رطلاً. (سجستان) أربعة آلاف ألف درهمٍ مرتين، ومن الثياب المعينة ثلاثمائة ثوب ومن الفانيد عشرون رطلً. (خراسان) ثمانية وعشرون ألف ألف درهم مرتين، ومن نقر الفضة ألفا نقرة، و البراذين أربعة آلاف، ومن الرقيق ألف رأس، ومن المتاع عشرون ألف ثوب، و الإهليلج ثلاثون ألف رطل.(جرجان) اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين، ومن الإبريسم ألف شقةٍ.(قومس) ألف ألف درهم مرتين وخمسمائة ألف من نقر الفضة.(طبرستان والروبان ونهاوند) ستة آلاف ألف مرتين وثلاثمائة ألف، ومن الفرش الطبري ستمائة قطعة، ومن الأكسية مائتان، ومن الثياب خمسمائة ثوب، ومن المناديل ثلاثمائة، ومن الجامات ثلاثمائة.(الري) اثنا عشر

ألف ألف درهم مرتين، ومن العسل عشرون ألف رطل.(همذان) أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وثلاثمائة ألف، ومن رب الرمان ألف رطل ومن العسل اثناً عشر ألف رطل.(ما بين البصرة والكوفة) عشرة آلاف ألف درهم مرتين وسبعمائة ألف درهم. (ماسبذان والدينار) أربعة آلاف ألف درهم مرتين.(شهرزور) ستة آلاف ألف درهم مرتين وسبعمائة ألف درهم.(الموصل وما إليها) أربعة وعشرون ألف ألف درهم مرتين، ومن العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطلٍ.(أذربيجان) أربعة آلاف ألف درهم مرتين.(الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات) أربعة وثلاثون ألف ألف درهم مرتين، ومن الرقيق ألف راس، ومن العسل اثنا عشر ألف زقً، ومن البزاة عشرة، ومن الأكسية عشرون.(أرمينية) ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين ومن القسط المحفور عشرون، ومن الزقم خمسمائة وثلاثون رطلاً، ومن المسايج السورماهي عشرة آلاف رطلٍ، ومن الصونج عشرة آلاف رطلٍ، ومن البغال مائتان ومن المهرة ثلاثون.(قنسرين) أربعمائة ألف دينار، ومن الزيت ألف حمل.(دمشق) أربعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار.(الأردن) سبعة وتسعون ألف دينار.(فلسطين) ثلاثمائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار، ومن الزيت ثلاثمائة ألف رطلٍ. (مصر) ألف ألف دينار وتسعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار.(برقة) ألف ألف درهم مرتين.(أفريقية) ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين، ومن البسط مائة وعشرون.(اليمن) ثلاثمائة ألف دينار وسبعون ألف دينار سوى المتاع.(الحجاز) ثلاثمائة ألف دينار. انتهى.
وأما الأندلس فالذي ذكره الثقات من مؤرخيها أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكررة ثلاث مرات، يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار.

ورأيت في بعض تواريخ الرشيد أن المحمول إلى بيت المال في أيامه سبعة آلاف قنطار وخمسمائة قنطار في كل سنةٍ.فاعتبر ذلك في نسب الدول بعضها من بعض، ولا تنكرن ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله، فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات. فكثير من الخواص إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدول السالفة بادر بالإنكار؛ وليس ذلك من الصواب؛ فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة، ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها. ونحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العباس وبني أمية والعبيديين، وناسبنا الصحيح من ذلك والذي لا شك فيه بالذي نشاهده من هذه الدول التي هي أقل با لنسبةإليها وجدنا بينها بوناً؛ وهو لما بينها من التفاوت في أصل قوتها وعمران ممالكها؛ فالآثار كفها جارية على نسبة الأصل في القوة كما قدمناه؛ ولا يسعنا إنكار ذلك عنها؛ إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشهرة والوضوح، بل فيها ما يلحق بالمستفيض والمتواتر، وفيها المعاين والمشاهد من آثار البناء وغيره. فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدول في قوتها أو ضعفها وضخامتها أو صغرها، واعتبر ذلك بما نقضه عليك من هذه الحكاية المستظرفة.
وذلك أنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلب في بلاد العراق واليمن والهند، ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند، وهو السلطان محمد شاه، واتصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه، وكان له منه مكان، واستعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله، ثم انقلب إلى المغرب واتصل بالسلطان أبي عنان، وكان يحدث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض. وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند، ويأتي من

أحواله بما يستغربه السامعون، مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال والنساء والولدان، وفرض لهم رزق ستة أشهرٍتدفع لهم من عطائه، وأنه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد ويطوفون به، وينصب أمامه في ذلك الحفل منجنيقات على الظهر ترمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس، إلى أن يدخل إيوانه؛ وأمثال هذه الحكايات؛ فتناجى الناس بتكذيبه. ولقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت، ففاوضته في هذا الشأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرجل، لما استفاض في الناس من تكذيبه. فقال لي الوزير فارس: إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره، فتكون كابن الوزير الناشىء في السجن. وذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المحبس، فلما أدرك وعقل سأل عن اللحمان الذي كان يتغذى به، فقال أبوه هذا لحم الغنم، فقال وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها؛ فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه، ويقول أين الغنم من الفأر، وكذا في لحم الإبل والبقر؛ إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر فيحسبها كفها أبناء جنس الفأر. وهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عن قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب. فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمنا على نفسه، ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته. فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه. وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق، فإن نطاقه أوسع شيء، فلا يفرض حداً بين الواقعات؛ وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء. فإنا إذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله، وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه؛ {وقل رب زدني علما، وأنت أرحم الراحمين }. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الفصل التاسع عشر
في استظهار صاحب الدولة علي قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين
إعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره كما قلناه بقومه، فهم عصابته وظهراؤه على شأنه، وبهم يقارع الخوارج على دولته، ومنهم من يقلد أعمال مملكته ووزارة دولته، وجباية أمواله لأنهم أعوانه على الغلب، وشركاؤه في الأمر، ومساهموه في سائر مهماته. هذا ما دام الطور الأول للدولة كما قلناه. فإذا جاء الطور الثاني وظهر الاستبداد عنهم، والانفراد بالمجد، ودافعهم عنه بالمراح، صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه، واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم، ويتولاهم دونهم، فيكونون أقرب إليه من سائرهم، وأخص به قرباً واصطناعاً، وأولى إيثاراً وجاهاً، لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم، والرتبة التي ألفوها في مشاركتهم. فيستخلصهم صاحب الدولة حينئذٍ، ويخصهم بمزيد التكرمة والإيثار، ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه ويقلدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وما يختص به لنفسه، وتكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة؛ لأنهم حينئذٍ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون. وذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة وعلامة على المرض المزمن فيها؛ لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها.
ومرض قلوب أهل الدولة حينئذٍ من الامتهان وعداوة السلطان فيضطغنون عليه، ويتربصون به الدوائر، ويعود وبال ذلك على الدولة، ولا يطمع في برئها من

هذا الداء، لأن ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن يذهب رسمها. واعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمر بن سعد بن أبي وقاص، وعبيد الله بن زياد بن أبي سفيان، والحجاج بن يوسف، والمهلب بن أبي صفرة، وخالد بن عبد الله القسري، وابن هبيرة، وموسى بن نصير، وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، ونصر بن سيار، وأمثالهم من رجالات العرب. وكذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضاً برجالات العرب؛ فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التطاول للولايات، وصارت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وبني سهل بن نوبخت وبني طاهر، ثم بني بويه وموالي الترك مثل بغا ووصيف وأتامش وباكناك وابن طولون وأبنائهم، وغير هؤلاء من موالي العجم، فتكون الدولة لغير من مهدها والعز لغير من اجتلبه. سنة الله في عباده، والله تعالى أعلم.
الفصل العشرون
في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول
إعلم أن المصطنعين في الدول يتفاوتون في الالتحام بصاحب الدولة بتفاوت قديمهم وحديثهم في الالتحام بصاحبها. والسبب في ذلك أن المقصود في العصبية من المدافعة والمغالبة إنما يتم بالنسب، لأجل التناصر في ذوي الأرحام والقربى، والتخاذل في الأجانب والبعداء كما قدمناه. والولاية والمخالطة بالرق أو بالحلف تتنزل منزلة ذلك؛ لأن أمر النسب وإن كان طبيعيا فإنما هو وهمي، والمعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالمربى والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة. وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة والتناصر؛ وهذا مشاهد بين الناس. واعتبر مثله في الاصطناع؛ فإنه يحدث بين المصطنع ومن اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة تتنزل هذه المنزلة وتؤكد اللحمة

وإن لم يكن نسب فثمرات النسب موجودة. فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل وبين أوليائهم قبل حصول الملك لهم، كانت عروقها أوشج، وعقائدها أصح، ونسبها أصرح لوجهين: أحدهما أنهم قبل الملك أسوةً في حالهم، فلا يتميز النسب عن الولاية إلا عند الأقل منهم فيتنزلون منهم منزلة ذوي قرابتهم وأهل أرحامهم. وإذا اصطنعوهم بعد الملك كانت مرتبة الملك مميزة للسيد عن المولى، ولأهل القرابة عن أهل الولاية والاصطناع، لما تقتضيه أحوال الرئاسة والملك من تميز الرتب وتفاوتها، فتتميز حالتهم ويتنزلون منزلة الأجانب، ويكون الالتحام بينهم أضعف والتناصر لذلك أبعد، وذلك انقص من الاصطناع، قبل الملك.
الوجه الثاني: أن الاصطناع قبل الملك يبعد عهدة عن أهل الدولة بطول الزمان ويخفي شأن تلك اللحمة، ويظن بها في الأكثر النسب فيقوى حال العصبية. وأما بعد الملك فيقرب العهد ويستوي في معرفته الأكثر، فتتبين اللحمة وتتميز عن النسب، فتضعف العصبية بالنسبة إلى الولاية التي كانت قبل الدولة. واعتبر ذلك في الدول والرئاسات تجده. فكل من كان اصطناعه قبل حصول الرئاسة والملك لمصطنعه تجده أشد التحاماً به، واقرب قرابة إليه، ويتنزل منه منزلة أبنائه وإخوانه وذوي رحمه. ومن كان اصطناعه بعد حصول الملك والرئاسة لمصطنعه لا يكون له من القرابة واللحمة ما للأولين. وهذا مشاهد بالعيان؛ حتى إن الدولة في آخر عمرها ترجع إلى استعمال الأجانب واصطناعهم، ولا يبنى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدولة، لقرب العهد حينئذٍ بأوليتهم ومشارفة الدولة على الانقراض، فيكونون منحطين في مهاوي الضعة.وإنما يحمل صاحب الدولة علي اصطناعهم والعدول إليهم عن أوليائها الأقدمين وصنائعها الأولين، ما يعتر يهمل في أنفسهم من العزة على صاحب الدولة، وقلة الخضوع له، ونظره بما ينظره به قبيله وأهل نسبه، لتأكد اللحمة منذ العصور المتطاولة بالمربى والاتصال بآبائه وسلف قومه، والانتظام مع كبراء أهل بيته

فيحصل لهم بذلك دالة عليه واعتزاز، فينافرهم بسببها صاحب الدولة، ويعدل عنهم إلى استعمال سواهم؛ ويكون عهد استخلاصهم واصطناعهم قريباً، فلا يبلغون رتب المجد، ويبقون على حالهم من الخارجية، وهكذا شأن الدول في أواخرها. وأكثر ما يطلق اسم الصنائع والأولياء على الأولين. وأما هؤلاء المحدثون فخدم وأعوان. والله ولي المؤمنين، وهو على كل شيء وكيل.
الفصل الحادي والعشرون
فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه
إذا استقر الملك في نصاب معين ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة، وانفردوا به ودفعوا سائر القبيل عنه، وتداوله بنوهم واحداً بعد واحدٍ بحسب الترشيح، فربما حدث التغلب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم. وسببه في الأكثر ولاية صبي صغير أو مضعف من أهل المنبت، يترشح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه وخوله، ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك، فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله، ويوري عنه بحفظ أمره عليه حتى يؤنس منه الاستبداد، ويجعل ذلك ذريعة للملك. فيحجب الصبي عن الناس ويعوده اللذات التي يدعوه إليها ترف أحواله، ويسيمه في مراعيها متى أمكنه، وينسيه النظر في الأمور السلطانية، حتى يستبد عليه. وهو بما عوده يعتقد أن حظ السلطان من الملك إنما هو جلوس السرير وإعطاء الصفقة وخطاب التهويل، والقعود مع النساء خلف الحجاب، وان الحل والربط والأمر والنهي، ومباشرة الأحوال الملوكية، وتفقدها من النظر في الجيش والمال والثغور إنما هو للوزير، ويسلم له في ذلك، إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة والاستبداد، ويتحول الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده. كما وقع لبني بويه والترك وكافور الإخشيدي وغيرهم بالمشرق، وللمنصور بن أبي عامر بالأندلس.

وقد يتفطن ذلك المحجورالمغلب لشأنه فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والاستبداد، ويرجع الملك إلى نصابه، ويضرب على أيدي المتغلبين عليه، إما بقتل أو برفع عن الرتبة فقط؛ إلا أن ذلك في النادر الأقل؛ لأن الدولة إذا أخذت في تغلب الوزراء والأولياء استمر لها ذلك، وقل أن تخرج عنه؛لأ ن ذلك إنما يوجد في الأكثر عن أحوال الترف ونشأة أبناء الملك منغمسين في نعيمه، قد نسوا عهد الرجولة وألفوا أخلاق الدايات والاظآر، وربوا عليها، فلا ينزعون إلى رئاسة ولا يعرفون استبداداً من تغلب، إنما همهم في القنوع بالأبهة والتنفس في اللذات وأنواع الترف. وهذا التغلب يكون للموالي والمصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم وانفرادهم به دونهم. وهو عارض للدولة ضروري كما قدمناه. وهذان مرضان لا برء للدولة منهما إلا في الأقل النادر. {والله يؤتي ملكه من يشاء، وهو على كل شيء قدير}.
الفصل الثاني والعشرون
في أن المتغلبين علي السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك
وذلك أن الملك والسلطان حصل لأوليه مذ أول الدولة بعصبية قومه، وعصبيته التي استتبعتهم حتى استحكمت له ولقومه صبغة الملك والغلب؛ وهي لم تزل باقية، وبها انحفظ رسم الدولة وبقاؤها وهذا المتغلب وإن كان صاحب عصبية من قبيل الملك أو الموالي والصنائع فعصبيته مندرجة في عصبية أهل الملك وتابعة لها، وليس له صبغة في الملك. وهو لا يحاول في استبداده انتزاع الملك ظاهراً، وإنما يحاول انتزاع ثمراته من الأمر والنهي، والحل والعقد والإبرام والنقض، يوهم فيها أهل الدولة انه متصرف عن

سلطانه، منفذ في ذلك من وراء الحجاب لأحكامه. فهو يتجافى عن سمات الملك وشاراته وألقابه جهده ويبعد نفسه عن التهمة بذلك وإن حصل له الاستبداد لأنه مستتر في استبداده ذلك بالحجاب الذي ضربه السلطان وأولوه على أنفسهم عن القبيل منذ أول الدولة، ومغالط عنه بالنيابة. ولو تعرض لشيء من ذلك لنفسه عليه أهل العصبية وقبيل الملك، وحاولوا الاستئثار به دونه؛ لأنه لم تستحكم له في ذلك صبغة تحملهم على التسليم له والانقياد؛ فيهلك لأول وهلة. وقد وقع مثل هذا لعبد الرحمن بن الناصر بن المنصور بن أبي عامر، حين سما إلى مشاركة هشام وأهل بيته في لقب الخلافة، و لم يقنع بما قنع به أبوه وأخوه من الاستبداد بالحل والعقد والمراسم المتتابعة. فطلب من هشام خليفته أن يعهد له بالخلافة، فنفس ذلك عليه بنو مروان وسائر قريش؛ وبايعوا لابن عم الخليفة هشام محمد بن عبد الجبار بن الناصر، وخرجوا عليه. وكان في ذلك خراب دولة العامريين وهلاك المؤيد خليفتهم، واستبدل منه سواه من أعياص الدولة إلى آخرها، واختلت مراسم ملكهم. والله خير الوارثين.
الفصل الثالث والعشرون
في حقيقة الملك وأصنافه
الملك منصب طبيعي للإنسان؛ لأنا قد بينا أن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم. وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات، ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه، لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض

ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوة البشرية في ذلك، فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة، وهي تؤدي إلى الهرج وسفك الدماء وإذهاب النفوس، المفضي ذلك إلى انقطاع النوع، وهو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة، فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزع بعضهم عن بعض، واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم. ولا بد في ذلك من العصبية لما قدمناه، من أن المطالبات كلها والمدافعات لا تتم إلا بالعصبية. وهذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجه نحوه المطالبات ويحتاج إلى المدافعات؛ ولا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات كما مر. والعصبيات متفاوتة، وكل عصبيةٍ فلها تحكم وتغلب على من يليها من قومها وعشيرها. وليس الملك لكل عصبيةٍ، وإنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثغور، ولا تكون فوق يده يد قاهرة. وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور. فمن قصرت به عصبيته عن بعضها، مثل حماية الثغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته؛ كما وقع لكثير من ملوك البربر فيم دولة الأغالبة بالقيروان ولملوك العجم صدر الدولة العباسية. ومن قصرت به عصبيته أيضاً عن الاستعلاء على جميع العصبيات، والضرب على سائر الأيدي، وكان فوقه حكم غيره، فهو أيضاً فلك ناقص لم تتم حقيقته؛ وهؤلاء مثل أمراء النواحي ورؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة. وكثيرا ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق، أعني توجد ملوك على قومهم في النواحي القاصية يدينون بطاعة الدولة التي جمعتهم؛ مثل صنهاجة مع العبيديين، وزناتة مع الأمويين تارةً والعبيديين تارةً أخرى؛ ومثل ملوك العجم في دولة بني العباس؛ ومثل أمراء البربر وملوكهم مع الفرنجة قبل الإسلام، ومثل ملوك الطوائف من الفرس مع الإسكندر وقومه اليونانيين، وكثير من هؤلاء. فاعتبره تجده. والله القاهر فوق عباده.

الفصل الرابع والعشرون
في أن إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر
إعلم أن مصلحة الرعية في السلطان ليست في ذاته وجسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو اتساع عمله أو جودة خطه أو ثقوب ذهنه، وإنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم؛ فإن الملك والسلطان من الأمور الإضافية، وهي نسبة بين منتسبين. فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم، فالسلطان من له رعية والرعية من لها سلطان؛ والصفة التي له من حيث إضافته لهم هي التي تسمى الملكة وهي كونه يملكهم فإذا كانت هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السلطان على أتم الوجوه؛ فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم؛ وإن كانت سيئةً متعسفة كان ذلك ضرراً عليهم وإهلاكاً لهم.ويعود حسن الملكة إلى الرفق. فإن الملك إذا كان قاهراً، باطشاً بالعقوبات، منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم؛ وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما اجمعوا على لمحتله لذلك فتفسد الدولة ويخرب السياج، وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبية لما قلناه أولاً، وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية. وإذا كان رفيقاً بهم متجاوزاً عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه، فاستقام الأمر من كل جانب.أما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم والمدافعة عنهم فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك؛ وأما النعمة عليهم والإحسان لهم فمن جملة الرفق بهم، والنظر لهم في معاشهم، وهي أصل كبير في التحبب إلى الرعية. واعلم أنه

قلما تكون ملكه الرفق فيمن يكون يقظاً شديد الذكاء من الناس؛ وأكثر ما يوجد الرفق في الغفل والمتغفل. وأقل ما يكون في اليقظ لأنه يكلف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم واطلاعه على عواقب أمور في مباديها بألمعيته فيهلكون. لذلك قال  : <<سيروا على سير أضعفكم >>. ومن هذا الباب اشترط الشارع في الحاكم قلة الإفراط في الذكاء؛ ومأخذه من قصة زياد بن أبي سفيان لما عزله عمر عن العراق، وقال: “لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ ألعجزٍ أم لخيانة؟ “؛ فقال عمر: “لم أعزلك لواحدة منهما؛ ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس “. فأخذ من هذا أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء والكيس مثل زياد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، لما يتبع ذلك من التعسف وسوء الملكة، وحمل الوجود على ما ليس في طبعه، كما يأتي في آخر هذا الكتاب. والله خير المالكين.وتقرر من هذا أن الكيس والذكاء عيب في صاحب السياسة، لأنه إفراط في الفكر،كما أن البلادة إفراط في الجمود. والطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية، والمحمود هو التوسط: كما في الكرم مع التبذير والبخل؛ وكما في الشجاعة مع الهوج والجبن؛ وغير ذلك من الصفات الإنسانية. ولهذا يوصف الشديد الكيس بصفات الشيطان، فيقال شيطان ومتشيطن وأمثال ذلك. والله يخلق ما يشاء، وهو العليم القدير.
الفصل الخامس والعشرون
في معني الخلافة والإمامة
لا كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية، كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم، لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته، ويختلف ذلك باختلاف

المقاصد من الخلف والسلف منهم؛ فتعسر طاعته لذلك، وتجيء العصبية المفضية إلى الهرج والقتل. فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم. وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها، ولا يتم استيلاؤها: “سنة الله في الذين خلوا من قبل “.فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية؛ وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط، فإنها كلها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء؛ والله يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]؛ فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم. {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 53]. فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة؛ حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني، فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطاً بنظر الشارع 0 فما كان منه بمقتضى القهر والتغلب وإهمال القوة العصبية في مرعاها فجور وعدوان ومذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السياسية. وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضاً، لأنه نظر بغير نور الله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم، وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم، من ملك أو غيره؛ قال : <<إنما هي أعمالكم ترد عليكم >> وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط. {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7]؛ ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم. وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء.فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة، وأن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضي

النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. فافهم ذلك واعتبر فيما نورده عليك، من بعد والله الحكيم العليم.
الفصل السادس والعشرون
في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه
وإذ قد بينا حقيقة هذا المنصب، وانه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به، تسمى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإماما. فأما تسميته إماما فتشبيها بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به؛ ولهذا يقال: الإمامة الكبرى. وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبى في أمته، فيقال: خليفة بإطلاق، وخليفة رسول الله. واختلف في تسميته خليفة الله. فأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامة التي للآدميين في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأ رضِْ خَلِيفَةً} البقرة: 30] وقوله: {جَعَلَكُمْ خلائِفَ الأ رْضِ} [الأنعام: 165]. ومنع الجمهور منها لأن معنى الآية ليس عليه؛ وقد نهى أبو بكر عنه لما دعي به، وقال: “لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله  “؛ولأ ن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب، وأما الحاضر فلا.ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛لأ ن أصحاب رسول الله  عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم. وكذا في كل عصرٍ من بعد ذلك. ولم تترك الناس فوضى في عصرٍ من الأعصار. واستقر ذلك

إجماعا دالاً على وجوب نصب الإمام. وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل، وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه؛ قالوا وإنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين، ومن ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض. فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم؛ مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية. وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظة الحكماء في وجوب النبؤات في البشر. وقد نبهنا على فساده، وأن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بشرع من الله تسلم له الكافة تسليم إيمان واعتقاد وهو غير مسلم؛ لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة ولو لم يكن شرع، كما في أمم المجوس وغيرهم ممن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدعوة؛ أو نقول يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل. فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك، ونصب الإمام هنا غير صحيح؛ بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة أو بامتناع الناس عن التنازع والتظالم؛ فلا ينهض دليلهم العقلي المبني على هذه المقدمة. فدل على أن مدرك وجوبه إنما هو بالشرع وهو الإجماع الذي قدمنا.وقد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا النصب رأساً لا بالعقل ولا بالشرع؛ منهم الأصم من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم؛ والواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء أحكام الشرع؛ فإذا تواطأت الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه. وهؤلاء محجوجون بالإجماع. والذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدنيا، لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك، والنعي على أهله، ومرغبة في رفضه.واعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته ولا حظر القيام به، وإنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهم والظلم والتمتع باللذات؛ ولا شك أن في هذه مفاسد محظورة

وهي من توابعه؛ كما أثنى على العدل والنصفة وإقامة مراسم الدين والذب عنه، وأوجب بإزائها الثواب وهي كلها من توابع الفلك. فإذا إنما وقع الذم للملك على صفة وحال دون حال أخرى، ولم يذمه لذاته، ولا طلب تركه؛ كما ذم الشهوة والغضب من المكلفين، وليس مراده تركهما بالكلية لدعاية الضرورة إليها، وأما المراد تصريفهما على مقتضى الحق.وقد كان لداود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما الملك الذي لم يكن لغيرهما، وهما من أنبياء الله تعالى وأكرم الخلق عنده. ثم نقول لهم إن هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب هذا النصب لا يغنيكم شيئاً، لأنكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشريعة، وذلك لا يحصل إلا بالعصبية والشوكة، والعصبية مقتضية بطبعها للفلك، فيحصل الملك وإن لم ينصب إمام، وهو عين ما قررتم عنه وإذا تقرر أن هذا النصب واجب بإجماع، فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل العقد والحل، فيتعين عليهم نصبه، ويجب على الخلق جميعا طاعته، لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].وأما شروط هذا المنصب فهي أربعه: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء؛ مما يؤثر في الرأي والعمل. واختلف في شرط خامس وهو النسب القرشى.فأما اشتراط العلم فظاهر؛ لأنه إنما يكون منفذاً لأحكام الله تعالى إذا كان عالماً بها، وما لم يعلمها لا يصخ تقديمه لها. ولا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهداً،لأ ن التقليد نقص؛ والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال.وأما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها، فكان أولى باشتراطها فيه. ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها. وفي انتفائها بالبدع الاعتقادية خلاف.

وأما الكفاية فهو أن يكون جريئاً على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيراً بها، كفيلاً بحمل الناس عليها، عارفاً بالعصبية وأحوال الدهاء، قوياً على معاناة السياسة؛ ليصح له بذلك ما جعل إليه من حماية الدين، وجهاد العدو، وإقامة الأحكام، وتدبير المصالح.وأما سلامة الحواس والأعضاء من النقص والعطلة كالجنون والعمى والصمم والخرس، وما يؤثر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين والرجلين والأنثيين فتشترط السلامة منها كلها، لتأثير ذلك في تمام عمله وقيامه بما جعل إليه. وإن كان إنما يشين في المنظر فقط؛ كفقد إحدى هذه الأعضاء، فشرط السلامة منه شرط كمال. ويلحق بفقدان الأعضاء المنع من التصرف. وهو ضربان: ضرب يلحق بهذه في اشتراط السلامة منه شرط وجوب وهو القهر والعجز عن التصرف جملة بالأسر وشبهه؛ وضرب لا يلحق بهذه وهو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان ولا مشاقة، فينتقل النظر في حال هذا المستولي، فإن جرى على حكم الدين والعدل وحميد السياسة جاز قراره، وإلا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك ويدفع علته، حتى ينفذ فعل الخليفة. وأما النسب القرشي فلإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك، واحتجت قريش على الأنصار لما هموا يومئذ ببيعة سعد بن عبادة وقالوا: “منا أمير ومنكم أمير” بقوله : <<الأئمة من قريش>> وبأن النبي  أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن مسيئكم، ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصية بكم؛ فحجوا الأنصار، ورجعوا عن قولهم: “منا أمير ومنكم أمير”، وعدلوا عما كانوا هموا به من بيعة سعد لذلك. وثبت أيضاً في الصحيح: “لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش ” وأمثال هذه الأدلة كثيرة.
إلا أنه لما ضعف أمر قريش وتلاشت

عصبيتهم بما نالهم من الترف والنعيم، وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة، وتغلبت عليهم الأعاجم وصار الحل والعقد لهم، فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتي ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية وعولوا على ظواهر في ذلك، مثل قوله : <<اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي ذو زبيبة>>، وهذا لا تقوم به حجة في ذلك، فإنه خرج مخرج التمثيل والغرض للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة؛ ومثل قول عمر “لو كان سالم مولى حذيفة حياً لوليته ” أو”لما دخلتني فيه الظنة”، وهو أيضاً لا يفيد ذلك لما علمت أن مذهب الصحابي ليس بحجة، وأيضاً فمولى القوم منهم، وعصبية الولاء حاصلة لسالم في قريش، وهي الفائدة في اشتراط النسب. ولما استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنها مفقودة في ظنه، عدل إلى سالم لتوفر شروط الخلافة عنده فيه، حتى من النسب المفيد للعصبية كما نذكر، ولم يبق إلا صراحة النسب فرآه غير محتاج إليه، إذ الفائدة في النسب إنما هي العصبية وهي حاصلة من الولاء. فكان ذلك حرصاً0 من عمر رضي الله عنه على النظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة ولا عليه فيه عهدة.ومن القائلين بنفي اشتراط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني، لما أدرك عليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم على الخلفاء، فأسقط شرط القرشية، وإن كان موافقاً لرأي الخوارج، لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده. وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحة الإمامة للقرشي، ولو كان عاجزاً عن القيام بأمور المسلمين. ورد عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره؛ لأنه إذا ذهبت الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية؛ وإذا وقع الإخلال بشرط الكافاية تطرق ذلك أيضاً إلى العلم والدين، وسقط اعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الإجماع.ولنتكلم الآن في حكمة اشتراط النسب ليتحقق به الصواب في هذه المذاهب

فنقول: إن الأحكام الشرعية كلها لا بد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها، وتشرع لأجلها. ونحن إذا بحثناً عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه، لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي  كما هو في المشهور، وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلا؛ لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت، فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيتها. وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة وأهلها، وينتظم حبل الألفة فيها. وذلك أن قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم، وكان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة والعصبية والشرف. فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ويستكينون لغلبهم. فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم، وعدم انقيادهم؛ ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر ان يردهم عن الخلاف، ولا يحملهم على الكرة، فتفترق الجماعة وتختلف الكلمة. والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم، ورفع التنازع والشتات بينهم، لتحصل اللحمة والعصبية وتحسن الحماية. بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش، لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم، فلا يخشى من أحد خلاف عليهم ولا فرقة؛ لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع الناس منها. فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب، وهم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة؛ وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر اجمع، فأذعن لهم سائر العرب، وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة، ووطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات، واستمر بعدها في الدولتين إلى أن اضمحل أمر الخلافة.، وتلاشت عصبية العرب. ويعلم ما كان لقريش من الكثرة والتغلب على بطون مضر، من مارس أخبار العرب وسيرهم وتفطن لذلك في أحوالهم. وقد ذكر ذلك ابن إسحق في كتاب السير وغيره. فإذا ثبت أن اشتراط

القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب، وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة، علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها، وطردنا العفة المشتملة على المقصود من القرشية وهي وجود العصبية، فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها، ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية. ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية، إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة، وعصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة. وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا؛ لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم، وهو مخاطب يذلك، ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه. ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب في شأن النساء وأنهن في كثير من الأحكام الشرعية جعلن تبعا للرجال ولم يدخلن في الخطاب بالوضع وإنما دخلن عنده بالقياس، وذلك لما لم يكن لهن من الأمر شيء وكان الرجال قوامين عليهن، اللهم إلا في العبادات التي كل أحد فيها قائم على نفسه، فخطابهن فيها بالوضع لا بالقياس. ثم إن الوجود شاهد بذلك؛ فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم. وقل أن يكون الأمر الشرعي مخالفاً لأمر الوجودي. والله تعالى أعلم.

الفصل السابع والعشرون
في مذاهب الشيعة في حكم الإمامة
إعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والاتباع، ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على اتباع علي وبنيه رضي الله عنهم. ومذهبهم جميعاً متفقين عليه أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر، وإن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة.
وتنقسم هذه النصوص عندهم إلى جلي وخفي: فالجلي مثل قوله: “من كنت مولاه فعلي مولاه “. قالوا: ولم تطرد هذه الولاية إلا في علي، ولهذا قال له عمر: “أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة”. ومنها قوله: “أقضاكم علي”، 0ولا معنى للإمامة إلا القضاء بأحكام الله وهو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله: {أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، والمراد الحكم والقضاء. ولهذا كان حكماً

في قضية الإمامة يوم السقيفة دون غيره. ومنها قوله: “من يبايعني على روحه وهو وصي وولي هذا الأمر من بعدي “، فلم يبايعه إلا علي.
ومن الخفي عندهم بعث النبي  عليا لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت؛ فإنه بعث بها أولاً أبا بكر ثم أوحي إليه ليبلغه رجل منك أو من قومك، فبعث علياً ليكون القارىء المبلغ. قالوا: وهذا يدل على تقديم علي. وأيضاً فلم يعرف أنه قدم أحداً علي علي. وأما أبو بكر وعمر فقدم عليهما في غزاتين، أسامة بن زيد مرة وعمرو بن العاص أخرى. وهذه كلها أدلة شاهدة بتعين علي للخلافة دون غيره. فمنها ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد عن تأويلهم.ثم منهم من يرى أن هذه النصوص تدل على تعيين علي وتشخيصه، وكذلك تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإمامية، ويتبرأون من الشيخين حيث لم يقدموا علياً ويبايعوه بمقتضى هذه النصوص، ويغمصون في إمامتهما. ولا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم.ومنهم من يقول: إن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخص، والناس مقصرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه، وهؤلاء هم الزيدية، ولا يتبرأون من الشيخين ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأن علياً أفضل منهما، لكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل.
ثم اختلفت نقول هؤلاء الشيعة في مساق الخلافة بعد علي: فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنص عليهم واحداً بعد واحدٍ على ما يذكر بعد؛ وهؤلاء يسمون الإمامية نسبة إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام وتعيينه في الإيمان، وهي أصل عندهم؛ ومنهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشيوخ؛ ويشترط أن يكون الإمام منهم عالماً زاهداً جواداًشجاعاً داعياً إلى إمامته؛ وهؤلاء هم

الزيدية نسبة إلى صاحب المذهب، وهو زيد بن علي بن الحسين السبط، وقد كان يناظر أخاه محمدا الباقر على اشتراط الخروج في الإمام، فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين إماما لأنه لم يخرج ولا تعرض للخروج. وكان مع ذلك ينعى عليه مذاهب المعتزلة وأخذه إياها عن واصل بن عطاء. ولما ناظر الإمامية زيداً في إمامة الشيخين ورأوه يقول بإمامتهما ولا يتبرأ منهما رفضوه ولم يجعلوه من الأئمة، وبذلك سموا رافضة. ومنهم من ساقها بعد علي وابنيه السبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمد بن الحنفية، ثم إلى ولده، وهم الكيسانية نسبة إلى كيسان مولاه. وبين هذه الطوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصاراً.ومنهم طوائف يسمون الغلاة تجاوزوا حد العقل والإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة. إما على أنهم بشر اتصفوا بصفات الألوهية؛ أو أن الإله حل في ذاته البشرية، وهو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى في عيسى صلوات الله عليه. ولقد حرق علي رضي الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم، وسخط محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه، فصرح بلعنته والبراءة منه، وكذلك فعل جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه. ومنهم من يقول: إن كمال الإمام لا يكون لغيره، فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر ليكون فيه ذلك الكمال؛ وهو قول بالتناسخ.ومن هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد من الأئمة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعين لذلك عندهم، وهؤلاء هم الواقفية. فبعضهم يقول هو حي لم يمت إلا انه غائب عن أعين الناس، ويستشهدون لذلك بقصة الخضر، قيل مثل ذلك في علي رضي الله عنه وإنه في السحاب، والرعد

صوته، والبرق في صوته. وقالوا مثله في محمد بن الحنفية وإنه في جبل رضوى من أرض الحجاز، وقال شاعرهم:
# ألا إن الأئمة من قريــــــش ولاة الحق أربعة ســــــواء
# علي والثلاثة من بنيـــــــــه هم الأسباط ليس بهم خفـاء
# فسبط سبط إيمان وبـــــــــر وسبط غيبته كر بـــــــــلاء
# وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الجيش يقدمه اللــواء
# تغيب لا يرى فيهم زمــــاناً بر ضوى عنده عسل وماء
وقال مثله غلاة الإمامية، وخصوصا الاثني عشرية منهم يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم، وهو محمد بن الحسن العسكري ويلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم في الحلة وتغيب حين اعتقل مع أمه وغاب هنالك، وهو يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً؛ يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي؛ وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمونه المنتظر لذلك، ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب، وقد قوموا مركبا فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج، حتى تشتبك النجوم، ثم ينفضون ويرجئون الأمر إلى الليلة الآتية وهم علي ذلك لهذا العهد وبعض هؤلاء الواقفية يقول: إن الإمام الذي مات يرجع إلى حياته الدنيا. ويستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصة أهل الكهف، والذي مر على قرية، وقتيل بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة التي أمروا بذبحها. ومثل ذلك من الخوارق التي وقعت على طريق المعجزة، ولا يصح الاستشهاد بها في غير مواضعها. وكان من هؤلاء السيد الحميري، ومن شعره في ذلك:
# إذا ما المرء شاب له قذال وعلله المواشط بالخضـــــاب
# فقد ذهبت بشاشته وأودى فقم يا صاح نبك على الشباب

# إلى يوم تتوب الناس فيه إلى دنيا هم قبل الحســـــــــاب
# فليس بعائد ما فات منــه إلى أحد إلى يوم الإيـــــــــــاب
# أدين بأن ذلك دين حـــق وما أنا في النشور بذي ارتياب
# كذاك الله أخبر عن أناس حيوا من بعد درس في التـراب
وقد كفانا مؤونة هؤلاء الغلاة أئمة الشيعة، فإنهم لا يقولون بها ويبطلون احتجاجاتهم عليها.وأما الكيسانية فساقوا الإمامة من بعد محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم، وهؤلاء هم الهاشمية. ثم افترقوا فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه علي ثم إلى ابنه الحسن بن علي. وآخرون يزعمون أن أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأوصى محمد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالإمام، وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله بن الحارثية الملقب بالسفاح،وأوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقب بالمنصور، وانتقلت في ولده بالنص والعهد واحدا بعد واحد إلى آخرهم. وهذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بني العباس. وكان منهم أبو مسلم وسليمان بن كثير، وأبو سلمة الخلال وغيرهم من شيعة العباسية. وربما يعضدون ذلك بان حقهم في هذا الأمر يصل إليهم من العباس لأنه كان حياً وقت الوفاة، وهو أولى بالوراثة بعصبية العمومة.وأما الزيدية فساقوا الإمامة على مذهبهم فيها وأنها باختيار أهل الحل والعقد لا بالنص. فقالوا بإمامة علي، ثم ابنه الحسن، ثم أخيه الحسين، ثم ابنه علي زين العابدين، ثم ابنه زيد بن علي وهو صاحب هذا المذهب. وخرج بالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل وصلب بالكناسة. وقال الزيدية بإمامة ابنه يحيى من بعده، فمضى إلى خراسان وقتل بالجوزجان، بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السبط، ويقال له النفس الزكية، فخرج بالحجاز وتلقب بالمهدي وجاءته عساكر المنصور فقتل، وعهد إلى أخيه إبراهيم، فقام بالبصرة ومعه عيسى بن زيد بن علي، فوجه إليهم المنصور عساكره فهزم، وقتل إبراهيم وعيسى؛ وكان جعفر الصادق

أخبرهم بذلك كله، وهي معدودة في كراماته.وذهب آخرون منهم إلى أن الإمام بعد محمد بن عبد الله النفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر، وعمر هو أخو زيد بن علي، فخرج محمد بن القاسم بالطالقان، فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه ومات في حبسه. وقال آخرون من الزيدية: إن الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع المنصور، ونقلوا الإمامة في عقبه، وإليه انتسب دعي الزنج كما نذكره في أخبارهم.وقال آخرون من الزيدية: إن الإمام بعد محمد بن عبد الله أخوه إدريس الذي فر إلى المغرب ومات هنالك، وقام بأمره ابنه إدريس واختط مدينة فاس، وكان من بعده عقبه ملوكا بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم.وبقي أمر الزيدية بعد ذلك غير منتظم. وكان منهم الداعي الذي ملك طبرستان،وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين السبط؛ وأخوه محمد بن زيد. ثم قام بهذه الدعوة في الديلم الناصر الأطروش منهم، وأسلموا على يده، وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر، وعمر أخو زيد بن علي، فكانت لبنيه بطبرستان دولة، وتوصل الديلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم.وأما الإمامية فساقوا الإمامة من علي الرضى إلى ابنه الحسن بالوصية، ثم إلى أخيه الحسين، ثم إلى ابنه علي زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصادق. ومن هنا افترقوا فرقتين: فرقة ساقوها إلى ولده إسماعيل ويعرفونه بينهم بالإمام وهم الإسماعيلية؛ وفرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم وهم الاثنا عشرية لوقوفهم عند الثاني عشر من الأئمة وقولهم بغيبته إلى آخر الزمان كما مر فأما الإسماعيلية فقالوا بإمامة إسماعيل الإمام بالنص من أبيه جعفر. وفائدة النص عليه عندهم، وإن كان قد مات قبل أبيه إنما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصة هارون مع موسى صلوات الله عليهما. قالوا: ثم انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم، وهو أول الأئمة

المستورين؛ لأن الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر وتكون دعاته ظاهرين إقامة للحجة على الخلق، وإذا كانت له شوكة ظهر وأظهر دعوته. قالوا وبعد محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق وبعده ابنه محمد الحبيب وهو آخر المستورين؛ وبعده ابنه عبد الله المهدي الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في كتامة، وتتابع الناس على دعوته، ثم أخرجه من معتقله بسجلماسة، وملك القيروان والمغرب وملك بنوه من بعده مصر كما هو معروف في أخبارهم.ويسمى هؤلاء الإسماعيلية، نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل، ويسمون أيضاً بالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور، ويسمون أيضاً الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد. ولهم مقالات قديمة ومقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمد الصباح في آخر المائة الخامسة، وملك حصوناً بالشام والعراق، ولم تزل دعوته فيها إلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك بمصر، وملوك التتر بالعراق فانقرضت. ومقالة هذا الصباح في دعوته مذكورة في كتاب “الملل والنحل ” للشهرستاني.وأما الاثنا عشرية خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم، فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر، فنص على إمامة موسى هذا، ثم ابنه عليٍّ الرضا الذي عهد إليه المأمون ومات قبله فلم يتم له أمر، ثم ابنه محمد التقي، ثم ابنه علي الهادي، ثم ابنه محمد الحسن العسكري، ثم ابنه محمد المهدي المنتظر الذي قدمناه قبل.وفي كل واحدة من هذه المقالات للشيعة اختلاف كثير؛ إلا أن هذه أشهر مذاهبهم، ومن أراد استيعابها ومطالعتها فعليه بكتاب “الملل والنحل ” لابن حزم والشهرستاني وغيرهما، ففيها بيان ذلك. والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وهو العلي الكبير.

الفصل الثامن والعشرون
في انقلاب الخلافة إلي الملك
إعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية، ليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل، وان الشرائع والديانات وكل أمر يحل عليه الجمهور فلا بد فيه من العصبية، إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه؛ فالعصبية ضرورية للملة وبوجودها يتم أمر الله منها. وفي الصحيح: <<ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه >>. ثم وجدنا الشارع قد ذم العصبية وندب إلى اطراحها وتركها فقال: <<إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، انتم بنو آدم وآدم من تراب >>، وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. ووجدناه أيضاً قد ذم الملك وأهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق، والإسراف في غير القصد والتنكب عن صراط الله. وإنما حض على الإلفة في الدين وحذر من الخلاف والفرقة.وأعلم أن الدنيا كلها وأحوالها عند الشارع مطية للآخرة، ومن فقد المطية فقد الوصول. وليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله، وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية؛ إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة، حتى تصير المقاصد كلها حقا وتتحد الوجهة؛ كما قال : <<من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه>>. فلم يذم الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان، فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق وبطل الجهاد وإعلاء كلمة الله؛ وإنما يذم الغضب

للشيطان ولأغراض الذميمة؛ فإذا كان الغضب لذلك كان مذموماً وإذا كان الغضب في الله ولله كان ممدوحاً؛ وهو من شمائله .وكذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكلية؛ فإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه؛ وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح؛ ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية، وكذا العصبية حيث ذمها الشارع، وقال: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ولا أَوَلادُكُمْ} [الممتحنة: 3] فإنما مراده حيث تكون العصبية على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهلية، وأن يكون لأحد فخر بها أو حق على أحد، لان ذلك مجان من أفعال العقلاء وغير نافع في الآخرة التي هي دار القرار. فأما إذا كانت العصبية في الحق وإقامة أمر الله فأمر مطلوب، ولو بطل لبطلت الشرائع إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل. وكذا الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق وقهر الكافة على الدين، ومراعاة المصالح؛ وإنما ذمه لما فيه من التغلب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات كما قلناه. فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس انه لله ولحملهم على عبادة الله وجهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً.وقد قال سليمان صلوات الله عليه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [صلى الله عليه وسلم: 35]؛ لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك.ولما لقي معاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة استنكر ذلك وقال: “أكسروية يا معاوية؟ “؛ فقال: “يا أمير المؤمنين إنا في ثغر تجاه العدو وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة”؛ فسكت ولم يخطئه في انقلاب الخلافة إلى الملك ارتكاب الباطل والظلم والبغي وسلوك سبله والغفلة عن الله؛ وأجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس وباطلهم، وإنما قصده بها وجه الله

فسكت. وهكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك وأحواله ونسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل.فلما استحضر رسول الله  استخلف أبا بكر على الصلاة، إذ هي أهم أمور الدين وارتضاه الناس للخلافة وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة؛ ولم يجر للملك ذكر، لما انه مظنة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدين. فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبه، وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام.ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره، وقاتل الأمم فغلبهم، وأذن للعرب في انتزاع ما بأيديهم من الدنيا والملك فغلبوهم عليه، وانتزعوه منهم. ثم صارت إلى عثمان بن عفان؛ ثم إلى علي رضي الله عنهما؛ والكل متبرئون من الملك متنكبون على طرقه. وأكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب، فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا وترفها، لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم، ولا من حيث بداوتهم ومواطنهم، وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الذي ألفوه.فلم تكن أمة من الأمم أشغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع، وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن؛ فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها. ولقد كانوا كثيرا ما يأكلون العقارب والخنافس، ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم ويطبخونه. وقريباً من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم.حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد ، زحفوا إلى أمم فارس والروم، وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق. فابتزوا ملكهم واستباحوا دنياهم، فزخرت بحار الرفه لديهم، حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها. فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر. وهم مع ذلك على خشونة عيشهم، فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد، وكان علي يقول:

“يا صفراء ويا بيضاء غري غيري “. وكان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقفتها يومئذ. وكانت المناخل مفقودة عندهم بالجملة؛ وإنما كانوا يأكلون الحنطة بنخالها. ومكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم.قال المسعودي: في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال، فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف إبلا وخيلا كثيرة. وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخفف ألف فرس وألف أمة. وكان غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة اكثر من ذلك. وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس، وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً. وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار. وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية. وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج. وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات. وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار وعقاراً وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم 1هـ. كلام المسعودي.فكانت مكاسب القوم كما تراه، ولم يكن ذلك منعياً عليهم في دينهم، إذ هي أموال لأنها غنائم وفيوء، ولم يكن تصرفهم فيها بإسراف، إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه؛ فلم يكن ذلك بقادح فيهم، وإن كان الاستكثار من الدنيا مذموما فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد. وإذا كان حالهم قصداً ونفقاتهم في سبل الحق ومذاهبه كان ذلك الاستكثارعوناً لهم على طرق الحق واكتساب

الدار الآخرة. فلما تدرجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها، وجاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه، وحصل التغلب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه والاستكثار من الأموال؛ فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق.ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد، كما قد يتوهمه متوهم وينزع إليه ملحد. وإنما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه. وإن كان المصيب عليا فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل؛ إنما قصد الحق وأخطأ. والكل كانوا في مقاصدهم على حق.ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد، واستئثار الواحد به. ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها، واستشعرته بنو أمية، ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحق من اتباعهم فاعصوصبوا عليه، واستماتوا دونه. ولم حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة. وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر: “لو كان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة”. ولو أراد أن يعهد إليه لفعل؛ ولكنه كان يخشى من بني أمية أهل الحل والعقد لما ذكرناه؛ فلا يقدران يحول الأمر عنهم، لئلا تقع الفرقة. وهذا كله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية. فالملك إذا حصل وفرضنا أن الواحد انفرد به وصرفه في مذاهب الحق ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه. ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك فيهم من الانفراد به، وكانوا ما علمت من النبؤة والحق. وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى

غيره اختلفوا عليه؛ مع أن ظنهم كان به صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره؛ فلم يكن ليعهد إليه، وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشا لله لمعاوية من ذلك.وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكاً فلم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي، إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هواهم لديهم من كل مقصد. يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع والاقتداء، وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم. فقد احتج مالك في الموطإ بعمل عبد الملك.وأما مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعين، وعدالتهم معروفة. ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك، وكانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه. وتوسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصحابة جهده، ولم يهمل. ثم جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها واعتماد الحق في مذاهبها. فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدعوة العباسية منهم. وولي رجائها الأمر فكانوا من العدالة بمكان، وصرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا؛ حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح والطالح. ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والترف حقه، وانغمسوا في الدنيا وباطلها، ونبذوا الدين وراءهم ظهرياً، فتأذن الله بحربهم، وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة، وأمكن سواهم منه. والله لا يظلم مثقال ذرة.ومن تأمل سير هؤلاء الخلفاء والملوك واختلافهم في تحري الحق من الباطل علم صحة ما قلناه. وقد حكى المسعودي مثله في أحوال بني أمية عن أبي جعفر المنصور، وقد حضر عمومته وذكروا بني أمية فقال: “أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع؛ وأما سليمان فكان همه بطنه وفرجه؛ وأما عمر فكان أعور بين عميان؛ وكان رجل القوم هشام “. قال: ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه ويصونون ما وهب الله لهم منه، مع

تسنمهم معالي الأمور، ورفضهم دنياتها، حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين، فكانت همتهم قصد الشهوات، وركوب اللذات من معاصى الله جهلاً باستدراجه وأمناً لمكره، مع اطراحهم صيانة الخلافة، واستخفافهم بحق الرئاسة وضعفهم عن السياسة، فسلبهم الله العز وألبسهم الذل، ونفى عنهم النعمة”. ثم استحضر عبد الله بن مروان فقص عليه خبره مع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح. قال: “أقمت مليا ثم أتاني ملكهم فاقعد على الأرض وقد بسطت له فرش ذات قيمة، فقلت له ما منعك من القعود على ثيابنا؛ فقال: إني ملك وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله. ثم قال: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؛ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم قال: فلم تطؤون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم؛ قلت: فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم قال: فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير وهو محرم عليكم في كتابكم؟ قلت: ذهب منا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا. فأطرق ينكت بيده في الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا! ثم رفع رأسه إلي وقال: “ليس كما ذكرت! بل انتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم،وأتيتم ما عنه نهيتم؛ وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بذنوبكم. ولله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم. وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وانتم ببلدي فينالني معكم. وإنما الضيافة ثلاث. فتزود ما احتجت إليه وارتحل عن ارضي “. فتعجب المنصور وأطرق.فقد تبين لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك، وان الأمر كان في أوله خلافة،ووازع كل أحد فيها من نفسه وهو الدين، وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة. فهذا عثمان لما حصر في الدار جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون

المدافعة عنه، فأبى ومنع من سل السيوف بين المسلمين مخافة الفرقة وحفظاً للإلفة التي بها حفظ الكلمة، ولو أدى إلى هلاكه. وهذا علي أشار عليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته، وتتفق الكلمة، وله بعد ذلك ما شاء من أمره، وكان ذلك من سياسة الملك فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام. وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال: لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق والنصيحة، وان الحق فيما رأيته أنت، فقال علي: لا والله، بل اعلم انك نصحتني بالأمس وغششتني اليوم. ولكن منعني مما أشرت به زائد الحق. وهكذا كانت أحوالهم في اصطلاح دينهم بفساد دنياهم ونحن:
# نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبية وسيفاً. وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك، والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده. ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها، وصار الأمر ملكاً بحتاً، وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها، واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ. وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك، ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس، واسم الخلافة باقياً فيهم لبقاء عصبية العرب. والخلافة والملك في الطورين فلتبس بعضها ببعض. ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم، وبقي الأمر ملكاً بحتاً كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق، يدينون بطاعة الخليفة تبركاً، والملك جميع ألقابه ومناحيه لهم، وليس للخليفة منه شيء. وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين، ومغراوة وبني يفرن أيضاً مع خلفاء بني امية بالأندلس، والعبيديين بالقيروان. فقد تبين أن الخلافة قد

وجدت بدون الملك أولاً، ثم التبست معانيهما واختلطت، ثم انفرد الملك، حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة. والله مقدر الليل والنهار، وهو الواحد القهار.
الفصل التاسع والعشرون
في معني البيعة
إعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة؛ كان المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد؛ فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري؛ فسمي بيعة؛ مصدر باع؛ وصارت البيعة مصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع؛ وهو المراد في الحديث في بيعة النبي  ليلة العقبة وعند الشجرة، وحيثما ورد هذا اللفظ، ومنه بيعة الخلفاء. ومنه أيمان البيعة. كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك، فسمي هذا الاستيعاب أيمان البيعة؛ وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب. ولهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه، ورأوها قادحة في أيمان البيعة، ووقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه.وأما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل، أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كان هذا الخضوع في التحية، والتزام الآداب، من لوازم الطاعة وتوابعها؛ وغلب فيه حتى صارت حقيقة عرفية واستغني بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصل، لما في المصافحة لكل أحد من التنزل والابتذال المنافيين للرياسة، وصون المنصب الملوكي؛ إلا في الأقل

ممن يقصد التواضع من الملوك، فيأخذ به نفسه مع خواصه ومشاهير أهل الدين من رعيته. فافهم معنى البيعة في العرف؛ فإنه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حق سلطانه وإمامه، ولا تكون أفعاله عبثاً ومجاناً، واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك. والله القوي العزيز.
الفصل الثلاثون
في ولاية العهد
إعلم أنا قدمنا الكلام في الإمامة ومشروعيتها لما فيها من المصلحة، وأن حقيقتها للنظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم؛ فهو وليهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته، ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته، وبقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها، ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل. وقد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة علم جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله لعمر بمحضر من الصحابة وأجازوه وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم.وكذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة: بقية العشرة، وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوض بعضهم إلى بعض، حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان وعلى علي، فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إياه على لزوم الاقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده، فانعقد أمر عثمان لذلك وأوجبوا طاعته. والملأ من الصحابة حاضرون للأولى والثانية، ولم ينكره أحد منهم. فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته.
والإجماع حجة كما عرف.ولا يتهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون على النظر لهم في حياته، فأولى أن لا يحتمل شيها تبعة بعد مماته

خلافاً لمن قال باتهامه في الولد والوالد، أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد، فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله، لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه، من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفي الظنة عند ذلك رأساً، كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد، وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب. والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذ، لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم. فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع.
وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك.وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه؛ فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق؛ فإنهم كلهم أجل من ذلك، وعدالتهم مانعة منه. وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحاً كان أو محظوراً، كما هو معروف عنه. ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير، وندور المخالف معروف. ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس، وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين، والنظر لهم، ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم، وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك؛ فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك، وكان الوازع دينياً، فعند كل أحد وازع من نفسه، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره، ووكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه، وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك

والوازع الديني قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني. فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف. سأل رجل علياً رضي الله عنه: ما بال المسلمين اختلفوا عليك، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر، فقال: لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي وأنا اليوم والٍ على مثلك، يشير إلى وازع الدين. أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك، ونقضوا بيعته وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي، وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده، فلا بد من اعتبار ذلك في العهد، فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من أمور والقبائل والعصبيات، وتختلف باختلاف المصالح ولكل واحد منها حكم يخضه، لطفاً من الله بعباده.وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية؛إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده، ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً من العبث بالمناصب الدينية. والملك لله يؤتيه من يشاء.وعرض هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها.
فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته. فإياك أن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد؛ فإنه اعدل من ذلك وأفضل؛ بل كان يعذله أيام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه، وهو أقل من ذلك، وكانت مذاهبهم فيه مختلفة. ولما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه. فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من اجل ذلك، كما فعل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ومن اتبعهما في ذلك؛ ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به؛ لأن شوكة يزيد يومئذ هي

عصابة بني أمية وجمهور أهل الحل والعقد من قريش،وتستتبع عصبية مضر أجمع، وهي أعظم من كل شوكة، ولا تطاق مقاومتهم؛ فأ قصروا عن يزيد بسبب ذلك، وأقاموا على الدعاء بهدايته والراحة منه؛ وهذا كان شأن جمهور المسلمين. والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين، فمقاصدهم في البر وتحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم.
والأمر الثاني هو شأن العهد من النبي  وما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي رضي
الله عنه. وهو أمر لم يصح ولا نقله أحد من أئمة النقل. والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وأن عمر منع من ذلك فدليل واضح على انه لم يقع، وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في العهد فقال: إن أعهد لقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي  لم يعهد. وكذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي يسألانه عن شأنهما في العهد، فأبى علي من ذلك وقال: إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدهر؛ وهذا دليل على أن علياً علم انه لم يوص ولا عهد إلى أحدٍ. وشبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون، وليس كذلك؛ وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق. ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة، ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة، ولكان يشتهر كما اشتهر أمر الصلاة.واحتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهم ارتضاه رسول الله  لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، دليل على أن الوصية لم تقع. ويدل ذلك أيضاًعلى أن أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهما كما هو اليوم، وشأن العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار؛ لأن أمر الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه، واستماتة الناس دونه؛ وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور

الملائكة لنصرهم، وتردد خبر السماء بينهم، وتجدد خطاب الله في كل حادثة تتلى عليهم. فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد والإذعان، وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهية الواقعة؛ والملائكة المترددة التي وجموا منها، ودهشوا من تتابعها. فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبية، وسائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك القبيل، كما وقع. فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات، ثم بفناء القرون الذين شاهدوها، فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان. فاعتبر أمر العصبية ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد، وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهما من المهمات الأكيدة كما زعموا، ولم يكن ذلك من قبل.فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي  غير مهمة، فلم يعهد فيها. ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشيء بما دعت الضرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن الردة والفتوحات، فكانوا بالخيار في الفعل والترك كما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه. ثم صارت اليوم من أهم الأمورللإ لفة على الحماية، والقيام بالمصالح؛ فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة والتخاذل، ومنشأ الاجتماع والتوافق، الكفيل بمقاصد الشريعة وأحكامها.
والأمر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين. فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة، والمجتهدون إذا اختلفوا: فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين، ومن لم يصادفه فهو مخطئ، فإن جهته لا تتعين بإجماع، فيبقى الكل على احتمال الإصابة، ولا تتعين المخطئ منها، والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً؛ وإن قلنا إن الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب، فأحرى بنفي الخطإ والتأثيم. وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين انه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية. وهذا حكمة. والذي وقع من ذلك في الإسلام إنما هو

واقعة علي مع معاوية ومع الزبير وعائشة وطلحة، وواقعة الحسين مع يزيد، وواقعة ابن الزبير مع عبد الملك:فأما واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في أمصار، فلم يشهدوا بيعة علي. والذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس ويتفقوا على إمام كسعدٍ وسعيدٍ، وابن عمر، وأسامة بن زيد، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن سلام، وقدامة بن مظعون، وأبي سعيدٍ الخدري، وكعب بن عجرة، وكعب بن مالك، والنعمان بن بشير، وحسان بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصحابة. والذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى، حتى يكون شورى بين المسلمين لمن يولونه. وظنوا بعلي هوادة في السكوت عن نصر عثمان من قاتليه، لا في الممالأة عليه، فحاش لله من ذلك.
ولقد كان معاوية إذا صرح بملامته إنما يوجهها عليه في سكوته فقط. ثم اختلفوا بعد ذلك، فرأى علي أن بيعته قد انعقدت، ولزمت من تأخر عنها، باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة: دار النبي  وموطن الصحابة، وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع الناس واتفاق الكلمة، فيتمكن حينئذ من ذلك. ورأى الآخرون أن بيعته لم تنعقد لافتراق الصحابة أهل الحل والعقد بالآفاق، ولم يحضر إلا قليل ولا تكون البيعة إلا باتفاق أهل الحل والعقد، ولا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم، وأن المسلمين حينئذ فوضى، فيطالبون أولاً بدم عثمان ثم يجتمعون على إمام. وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص وأم المؤمنين عائشة والزبير وابنه عبد الله، وطلحة وابنه محمد، وسعد وسعيد، والنعمان بن بشير ومعاوية بن خديج، ومن كان على رأيهم من الصحابة الذين تخففوا عن بيعة علي بالمدينة كما ذكرنا. إلا أن أهل العصر الثاني من بعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة علي ولزومها للمسلمين أجمعين، وتصويب رأيه فيما ذهب إليه، وتعين الخطإ من جهة معاوية ومن كان على رأيه، وخصوصاً طلحة والزبير

لانتقاضهما على علي بعد البيعة له فيما نقل، مع دفع التأثيم عن كل من الفريقين، كالشأن في المجتهدين. وصار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول، كما هو معروف.
ولقد سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفين، فقال: “والذي نفسي بيده لا يموتن أحد من هؤلاء وقلبه نقي إلا دخل الجنة” يشير إلى الفريقين؛ نقله الطبري وغيره. فلا يقعن عندك ريب في عدالة أحد منهم ولا قدح في شيء من ذلك، فهم من علمت ؛ وأقوالهم وأفعالهم إنما هي عن المستندات، وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السنة، إلا قولا للمعتزلة فيمن قاتل علياً لم يلتفت إليه أحد من أهل الحق ولا عرج عليه. وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان، واختلاف الصحابة من بعد، وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة، بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم وملكهم أرضهم وديارهم، ونزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة والكوفة والشام ومصر. وكان أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي، ولا هذبتهم سيرته وآدابه ولا ارتاضوا بخلقه، مع ما كان فيهم في الجاهلية من الجفاء والعصبية والتفاخر والبعد عن سكينة الإيمان. وإذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب السابقين الأولين إلى الإيمان، فاستنكفوا من ذلك وغصوا به، لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم، ومصادمة فارس والروم مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة والأزد من اليمن وتميم، وقيس من مضر. فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم، والتمريض في طاعتهم، والتعلل في ذلك بالتظلم منهم والاستعداء عليهم، والطعن فيهم بالعجز عن السوية، والعدل في القسم عن التسوية، وفشت المقالة بذلك، وانتهت إلى المدينة، وهم من علمت. فأعظموه وابلغوه عثمان، فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر.

بعث ابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئاً ولا رأوا عليهم طعناً، وأدوا ذلك كما علموه. فلم ينقطع الطعن من أهل الأمصار. وما زالت الشناعات تنمو. ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر، وشهد عليه جماعة منهم وحده عثمان وعزله. ثم جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمال، وشكوا إلى عائشة وعلي والزبير وطلحة، وعزل لهم عثمان بعض العمال. فلم تنقطع بذلك ألسنتهم؛ بل وفد سعيد بن العاص وهو على الكوفة، فلما رجع اعترضوه بالطريق وردوه معزولاً. ثم انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصحابة بالمدينة ونقموا عليه امتناعه عن العزل، فأبى إلا أن يكون على جرحة. ثم نقلوا النكير إلى غير ذلك من أفعاله وهو متمسك بالاجتهاد، وهم أيضاً كذلك. ثم تجمع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينة يظهرون طلب النصفة من عثمان وهم يضمرون خلاف ذلك من قتله. وفيهم من البصرة والكوفة ومصر. وقام معهم في ذلك علي وعائشة والزبير وطلحة وغيرهم، يحاولون تسكين الأمور ورجوع عثمان إلى رأيهم. وعزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلاً. ثم رجعوا وقد لبسوا بكتاب مدلس يزعمون انهم لقوه في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم، وحلف عثمان على ذلك؛ فقالوا: مكنا من مروان فإنه كاتبك، فحلف مروان؛ فقال عثمان ليس في الحكم أكثر من هذا. فحاصروه بداره ثم بيتوه على حين غفلة من الناس وقتلوه، وانفتح باب الفتنة.فلكل من هؤلاء عذر فيما وقع وكلهم كانوا مهتمين باع مر الدين ولا يضيعون شيئاً من تعلقاته.
ثم نظروا بعد هذا الواقع واجتهدوا. والله مطلع على أحوالهم وعالم بهم. ونحن لا نظن بهم إلا خيراً لما شهدت به أحوالهم، ومقالات الصادق فيهم.
مقتل الحسين بن علي:
وأما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره، بعثت شيعة أهل
البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره. فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك، وظنها من، نفسه بأهليته

وشوكته. فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة. وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها؛لأن عصبية مضر كانت في قريش عصبية قريش في عبد مناف، وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس، ولا ينكرونه وإنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق، وأمر الوحي وتردد الملائكة لنصرة المسلمين. فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبية الجاهلية ومنازعها ونسيت، ولم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع ينتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين، والدين فيها محكم والعادة معزولة. حتى إذا انقطع أمر النبؤة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد؛ فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت، وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل.فقد تبين لك غلط الحسين؛ إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه. وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك. ولقد عذله ابن العباس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفية أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة، وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عما هو بسبيله لما أراده الله.
وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق ومن التابعين لهم، فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدماء فاقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين، ولا أنكروا عليه، ولا أثموه، لأنه مجتهد وهو أسوةً المجتهدين.ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره؛فانهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه، وكان الحسين يستشهد بهم وهو يقاتل بكربلاء على فضله وحقه، ويقول: سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأنس بن مالك، وسهل بن سعيد، وزيد بن أرقم وأمثالهم. ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرض لذلك، لعلمه أنه عن اجتهاد منهم كما كان فعله عن اجتهاد منه. وكذلك لا يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لما كان عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد، ويكون ذلك كما يحد الشافعي والمالكي والحنفي على شرب النبيذ. واعلم أن الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن

اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم؛ وإنما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه. ولا تقولن إن يزيد وإن كان فاسقاً ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة. واعلم انه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً. وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل، وهو مفقود في مسألتنا؛ فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد، بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه؛ والحسين فيها شهيد مثاب، وهو على حق واجتهاد، والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضاً واجتهاد.وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم ما معناه :
أن الحسين قتل بشرع جده؛ وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل؛ ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء وأما ابن الزبير فإنه رأى في قيامه ما رآه الحسين وظن كما ظن، وغلطه في أمر الشوكة أعظم؛ لأن بني أسد لا يقاومون بني أمية في جاهلية ولا إسلام. والقول بتعين الخطإ في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع علي لا سبيل إليه، لان الإجماع هنالك قضى لنا به ولم نجده هاهنا. وأما يزيد فعين خطاه فسقه. وعبد الملك صاحب ابن الزبير اعظم الناس عدالة، وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله وعدول ابن عباس وابن عمر إلى بيعته عن ابن الزبير وهم معه بالحجاز؛ مع أن الكثير من الصحابة كانوا يرون أن بيعة ابن الزبير لم تنعقد، لأنه لم يحضرها أهل العقد والحل كبيعة مروان؛ وابن الزبير على خلاف ذلك؛ والكل مجتهدون محمولون على الحق في الظاهر؛ وإن لم يتعين في جهة منهما. والقتل الذي نزل به بعد تقرير ما قررناه يجيء على قواعد الفقه وقوانينه؛ مع أنه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحريه الحق. هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة والتابعين، فهم خيار الأمة، وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص

بالعدالة، والنبي  يقول: <<خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاثاً ثم يفشو الكذب >>، فجعل الخيرة، وهي العدالة مختصة بالقرن الأول والذي يليه. فإياك أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم، ولا تشوش قلبك بالريب في شيء مما وقع منهم؛ والتمس لهم مذاهب الحق وطرقه ما استطعت فهم أولى الناس بذلك؛ وما اختلفوا إلا عن بينة، وما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق، واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة، ليقتدي كل واحدٍ بمن يختاره منهم، ويجعله إمامه وهاديه ودليله. فافهم ذلك؛ وتبين حكمة الله في خلقه وأكوانه، واعلم انه على كل شيء قدير وإليه الملجأ والمصير. والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والثلاثون
في الخطط الدينية الخلافية
لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا، فصاحب الشرع متصرف في الأمرين: أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها؛ وأما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري. وقد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر وأن رعاية مصالحه كذلك، لئلا يفسد إن أهملت؛ وقدمنا أن الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح.
نعم إنما تكون اكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح

فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلامياً ويكون من توابعها. وقد ينفرد إذا كان في غير الملة. وله على كل حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعين خططاً وتتوزع على رجال الدولة وظائف، فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عالية عليهم، فيتم بذلك أمره، ويحسن قيامه بسلطانه. وأما المنصب الخلافي وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الديني يختص بخطط ومراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين. فلنذكر الآن الخطط الدينية المختصة بالخلافة، ونرجع إلى الخطط الملوكية السلطانية.
فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام المشرع فيها على العموم.
فأما (إمامة الصلاة) فهي ارفع هذه الخطط كلها وارفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. ولقد يشهد لذلك استدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على استخلافه في السياسة في قولهم: ارتضاه رسول الله  لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؛ فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس. وإذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان: مساجد عظيمة كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة، وأخرى دونها مختصة بقوم أو محفة وليست للصلوات العامة. فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو وزير أو قاض، فينضب لها الإمام في الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء. وتعين ذلك إنما هو من طريق الأولى

والاستحسان ولئلا يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامة. وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة، فيكون نصب الإمام لها عنده واجباً. وأما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان. وأحكام هذه الولاية وشروطها والمولى فيها معروفة في كتب الفقه ومبسوطة في كتب الأحكام السلطانية للماوردي وغيره، فلا نطول بذكرها. ولقد كان الخلفاء الأولون لا يقلدونها لغيرهم من الناس. وانظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الآذان بالصلاة وترصدهم لذلك في أوقاتها، يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها وانهم لم يكونوا يستخلفون فيها. وكذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم استئثاراً بها واستعظاماً لرتبتها.
يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه: قد جعلت لك حجابة بأبي إلا عن ثلاثة: صاحب الطعام فإنه يفسد بالتأخير؛ والآذن بالصلاة فإنه داع إلى الله؛ والبريد فإن في تأخيره فساد القاصية. فلما جاءت طبيعة الملك وعوارضه من الغلظة والترفع عن مساواة الناس في دينهم ودنياهم، استنابوا في الصلاة، فكانوا يستأثرون بها في الأحيان، وفي الصلوات العامة كالعيدين والجمعة إشادة وتنويها. فعل ذلك كثير من خلفاء بني العباس والعبيديين، صدر دولتهم.
وأما “الفتيا” فللخليفة، تصفح أهل العلم والتدريس، ورد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك، ومنع من ليس أهلا لها وزجره؛ لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم، فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس. وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه والجلوس لذلك في المساجد. فإن كانت من المساجد العظام، التي للسلطان الولاية عليها أو النظر في أئمتها كما مر، فلا بد من استئذانه في ذلك، وإن كان من مساجد العامة، فلا يتوقف ذلك على إذن. على انه ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين والمدرسين زاجر من نفسه يمنعه عن

التصدي لما ليس له بأهل فيضل به المستهدي ويضل به المسترشد. وفي الأثر: “أجرأكم على الفتيا أجرأكم على جراثيم جهنم “. فللسطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو رد.
وأما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للتنازع؛ إلا انه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة؛ فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجاً في عمومها. وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم. وأول من دفعه إلى غيره وفوضه فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء منه بالمدينة، وولى شريحاً بالبصرة وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة. وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه.يقول: أما بعد:
” فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. ولا يمنعك قضاء قضيته أمس، فراجعت اليوم فيه عملك، وهديت فيه لرشدك؛ أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنةٍ. ثم اعرف الأمثال والأشباه؛ وقس الأمور بنظائرها. واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن احضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحللت القضية عليه، فإن ذلك انفى للشك واجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه

شهادة زور، أو ظنيناً في نسب أو ولاء؛ فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان، ودرأ بالبينات. وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم؛ فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر وبحسن به الذكر والسلام “.
انتهى كتاب عمر.وإنما كانوا يقلدون القضاء لغيرهم وإن كان مما يتعلق بهم، لقيامهم بالسياسة العامة وكثرة أشغالها، من الجهاد والفتوحات وسد الثغور وحماية البيضة، ولم يكن ذلك مما يقوم به غيرهم لعظم العناية. فاستحقوا القضاء في الواقعات بين الناس، واستخلفوا فيه من يقوم به تخفيفاً على أنفسهم. وكانوا مع ذلك إنما يقلدونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء ولا يقلدونه لمن بعد عنهم في ذلك.وأما أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه، وخصوصاً كتب الأحكام السلطانية. إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط؛ ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسياسة الكبرى. واستقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه، والنظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والأمناء والنواب، واستيفاء العلم والخبرة فيهم، بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلها من تعلقات وظيفته وتوابع ولايته.وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم، وهي وظيفة ممتزجة، من سطوة السلطنة ونصفة القضاء. وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المعتدي وكأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه. ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد الأمارات

والقرائن، وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق، وحمل الخصمين على الصلح، واستحلاف الشهود؛ وذلك أوسع من نظر القاضي.
وكان الخلفاء الأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس،وربما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولاني، وكما فعله المأمون ليحيى بن أكثر، والمعتصم لأحمد بن أبي داود. وربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف. وكان يحيى بن أكثر يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم، وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس. فكانت تولية هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب.وكان أيضاً النظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية بالأندلس، والعبيديين بمصر والمغرب، راجعاً إلى صاحب الشرطة؛ وهي وظيفة أخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول، توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاً، فيجعل للتهمة في الحكم مجالاً ويفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم، ويقيم الحدود الثابتة في محالها، ويحكم في القود والقصاص، ويقيم التعزير والتأديب في حق من لم ينته عن الجريمة.
ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدول التي تنوسي فيها أمر الخلافة؛ فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان، كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن. وانقسمت وظيفة الشرطة قسمين: منها وظيفة التهمة على الجرائم، وإقامة حدودها، ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعين؛ ونصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية، ويسمى تارةً باسم الوالي، وتارةً باسم الشرطة. وبقي قسم التعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً، فجمع

ذلك للقاضي مع ما تقدم وصار ذلك من توابع وظيفته وولايته. واستقر الأمر لهذا العهد على ذلك. وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبية الدولة. لان الأمر لما كان خلافة دينية، وهذه الخطة من مراسم الذين فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب مواليهم بالحلف أو بالرق أو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه. ولما انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كله ملكاً أو سلطاناً صارت هذه الخطط الدينية بعيدة عنه بعض الشيء، لأنها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه، ثم خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم الترك والبربر، فازدادت هذه الخطط الخلافية بعداً عنهم بمنحاها وعصبيتها. وذلك أن العرب كانوا يرونه أن الشريعة دينهم، وان النبي  منهم، وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم، وغيرهم لا يرون ذلك، إنما يولونها جانباً من التعظيم لما دانوا بالملة فقط. فصاروا يقلدونها من غير عصابتهم ممن كان تأهل لها في دول الخلفاء السالفة.
وكان أولئك المتأهلون لما أخذهم ترث الدول منذ مئين من السنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها، والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم، وقلة الممانعة عن أنفسهم، وصارت هذه الخطط في الدول الملوكية من بعد الخلفاء مختصة بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار، ونزل أهلها عن مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة، فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف والدعة، البعداء عن عصبية الملك الذين هم عيال على الحامية، وصار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة وأخذها بأحكام الشريعة، لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. ولم يكن إيثارهم في الدولة حينئذ إكراماً لذواتهم، وإنما هو لما يتلمح من التجمل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية، ولم يكن لهم فيها من الحل والعقد شيء، وإن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحل والعقد إنما هي لأهل القدرة عليه

فمن لا قدرة له عليه فلا حلً له ولا عقد لديه. اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم، وتلقي الفتاوى منهم فنعم. والله الموفق. وربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراء ذلك، وان فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء والقضاة من الشورى مرجوح، وقد قال : <<العلماء ورثة الأنبياء>>. فاعلم أن ذلك ليس كما ظنه. وحكم الملك والسلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلا كان بعيداً عن السياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك، لأن الشورى والحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حلً أو عقدٍ أو فعلٍ أو ترك، وأما من لا عصبية له ولا يملك من أمر نفسه شيئاً ولا من حمايتها، وإنما هو عيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في الاستفتاء خاصة. وأما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها. وإنما إكرامهم من تبرعات الملوك والأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين وتعظيم من ينتسب إليه بأي جهة انتسب. وأما قوله: <<العلماء ورثة الأنبياء>>، فاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتف به إنما حملوا الشريعة أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات وكيفية القضاء في المعاملات، ينصونها على من يحتاج إلى العمل بها؛ هذه غاية أكابرهم ولا يتصفون إلا بالأقل منها، وفي بعض الأحوال. والسلف رضوان الله عليهم وأهل الدين والورع من المسلمين حملوا الشريعة اتصافاً بها وتحققاً بمذاهبها. فمن حملها اتصافاً وتحققاً دون نقل فهو من الوارثين، مثل أهل رسالة القشيري.ومن اجتمع له الأمران فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة، مثل فقهاء التابعين والسلف والأئمة الأربعة ومن اقتفى طريقهم، وجاء على أثرهم. وإذا انفرد واحد من الأئمة بأحد الأمرين فالعابد أحق بالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد؛ لأن العابد ورث بصفة والفقيه الذي ليس بعابد لم يرث

شيئاً، إنما هو صاحب أقوال ينصها علينا في كيفيات العمل؛ وهؤلاء أكثر فقهاء عصرنا، {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}.[سورة…الآية…] وقليل ما هم .
العدالة:
وهي وظيفة دينية تابعة للقضاء ومن مواد تصريفه. وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن
إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم وعليهم،تحملاً عند الإشهاد وأداءً عند التنازع، وكتباً في السجلات تحفظ به حقوق الناس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم. وشرط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية والبراءة من الجرح، ثم القيام بكتب السجلات والعقود من جهة عبارتها وانتظام فصولها، ومن جهة إحكام شروطها الشرعية وعقودها؛ فيحتاج حينئذٍ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه. ولأجل هذه الشروط وما يحتاج إليه من المران على ذلك والممارسة له اختص ذلك ببعض العدول، وصار الصنف القائمون به كأنهم مختصون بالعدالة، وليس كذلك، وإنما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة.ويجب على القاضي تصفح أحوالهم والكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم، وأن لا يهمل ذلك لما يتعين عليه من حفظ حقوق الناس، فالعهدة عليه في ذلك كله، وهو ضامن دركه. وإذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة عفت الفائدة في تعيين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتساع الأمصار واشتباه الأحوال، واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة، فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذا الصنف. ولهم في سائر الأمصار دكاكين ومصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد وتقييده بالكتاب.وصار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذه الوظيفة التي تبين مدلولها وبين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح. وقد يتواردان ويفترقان. والله تعالى اعلم.
الحسبة والسكة:
أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين؛ يعين لذلك من يراه أهلاً له، فيتعين فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزز ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة: مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة؛ والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين. ولا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك، ويرفع إليه. وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقاً؛ بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها، وفي المكاييل والموازين، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف، وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة، ولا إنفاذ حكم.وكأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها، فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها. فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء. وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر والمغرب والأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره. ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاما في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية.
وأما السكة فهي النظر في النقود المتعامل بها بين الناس، وحفظها مما يداخلها من الغش أو النقص إن كان يتعامل بها عدداً أو ما يتعلق بذلك ويوصل إليه من جميع الاعتبارات، ثم في وضع علامة السلطان على تلك النقود بالاستجادة والخلوص برسم تلك العلامة فيها من خاتم حديد اتخذ لذلك، ونقش فيه نقوش خاصة به، فيوضع على الدينار بعد أن يقدر ويضرب عليه بالمطرقة حتى ترسم فيه تلك النقوش، وتكون علامة على جودته بحسب الغاية التي وقف عندها السبك والتخليص في متعارف أهل القطر ومذاهب الدولة الحاكمة، فإن السبك والتخليص

في النقود لا يقف عند غاية، وإنما ترجع غايته إلى الاجتهاد؛ فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التخليص وقفوا عندها وسموها إماماً وعياراً يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته، فإن نقص عن ذلك كان زيفاً.والنظر في ذلك كله لصاحب هذه الوظيفة. وهي دينية بهذا الاعتبار، فتندرج تحت الخلافة. وقد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي، ثم أفردت لهذا العهد كما وقع في الحسبة.
هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافية، وبقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه وأخرى صارت سلطانية: فوظيفة الإمارة والوزارة والحرب والخراج صارت سلطانية، نتكلم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد؛ ووظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلا في قليل من الدول يمارسونه ويدرجون أحكامه غالباً في السلطانيات.وكذا نقابة الأنساب التي يتوصل بها إلى الخلافة أو الحق في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة ورسومها. وبالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسياسة في سائر الدول لهذا العهد. والله مصرف الأمور كيف يشاء.
الفصل الثاني والثلاثون
في اللقب بأمير المؤمنين وأنه من سمات الخلافة
وهو محدث منذ عهد الخلفاء
وذلك أنه لما بويع أبو بكر رضي الله عنه، كان الصحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمون خليفة رسول الله ، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك. فلما بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله . وكأنهم استثقلوا هذا اللقب بكثرته وطول إضافته وانه يتزايد فيما بعد دائماً إلى أن ينتهي إلى الهجنة، ويذهب منه التمييز بتعدد الإضافات وكثرتها، فلا يعرف. فكانوا يعدلون عن هذا اللقب إلى ما سواه مما يناسبه ويدعى به مثله

وكانوا يسمون قواد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة. وقد كان الجاهلية يدعون النبي أمير مكة وأمير الحجاز؛ وكان الصحابة أيضاً يدعون سعد بن أبي وقاص أمير المؤمنين لإمارته على جيش القادسية، وهم معظم المسلمين يومئذ.واتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين، فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به.
يقال: إن أول من دعاه بذلك عبد الله بن جحش؛ وقيل: عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة؛ وقيل: بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين، وسمعها أصحابه فاستحسنوه، وقالوا أصبت والله اسمه، إنه والله أمير المؤمنين حقاً، فدعوه بذلك، وذهب لقباً له في الناس. وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم سائر دولة بني أمية. ثم إن الشيعة خصوا عليا باسم الإمام نعتاً له بالإمامة التي هي أخت الخلافة، وتعريضاً بمذهبهم في أنه أحق بإمامة الصلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم، فخصوه بهذا اللقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده؛ فكانوا كلهم يسمون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخفاء، حتى إذا يستولون على الدولة يحولون اللقب فيمن بعده إلى أمير المؤمنين، كما فعله شيعة بني العباس، فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم بالإمام إلى إبراهيم الذي جهروا بالدعاء له، وعقدوا الرايات للحرب على أمره، فلما هلك دعي أخوه السفاح بأمير المؤمنين.
وكذا الرافضة بأفريقيا فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم من ولد إسماعيل بالإمام، حتى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهدي وكانوا أيضاً يدعونه بالإمام، ولابنه أبي القاسم من بعده. فلما استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين. وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس بالإمام، وابنه إدريس الاصغر كذلك، وهكذا شأنهم.وتوارث الخلفاء هذا اللقب بأمير المؤمنين، وجعلوه سمة لمن يملك

الحجاز والشام والعراق: المواطن التي هي ديار العرب، ومراكز الدولة وأهل الملة والفتح. وازداد كذلك في عنفوان الدولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميز بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم، فاستحدث ذلك بنو العباس، حجاباً، لأسمائهم الأعلام، عن امتهانها في ألسنة السوقة وصوناً لها عن الابتذال، فتلقبوا بالسفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد إلى آخر الدولة. واقتفى أثرهم في ذلك العبيديون بأفريقية ومصر، وتجافى بنو أمية عن ذلك في المشرق قبلهم من الغضاضة والسذاجة، أن العروبية ومنازعها لم تفارقهم حينئذٍ ولم يتحول عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة. وأما بالأندلس فتلقبوا كسلفهم مع ما علموه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة، والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية، وانهم إنما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العباس. حتى إذا جاء عبد الرحمن (الداخل) الآخر منهم (وهو الناصر بن محمد ابن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط) لأول المائة الرابعة، واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسمل، ذهب عبد الرحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وأفريقية، وتسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالناصر لدين الله، وأخذت من بعده عادة ومذهبا لقن عنه، ولم يكن لآبائه وسلف قومه.واستمر الحال على ذلك إلى ان انقرضت عصبية العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلب الموالى من العجم على بني العباس، والصنائع على العبيديين بالقاهرة، وصنهاجة على أمراء أفريقية، وزناتة على المغرب، وملوك الطوائف بالأندلس على أمر بني أمية، واقتسموه، وافترق أمر الإسلام، فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسموا جميعاً باسم السلطان.
فأما ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصونهم بألقاب تشريفية حتى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم، مثل شرف الدولة وعضد الدولة

وركن الدولة ومعز الدولة ونصير الدولة ونظام الملك وبهاء الدولة وذخيرة الملك وأمثال هذه ، وكان العبيديون أيضاً يخصون بها أمراء صنهاجة. فلما استبدوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدباً معها، وعدولاً عن سمتها المختصة بها، شأن المتغلبين المستبدين كما قلناه قبل.ونزع المتأخرون أعاجم المشرق، حين قوي استبدادهم على الملك، وعلا كعبهم في الدولة والسلطان، وتلاشت عصبية الخلافة واضمحلت بالجملة، إلى انتحال الألقاب الخاصة بالملك، مثل الناصر والمنصور زيادة على ألقاب يختصون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدين فقط، فيقولون: صلاح الدين، أسد الدين، نور الدين.وأما ملوك الطوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزعوها لقوة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيتها، فتلقبوا بالناصر والمنصور والمعتمد والمظفر وأمثالها، كما قال ابن أبي شرف ينعى عليهم:
# مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتمد فيها ومعتــضـــــــــد
# ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
وأما صنهاجة فاقتصروا على الألقاب التي كان الخلفاء العبيديون يلقبون بها للتنويه: مثل نصير الدولة، ومعز الدولة. واتصل لهم ذلك لما أدالوا من دعوة العبيديين بدعوة العباسيين. ثم بعدت الشقة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها، فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السلطان. وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئاً من هذه الألقاب إلا اسم السلطان جرياً على مذاهب البداوة والغضاضة. ولما محي رسم الخلافة وتعطل دستها، وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين، وكان من أهل الخير والاقتداء، نزعت به همته إلى الدخول في طاعة الخليفة تكميلاً لمراسم دينه

فخاطب المستظهر العباسي وأوفد عليه ببيعته عبد الله بن العربي وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيلية يطلبان توليته إياه على المغرب وتقليده ذلك، فانقلبوا إليه بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيهم في لبوسه ورتبته، وخاطبه فيه بأمير المؤمنين تشريفا له واختصاصاً فاتخذها لقباً. ويقال: إنه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل، أدباً مع رتبة الخلافة، لما كان عليه. هو وقومه المرابطون من انتحال الدين واتباع السنة.وجاء المهدي على أثرهم داعياً إلى الحق آخذاً بمذاهب الأشعرية ناعياً على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السلف في ترك التأويل لظواهر الشريعة، وما يؤول إليه ذلك من التجسيم، كما هو معروف من مذهب الأشعرية. وسمى أتباعه الموحدين تعريضاً بذلك النكير. وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وانه لا بد منه في كل زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم؛ فسمي بالإمام لما قلناه أولاً من مذهب الشيعة في ألقاب خلفائهم، وأردف بالمعصوم إشارة إلى مذهبه في عصمة الإمام. وتنزه عند أتباعه عن أمير المؤمنين أخذاً بمذاهب المتقدمين من الشيعة، ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق.
ثم انتحل عبد المؤمن ولي عهده اللقب بأمير المؤمنين، وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم، استئثاراً به عفن سواهم، لما دعا إليه شيخهم المهدي من ذلك، وأنه صاحب الأمم وأولياؤه من بعده كذلك دون كل أحد، لانتفاء عصبية قريش وتلاشيها. فكان ذلك دأبهم.ولما انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أولهم مذاهب البداوة والسذاجة واتباع لمتونة في انتحال اللقب بأمير المؤمنين أدباً مع رتبة الخلافة التي كانوا على طاعتها لبني

عبد المؤمن أولاً ولبني أبي حفص من بعدهم. ثم نزع المتأخرون منهم إلى اللقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغاً في منازع الملك وتتميماً لمذاهبه وسماته. والله غالب على أمره.
الفصل الثالث والثلاثون
في شرع اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية
واسم الكوهن عند اليهود
إعلم أن الملة لا بد لها من قائم عند غيبة النبي يحملهم على أحكامها وشرائعها، ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف. والنوع الإنساني أيضاً، بما تقدم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري، لا بد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر، وهو المسمى بالملك.
والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعاً لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعاً أو كرهاً اتخذت فيها الخلافة والملأ لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معاً.وأما ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامةً ولا الجهاد عندهم مشروعاً إلا في المدافعة فقط؛ فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك؛ وإنما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير ديني، وهو ما اقتضته لهم العصبية لما فيها من الطلب للملك بالطبع لما قدمناه، لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية، وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم.
ولذلك بقي بنو إسرائيل من بعد موسى ويوشع صلوات الله عليهما نحو أربعمائة سنةٍ لا يعتنون بشىء من أمر الملك، إنما همهم إقامة دينهم فقط. وكان القائم به بينهم يسمى الكوهن كأنه خليفة موسى صلوات الله عليه يقيم لهم أمر

الصلاة والقربان، ويشترطون فيه أن يكون من ذرية هارون صلوات الله عليه، لأن موسى لم يعقب. ثم اختاروا لإقامة السياسة التي هي للبشر بالطبع سبعين شيخاً كانوا يتولون أحكامهم العامة. والكوهن أعظم منهم رتبة في الدين، وأبعد عن شغب الأحكام. واتصل ذلك فيهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبية وتمحضت الشوكة للملك؛ فغلبوا الكنعانيين على الأرض التي أورثهم الله- بيت المقدس وما جاورها- كما بين لهم على لسان موسى صلوات الله عليه، فحاربتهم أمم الفلسطين والكنعانيين والأرمن وأردن وعمان ومأرب، ورئاستهم في ذلك راجعة إلى شيوخهم، وأقاموا على ذلك نحوا من أربعمائة سنةٍ، ولم تكن لهم صولة الملك. وضجر بنو إسرائيل من مطالبة الأمم، فطلبوا على لسان شمويل من أنبيائهم أن يأذن الله لهم في تمليك رجل عليهم فولي عليهم طالوت، وغلب الأمم وقتل جالوت ملك الفلسطين. ثم ملك بعده داود ثم سليمان صلوات الله عليهما. واستفحل ملكه وامتد إلى الحجاز، ثم أطراف اليمن، ثم إلى أطراف بلاد الروم. ثم افترق الأسباط من بعد سليمان صلوات الله عليه بمقتضى العصبية في الدول كما قدمناه، إلى دولتين كانت إحداهما بالجزيرة والموصل للأسباط العشرة، والأخرى بالقدس والشام لبني يهوذا وبنيامين.
ثم غلبهم بختنصر ملك بابل على ما كان بأيديهم من الملك، أولاً الأسباط العشرة، ثم ثانياً بني يهوذا وبيت المقدس بعد اتصال ملكهم نحو ألف سنة، وخرب مسجدهم وأحرق توراتهم وأمات دينهم، ونقلهم إلى أصبهان وبلاد العراق، إلى أن ردهم بعض ملوك الكيانية من الفرس إلى بيت المقدس من بعد سبعين سنةً من خروجهم، فبنوا المسجد وأقاموا أمر دينهم على الرسم الأول للكهنة فقط والملك للفرس. ثم غلب الإسكندر وبنو يونان على الفرس وصار اليهود في ملكتهم. ثم فشل أمر اليونانيين، فاعتز اليهود عليهم بالعصبية الطبيعية ودفعوهم عن

الاستيلاء عليهم، وقام بملكهم الكهنة الذين كانوا فيهم من بني حشمناي، وقاتلوا اليونان حتى انقرض أمرهم، وغلبهم الروم فصاروا تحت أمرهم. ثم رجعوا إلى بيت المقدس وفيها بنو هيرودس أصهار بني حشمناي، وبقيت دولتهم، فحاصروهم مدة، ثم افتتحوها عنوة، وأفحشوا في القتل والهدم والتحريق، وخربوا بيت المقدس وأجلوهم عنها إلى رومة وما وراءها، وهو الخراب الثاني للمسجد، ويسميه اليهود بالجلوة الكبرى. فلم يقم لهم بعدها ملك لفقدان العصبية منهم وبقوا بعد ذلك في ملكة الروم ومن بعدهم، يقيم لهم أمر دينهم الرئيس عليهم المسمى بالكوهن. ثم جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه بما جاءهم به من الدين والنسخ لبعض أحكام التوراة، وظهرت على يديه الخوارق العجيبة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، واجتمع عليه كثير من الناس وآمنوا به، وأكثرهم الحواريون من أصحابه وكانوا اثني عشر، وبعث منهم رسلاًإلى الآفاق داعين إلى ملته، وذلك أيام أوغسطس أول ملوك القياصرة، وفي مدة هيرودس، ملك اليهود، الذي انتزع الملك من بني حشمناي أصهاره. فحسده اليهود وكذبوه، وكاتب هيرودس ملكهم ملك القياصرة أوغسطس يغريه به، فأذن لهم في قتله، ووقع ما تلاه القرآن من أمره. وافترق الحواريون شيعاً ودخل أكثرهم بلاد الروم داعين إلى دين النصرانية. وكان بطرس كبيرهم فنزل برومة، دار ملك القياصرة. ثم كتبوا الإنجيل الذي انزل على عيسى صلوات الله عليه، في نسخٍ أربعٍ على اختلاف رواياتهم: فكتب متى إنجيله في بيت المقدس بالعبرانية، ونقله يوحنا بن زبدى منهم إلى اللسان اللاطيني، وكتب لوقا منهم إنجيله باللطيني إلى بعض أكابر الروم؛ وكتب يوحنا بن زبدى منهم إنجيله برومة، وكتب بطرس إنجيله باللطيني ونسبه إلى مرقاص تلميذه. واختلفت هذه النسخ الأربع من الإنجيل، مع أنها ليست كلها

وحياً صرفاً بل مشوبة بكلام عيسى عليه السلام، وبكلام الحواريين؛ وكلها مواعظ وقصص؛ والأحكام فيها قليلة جداً. واجتمع الحواريون الرسل لذلك العهد أرومة، ووضعوا قوانين الملة النصرانية، وصيروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس، وكتبوا فيها عدد الكتب التي يجب قبولها والعمل بها.
فمن شريعة اليهود القديمة التوراة، وهي خمسة أسفار، وكتاب يوشع، وكتاب القضاة، وكتاب راعوث، وكتاب يهوذا، وأسفار الملوك أربعة، وسفر بنيامين، وكتب المقابيين لابن كريون ثلاثة وكتاب عزراً الإمام، وكتاب أوشير وقصة هامان، وكتاب أنوب الصديق، ومزامير داود عليه السلام، وكتب ابنه سليمان عليه السلام خمسة، ونبوات الأنبياء الكبار والصغار ستة عشر، وكتاب يشوع بن شارخ وزير سليمان.ومن شريعة عيسى صلوات الله عليه المتلقاة من الحواريين نسخ الإنجيل الأربعة وكتب القتاليقون سبع رسائل، وثامنها الأبريكسيس في قصص الرسل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة، وكتاب أقليمنطس وفيه الأحكام، وكتاب أبو غالمسيس، وفيه رؤيا يوحنا بن زبدى واختلف شأن القياصرة في الأخذ بهذه الشريعة تارة وتعظيم أهلها، ثم تركها أخرى والتسلط عليهم بالقتل والبغي؛ إلى أن جاء قسطنطين وأخذ بها واستمروا عليها. وكان صاحب هذا الدين والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك، وهو رئيس الملة عندهم وخليفة المسيح فيهم، يبعث نوابه وخلفاءه إلى ما بعد عنه من أمم النصرانية، ويسفون الأسقف أي نائب البطرك، ويسمون الإمام الذي يقيم الصلوات ويفتيهم في الدين بالقسيس. ويسمون المنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب.
واكثر خلواتهم في الصوامع. وكان بطرس الرسول رأس الحواريين وكبير

التلاميذ برومة يقيم بها دين النصرانية إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة، فيمن قتل من البطارق والأساقفة؛ ثم قام بخلافته في كرسي رومة أريوس. وكان مرقاس الإنجيلي بالإسكندرية ومصر والمغرب داعياً سبع سنين؛ فقام بعده حنانياً وتسمى بالبطرك وهو أول البطاركة فيها. وجعل معه اثني عشر قساًعلى انه إذا مات البطرك يكون واحد من الاثني عشر مكانه ويختار من المؤمنين واحداً مكان ذلك الثاني عشر. فكان أمر البطاركة إلى القسوس. ثم لما وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم وعقائده واجتمعوا بنيقية أيام قسطنطين لتحرير الحق في الدين، واتفق ثلثمائة وثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدين، فكتبوه وسموه الإمام، وصيروه أصلاً يرجعون إليه. وكان فيما كتبوه أن البطرك القائم بالدين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسة كما قرره حنانياً تلميذ مرقاس، وأبطلوا ذلك الرأي، وإنما يقدم عن بلاء واختيار من أئمة المؤمنين ورؤسائهم؛ فبقي الأمر كذلك.
ثم اختلفوا بعد ذلك في تقرير قواعد الدين وكانت لهم مجتمعات فم تقريره. ولم يختلفوا في هذه القاعدة؛ فبقي الأمر فيها على ذلك. واتصل فيهم نيابة الأساقفة عن البطاركة. وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب أيضا تعظيماً له. فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة، يقال آخرها بطركية هرقل بالإسكندرية؛ فأرادوا أن يميزوا البطرك عن الأسقف في التعظيم فدعوه البابا، ومعناه أبو الآباء. وظهر هذا الاسم أول ظهوره بمصر على ما زعم جرجيس بن العميد في تاريخه. ثم نقلوه إلى صاحب الكرسي الأعظم عندهم وهو كرسي رومة لأنه كرسي بطرس الرسول كما قدمناه، فلم يزل سمة عليه إلى الآن.ثم اختلفت النصارى في دينهم بعد ذلك، وفيما يعتقدونه في المسيح

وصاروا طوائف وفرقاً، واستظهروا بملوك النصرانية كل على صاحبه؛ فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة، إلى أن استقرت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم ولا يلتفون إلى غيرها، وهم الملكية واليعقوبية والنسطورية. ثم اختصت كل فرقة منهم ببطرك؛ فبطرك رومة اليوم المسمى بالبابا على رأي الملكية، ورومة للإفرنجة وملكهم قائم بتلك الناحية. وبطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبية وهو ساكن بين ظهرانيهم؛ والحبشة يدينون بدينهم؛ ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هنالك.
واختص اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد. ولا تسمي اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم. وضبط هذه اللفظة بباءين موحدتين من اسفل، والنطق بها مفخمة والثانية مشددة. ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة أنه يحضهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم تحرجاً من افتراق الكلمة، ويتحرى به العصبية التي لا فوقها منهم، لتكون يده عالية على جميعهم، ويسمونه الإنبرذور وحرفه الوسط بين الذال والظاء المعجمتين؛ ومباشره يضع التاج على رأسه للتبرك فيسمى المتوج؛ ولعله معنى لفظة الإنبرذور. وهذا ملخص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين الفذين هما البابا والكوهن؛ {والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء}.
الفصل الرابع والثلاثون
في مراتب الملك والسلطان وألقابها
إعلم أن السلطان في نفسه ضعيف يحمل أمراً ثقيلاً، فلا بد له من الاستعانة

بأبناء جنسه. وإذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه وسائر مهنه فما ظنك بسياسة نوعه ومن استرعاه الله من خلقه وعباده. وهو محتاج إلى حماية الكافة من عدوهم بالمدافعة عنهم، وإلى كف عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم، وكف العدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم، وإلى حملهم على مصالحهم، وما تعفهم به البلوى في معاشهم ومعاملاتهم من تفقد المعايش والمكاييل والموازين، حذراً من التطفيف، وإلى النظر في السكة بحفظ النقود التي يتعاملون بها من الغش، وإلى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له والرضا بمقاصده منهم وانفراده بالمجد دونهم. فيتحمل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب. قال بعض الأشراف من الحكماء: لمعاناة نقل الجبال من أماكنها أهون علي من معاناة قلوب الرجال “. ثم إن الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النسب أو التربية أو الاصطناع القديم للدولة كانت أكمل، لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه، فتتم المشاكلة في الاستعانة. قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29-32]. وهو إما أن يستعين في ذلك بسيفه أو قلمه أو رأيه أو معارفه أو بحجابه عن الناس أن يزدحموا عليه، فيشغلوه عن النظر في مهماتهم. أو يدفع النظر في الملك كله، ويعول على كفايته في ذلك واضطلاعه. فلذلك قد توجد في رجل واحد وقد تفترق في أشخاص. وقد يتفرع كل واحد منها إلى فروع كثيرة: كالقلم يتفرع إلى قلم الرسائل والمخاطبات، وقلم الصكوك والإقطاعات، وإلى قلم المحاسبات، وهو صاحب الجباية والعطاء وديوان الجيش؛ وكالسيف يتفرع إلى صاحب الحرب، وصاحب الشرطة

وصاحب البريد، وولاية الثغور.ثم اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاحتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا كما قدمناه. فالأحكام الشرعية متعلقة بجميعها وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها، لعموم تعلق الحكم الشرعي بجميع أفعال العباد. والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسلطان وشروط تقليدها استبداداً على الخلافة وهو معنى السلطان، أو تعويضاً منها وهو معنى الوزارة عندهم كما يأتي، وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السياسات مطلقاً أو مقيداً، أو في موجبات العزل إن عرضت، وغير ذلك من معاني الملك والسلطان وكذا في سائر الوظائف التي تحت الملك والسلطان من وزارة أو جباية أو ولاية. لا بد للفقيه من النظر في جميع ذلك لما قدمناه من انسحاب حكم الخلافة الشرعية في الملة الإسلامية على رتبة الملك والسلطان. إلا أن كلامنا في وظائف الملك والسلطان ورتبته، إنما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر لا بما يخضها من أحكام الشرع فليس من غرض كتابنا كما علمت، فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشرعية؛ مع أنها مستوفاة في كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماوردي وغيره من أعلام الفقهاء؛ فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك. وإنما تكلمنا في الوظائف الخلافية وأفردناها لنميز بينها وبين الوظائف السلطانية فقط، لا لتحقيق أحكامها الشرعية، فليس من غرض كتابنا، وإنما نتكلم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنساني. والله الموفق.
ا لوزارة:
وهي أم الخطط السلطانية والرتب الملوكية، لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة، فإن الوزارة مأخوذة إما من المؤازرة وهي المعاونة، أو من الوزر وهو الثقل كأنه يحمل مع مفاعله أوزاره، وأثقاله، وهو راجع إلى المعاونة المطلقة. وقد كنا قدمنا في أول الفصل أن أحوال السلطان وتصرفاته لا تعدو أربعة: لأنها إما أن تكون في أمور حماية الكافة وأسبابها من النظر في الجند والسلاح والحروب وسائر أمور

الحماية والمطالبة، وصاحب هذا هو الوزير المتعارف في الدول القديمة بالمشرق، ولهذا العهد بالمغرب، وإما أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في المكان أو في الزمان وتنفيذه الأوامر فيمن هو محجوب عنه وصاحب هذا هو الكاتب؛ وإما أن تكون في أمور جباية المال وإنفاقه، وضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضيعة، وصاحب هذا هو صاحب المال والجباية وهو المسمى بالوزير لهذا العهد بالمشرق؛ وإما أن يكون في مدافعة الناس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه، وهذا راجع لصاحب الباب الذي يحجبه. فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه. وكل خطبه أو رتبة من رتب الملك والسلطان فإليها ترجع. إلا أن الأربع منها ما كانت الإعانة فيه عامة فيما تحت يد السلطان من ذلك الصنف؛ إذ هو يقتضي مباشرة السلطان دائما ومشاركته في كل صنف من أحوال ملكه. وأما ما كان خاصاً بعض الناس أو ببعض الجهات فيكون دون الرتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جبايةٍ خاصةً أو النظر في أمر خاص، كحسبة الطعام أو النظر في السكة؛ فإن هذه كفها نظر في أحوال خاصة، فيكون صاحبها تبعا لأهل النظر العام، وتكون رتبته مرؤوسة أولئك.وما زال الأمر في الدول قبل الإسلام هكذا حتى جاء الإسلام وصار أمر خلافة، فذهبت تلك الخطط كفها بذهاب رسم الملك إلا ما هو طبيعي من المعاونة بالرأي، والمفاوضة فيه فلم يمكن زواله، إذ هو أمر لا بد منه. فكان  يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة، ويخص مع ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى؛ حتى كان العرب الذين عرفوا الدول وأحوالها في كسرى وقيصر والنجاشي يسمون أبا بكر وزيره. ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام. وكذا عمر مع أبي بكر، وعلي وعثمان مع عمر. وأما حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عندهم برتبة؛ لأن القوم كانوا عرباً أميين لا يحسنون الكتاب والحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب أو أفراداً من موالي العجم ممن يجيده، وكان قليلاً فيهم

وأما أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه، لأن الأمية كانت صفتهم التي امتازوا بها. وكذا حال المخاطبات وتنفيذ اً الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصة للامية التي كانت فيهم، والأمانة العامة في كتمان القول وتأديته، ولم تخرج السياسة إلى اختياره، لان الخلافة إنما هي دين ليست من السياسة الملكية في شيء. وأيضاً فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد للخليفة أحسنها؛ لأن الكل كانوا يعبرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات. ولم يبق إلا الخط فكان الخليفة يستنيب في كتابته، متى عن له، من يحسنه. وأما مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم، فكان محظورا بالشريعة فلم يفعلوه. فلما انقلبت الخلافة إلى الملك وجاءت رسوم السلطان وألقابه كان أول شيء بدئ به في الدولة شأن الباب وسده دون الجمهور بما كانوا يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم، مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات. فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب. وقد جاء أن عبد الملك لما ولى حاجبه قال له: قد وليتك حجابة بابي إلا عن ثلاثة: المؤذن للصلاة فإنه داعي الله؛ وصاحب البريد فأمر ما جاء به؛ وصاحب الطعام لئلا يفسد. ثم استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور والمعين في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم؛ وأطلق عليه اسم الوزير. وبقي أمر الحسبان في الموالي والذميين. واتخذ للسجلات كاتب مخصوص حوطة على أسرار السلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه؛ ولم يكن بمثابة الوزير لأنة إنما احتيج له من حيث الخط والكتاب لا من حيث اللسان الذي هو الكلام؛ إذ اللسان لذلك العهد على حاله لم يفسد. فكانت الوزارة لذلك ارفع رتبهم يومئذ. هذا في سائر دولة بني أمية. فكان النظر للوزير عاماً في أحوال التدبير والمفاوضات وسائر أمور الحمايات والمطالبات وما يتبعها من النظر في ديوان الجند وفرض العطاء بالأهلية وغير ذلك. فلما جاءت دولة بني العباس واستفحل الملك وعظمت مراتبه وارتفعت، عظم شأن الوزير وصارت إليه النيابة في إنفاذ الحل والعقد

ماذا تعرف عن الملك فاروق و مصر فى عهد الملك فاروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *