تاريخ العلامة ابن خلدون المجلد الأول الجزء التاسع

تاريخ ابن خلدون
المجلد الأول
صـ 297 –388
وتعينت مرتبته في الدولة، وعنت لها الوجوه وخضعت لها الرقاب، وجعل لها النظر في ديوان الحسبان لما تحتاج إليه خطته من قسم الأعطيات في الجند، فاحتاج إلى النظر في جمعه وتفريقه، وأضيف إليه النظر فيه. ثم جعل له النظر في القلم والترسيل لصون أسرار السلطان ولحفظ البلاغة، لما كان اللسان قد فسد عند الجمهور. وجعل الخاتم لسجلات السلطان لحفظها من الذياع والشياع ودفع إليه. فصار اسم الوزير جامعاً لخطتي السيف والقلم، وسائر معاني الوزارة والمعاونة، حتى لقد دعي جعفر بن يحيى بالسلطان أيام الرشيد إشارة إلى عموم نظره وقيامه بالدولة. ولم يخرج عنه من الرتب السلطانية كلها إلا الحجابة التي هي القيام على الباب فلم تكن له، لاستنكافه عن مثل ذلك.ثم جاء في الدولة العباسية شأن الاستبداد على السلطان، وتعاور فيها استبداد الوزارة مرة والسلطان أخرى. وصار الوزير إذا استبد محتاجاً إلى استنابة الخليفة إياه لذلك لتصح الأحكام الشرعية وتجيء على حالها كما تقدم. فانقسمت الوزارة حينئذ إلى وزارة تنفيذ، وهي حال ما يكون السلطان قائماً على نفسه، وإلى وزارة تفويض وهي حال ما يكون الوزير مستبداً عليه. ثم استمر الاستبداد وصار الأمر لملوك العجم وتعطل رسم الخلافة. ولم يكن لأولئك المتغلبين أن ينتحلوا ألقاب الخلافة، واستنكفوا من مشاركة الوزراء في اللقب لأنهم خول لهم، فتسموا بالإمارة والسلطان. وكان المستبد على الدولة يسمى أمير الأمراء أو بالسلطان، إلى ما يحليه به الخليفة من ألقابه كما تراه في ألقابهم، وتركوا اسم الوزارة إلى من يتولاها للخليفة في خاصته. ولم يزل هذا الشأن عندهم إلى آخر دولتهم. وفسد اللسان خلال ذلك كله، وصارت صناعة ينتحلها بعض الناس، فامتهنت وترفع الوزراء عنها لذلك، ولأنهم عجم، وليس تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخير لها من سائر الطبقات واختصت به، وصارت خادمة للوزير. واختص اسم الأمير بصاحب الحروب والجند وما يرجع إليها، ويده مع ذلك عالية

على أهل الرتب، وأمره نافذ في الكل أما نيابة أو استبداداً. واستمر الأمر على هذا.ثم جاءت دولة الترك آخراً بمصر فرأوا أن الوزارة قد ابتذلت بترفع أولئك عنها ودفعها لمن يقوم بها للخليفة المحجور، ونظره مع ذلك متعقب بنظر الأمير، فصارت مرؤوسة ناقصة، فاستنكف أهل هذه الرتبة العالية في الدولة عن اسم الوزارة. وصار صاحب الأحكام والنظر في الجند يسمى عندهم بالنائب لهذا العهد، وبقي اسم الحاجب في مدلوله، وأختص اسم الوزير عندهم بالنظر في الجباية.وأما دولة بني أمية بالأندلس فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة، ثم قسموا خطته أصنافاً وأفردوا لكل صنف وزيراً: فجعلوا لحسبان المال وزيراً، وللترسيل وزيراً، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيراً، وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيراً وجعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم، وينفذون أمر السلطان هناك كل فيما جعل له. وأفرد للتردد بينهم وبين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت، فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصوه باسم الحاجب، ولم يزل الشأن هذا إلى آخر دولتهم، فارتفعت خطة الحاجب ومرتبته على سائر الرتب، حتى صار ملوك الطوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمى الحاجب كما نذكره.ثم جاءت دولة الشيعة بإفريقية والقيروان وكان للقائمين بها رسوخ في البداوة فأغفلوا أمر هذه الخطط أولاً وتنقيح أسمائها حتى أدركت دولتهم الحضارة فصاروا إلى تقليد الدولتين قبلهم في وضع أسمائها كما تراه في أخبار دولتهم.ولما جاءت دولة الموحدين من بعد ذاك أغفلت الأمر أولاً للبداوة ، ثم صارت إلى انتحال الأسماء والألقاب. وكان اسم الوزير في مدلوله. ثم اتبعوا دولة الأمويين وقلدوها في مذاهب السلطان واختاروا اسم الوزير لمن يحجب السلطان في مجلسه، ويقف بالوفود والداخلين على السلطان عند الحدود في تحيتهم وخطابهم والآداب التي تلزم في الكون بين يديه، ورفعوا خطة الحجابة عنه ما شاءوا ولم يزل الشأن ذلك إلى هذا العهد.وأما في دولة الترك بالمشرق فيصفون هذا الذي يقف بالناس على حدود الآداب في اللقاء والتحية في مجالس السلطان والتقدم بالوفود بين يديه الدويدار

ويضيفون إليه استتباع كاتب السر وأصحاب البريد المتصرفين في حاجات السلطان بالقاصية وبالحاضرة. وحالهم على ذلك لهذا العهد. والله مولي الأمور لمن يشاء.
الحجابة:
قد قدمنا أن هذا اللقب كان مخصوصاً في الدولة الأموية والعباسية بمن يحجب السلطان عن العامة ويغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته. وكانت هذه منزلة يومئذ عن الخطط مرؤوسة لها، إذ الوزير متصرف فيها بما يراه. وهكذا كانت، سائر أيام بني العباس، وإلى هذا العهد، فهي بمصر مرؤوسة لصاحب الخطة العليا المسمى بالنائب.وأما في الدولة الأموية بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السلطان عن الخاصة والعامة، ويكون واسطة بينه وبين الوزراء، فمن دونهم. فكانت في دولتهم رفيعة غاية كما تراه في أخبارهم، كابن حديد وغيره من حجابهم. ثم لما جاء الاستبداد على الدولة أختص المستبد باسم الحجابة لشرفها. فكان المنصور بن أبي عامر وأبناؤه كذلك. ولما بدءوا في مظاهر الملك وأطواره جاء من بعدهم من ملوك الطوائف فلم يتركوا لقبها، وكانوا يعدونها شرفاً لهم، وكان أعظمهم ملكاً بعد انتحال ألقاب الملك وأسمائه لابد له من ذكر الحاجب وذي الوزارتين يعنون به السيف والقلم، ويدلون بالحجابة على حجابة السلطان عن العامة والخاصة، وبذي الوزارتين على جمعه لخطتي السيف والقلم.ثم لم يكن في دول المغرب وإفريقية ذكر لهذا الاسم للبداوة التي كانت فيهم. وربما يوجد في دولة العبيديين بمصر عند استعظامها وحضارتها إلا أنه قليل.ولما جاءت دولة الموحدين لم تستمكن فيها الحضارة الداعية إلى انتحال الألقاب وتمييز الخطط وتعيينها بالأسماء إلا آخراً. فلم يكن عندهم من الرتب إلا الوزير، فكانوا أولاً يخصون بهذا الاسم الكاتب المتصرف المشارك للسلطان في خاص أمره، كابن عطية وعبد السلام الكومي. وكان له مع ذلك النظر في الحساب والأشغال المالية. ثم صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسب

الدولة من الموحدين كابن جامع وغيره. ولم يكن اسم الحاجب معروفاً في دولتهم يومئذ.وأما بنو أبي حفص بإفريقية فكانت الرياسة في دولتهم أولاً والتقديم لوزير الرأي والمشورة. وكان يخص باسم شيخ الموحدين. وكان له النظر في الولايات والعزل وقود العساكر والحروب، وأختص الحسبان والديوان برتبة أخرى، ويسمى متوليها بصاحب الأشغال، ينظر فيها النظر المطلق في الدخل والخرج، ويحاسب ويستخلص الأموال ويعاقب على التفريط، وكان من شرطه أن يكون من الموحدين. وأختص عندهم القلم أيضاً بمن يجيد الترسيل ويؤتمن على الإسرار، لأن الكتابة لم تكن من منتحل القوم ولا الترسيل بلسانهم، فلم يشترط فيه النسب. واحتاج السلطان لاتساع ملكه وكثرة المرتزقين بداره إلى قهرمان خاص بداره في أحواله يجريها على قدرها وترتيبها، من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والإسطبلات وغيرهما، وحصر الذخيرة وتنفيذ ما يحتاج إليه في ذلك على أهل الجباية، فخصوه باسم الحاجب. وربما أضافوا إليه كتابة العلامة على السجلات إذا اتفق أنه يحسن صناعة الكتابة، وربما جعلوه لغيره. واستمر الأمر علي ذلك، وحجب السلطان نفسه عن الناس، فصار هذا الحاجب واسطة بين الناس وبين أهل الرتب كلهم. ثم جمع له آخر الدولة السيف والحرب، ثم الرأي والمشورة، فصارت الخطة أرفع الرتب وأوعبها للخطط. ثم جاء الاستبداد والحجر مدة من بعد السلطان الثاني عشر منهم. ثم استبد بعد ذلك حفيده السلطان أبو العباس على نفسه وأذهب آثار الحجر والاستبداد بإذهاب خطة الحجابة التي كانت سلماً إليه، وباشر أموره كلها بنفسه من غير استعانة بأحد. والأمر على ذلك لهذا العهد.
وأما دولة زناتة بالمغرب: وأعظمها دولة بني مرين، فلا أثر لاسم الحاجب عندهم. وأما رياسة الحرب والعساكر فهي للوزير. ورتبة القلم في الحسبان والرسائل راجعة إلى من يحسنها من أهلها، وإن أختصت ببعض البيوت المصطنعين في

دولتهم. وقد تجمع عندهم وقد تفرق. وأما باب السلطان وحجبه عن العامة فهي رتبة عندهم، يسمى صاحبها بالمزوار ومعناه المقدم على الجنادرة المتصرفين بباب السلطان في تنفيذ أوامره وتصريف عقوباته وإنزال سطواته وحفظ المعتقلين في سجونه، والعريف عليهم في ذلك. فالباب له، وأخذ الناس بالوقوف عند الحدود في دار العامة راجع إليه، فكأنها وزارة صغرى.وأما دولة بني عبد الوادِّ: فلا أثر عندهم لشيء من هذه الألقاب ولا تمييز الخطط لبداوة دولتهم وقصورها. وإنما يخصون باسم الحاجب في بعض الأحوال منفذ الخاص بالسلطان في داره، كما كان في دولة بني أبي حفص ، وقد يجمعون له الحسبان والسجلات كما كان فيها، حملهم على ذلك تقليد الدولة بما كانوا في تبعها وقائمين بدعوتها منذ أول أمرهم.
وأما أهل الأندلس لهذا العهد فالمخصوص عندهم بالحسبان وتنفيذ خاص السلطان وسائر الأمور المالية يسمونه بالوكيل، وأما الوزير فكالوزير، إلا أنه قد جمع له الترسيل. والسلطان عندهم يضع خطه على السجلات كلها، فليس هناك خطة العلامة كما لغيرهم من الدول.وأما دولة الترك بمصر: فاسم الحاجب عندهم موضوع لحاكم من أهل الشوكة وهم الترك، ينفذ الأحكام بين الناس في المدينة، وهم متعددون. وهذه الوظيفة عندهم تحت وظيفة النيابة التي لها الحكم في أهل الدولة وفي العامة على الإطلاق. وللنائب التولية والعزل في بعض الوظائف على الاحيان، ويقطع القليل من الأرزاق، ويثبتها وتنفذ أوامره كما تنفذ المراسم السلطانية. وكان له النيابة المطلقة عن السلطان. وللحجاب الحكم فقط في طبقات العامة والجند عند الترافع إليهم، وإجبار من أبى الانقياد للحكم، وطورهم تحت طور النيابة. والوزير في دولة الترك هو صاحب جباية الأموال في الدولة على اختلاف أصنافها من خراج أو مكس أو جزية ثم في تصريفها في الإنفاقات السلطانية أو الجرايات المقدرة، وله مع ذلك التولية والعزل في سائر العمال المباشرين لهذه

الجباية والتنفيذ على اختلاف مراتبهم وتباين أصنافهم. ومن عوائدهم أن يكون هذا الوزير من صنف القبط القائمين على ديوان الحسبان والجباية لاختصاصهم بذلك في مصر منذ عصور قديمة. وقد يوليها السلطان بعض الأحيان لأهل الشوكة من رجالات الترك أو أبنائهم على حسب الداعية لذلك. والله مقدر الأمور ومصرفها بحكمته، لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين.
ديوان الأعمال والجبايات:
إعلم أن هذه الوظيفة من الوظائف الضرورية للملك، وهي القيام على أعمال الجبايات وحفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج وإحصاء العساكر بأسمائهم، وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إباناتها ، والرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومه تلك الأعمال، وقهارمة الدولة، وهي كلها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدخل والخرج مبني على جزء كبير من الحساب، لا يقوم به إلا المهرة من أهل تلك الأعمال، وشفي ذلك الكتاب بالديوان، وكذلك مكان جلوس العمال المباشرين لها. ويقال: أن أصل هذه التسمية أن كسرى نظر يوماً إلى كتاب ديوانه وهم يحسبون على أنفسهم كأنهم يحادثون فقال: (ديوانه) أي (مجانين) بلغة الفرس، فسمي موضعهم بدلك، وحذفت الهاء لكثرة الإستعمال تخفيفا فقيل ديوان، ثم نقل هذا الاسم إلى كتاب هذه الأعمال المتضمن للقوانين والحسابات، وقيل : أنه اسم للشياطين بالفارسية، سمي الكتاب بدلك لسرعة نفوذهم في فهم الأمور ووقوفهم على الجلي والخفي منها، وجمعهم لما شد وتفرق. ثم نقل إلى مكان جلوسهم لتلك الأعمال. وعلى هذا فيتناول اسم الديوان كتاب الرسائل ومكان جلوسهم بباب السلطان على ما يأتي بعد. وقد تفرد هذه الوظيفة بناظر وأحد ينظر في سائر هذه الأعمال، وقد يفرد كل صنف منها بناظر، كما يفرد في بعض الدول النظر في العساكر وإقطاعاتها وحسبان أعطياتهم ، أو غير ذلك على حسب مصطلح الدولة وما

قرره أولوها. واعلم أن هذه الوظيفة إنما تحدث في الدول عند تمكن الغلب والاستيلاء والنظر في أعطاف الملك وفنون التمهيد.وأول من وضع الديوان في الدولة الإسلامية عمر رضي الله عنه يقال لسبب مال أتى به أبو هريرة رضي الله عنه من البحرين فاستكثروه وتعبوا في قسمه، فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق، فأشار خالد بن الوليد بالديوان، وقال: رأيت ملوك الشام يدونون، فقبل منه عمر. وقيل: بل أشار عليه به الهرمزان لما رآه يبعث البعوث بغير ديوان، فقيل له: ومن يعلم بغيبة من يغيب منهم، فأن من تخفف أخل بمكانه، وإنما يضبط ذلك الكتاب، فاثبت لهم ديواناً. وسأل، عمر عن اسم الديوان، فعبر له. ولما اجتمع ذلك أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من كتاب قريش، فكتبوا ديوان العساكر الإسلامية على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله  و ما بعدها، الأقرب فالأقرب. هكذا كان أبتداء ديوان الجيش. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن ذلك كان في المحرم سنة عشرين.وأما ديوان الخراج والجبايات فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل: ديوان العراق بالفارسية، وديوان الشام بالرومية. وكتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين. ولما جاء عبد الملك بن مروان واستحال الأمر ملكاً، وأنتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة، ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة، وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتاب والحسبان، فأمر عبد الملك سليمان بن سعيد والي الأردن لعهده أن ينقل ديوان الشام إلى العربية، فأكمله لسنة من يوم ابتدائه، ووقف عليه سرجون كاتب عبد الملك، فقال لكتاب الروم: اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد اقطعها الله عنكم.وأما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن، وكان يكتب بالعربية والفارسية ، ولقن ذلك عن زادان فروخ كاتب الحجاج قبله، ولما قتل زادان في حرب عبد الرحمن بن الأشعث استخلف الحجاج صالحاً هذا مكانه، وأمر أن ينقل الديوان من الفارسية

إلى العربية ففعل، ورغم لذلك كتاب الفرس. وكان عبد الحميد بن يحيى يقول لله در صالح، ما أعظم منّته على الكتاب.ثم جعلت هذه الوظيفة في دولة بني العباس مضافة إلى من كان له النظر فيه، كما كان شأن بني برمك وبني سهل بن نوبخت وغيرهم من وزراء الدولة.وأما ما يتعلق بهذه الوظيفة من الأحكام الشرعية مما يختص بالجيش أو بيت المال في الدخل والخرج وتمييز النواحي بالصلح والعنوة ، وفي تقليد هذه الوظيفة لمن يكون، وشروط الناظر فيها والكاتب وقوانين الحسبانات ، فأمر راجع إلى كتب الأحكام السلطانية، وهي مسطورة هنالك وليست من غرض كتابنا، وإنما نتكلم فيها من حيث طبيعة الملك الذي نحن بصدد الكلام فيه. وهذه الوظيفة جزء عظيم من الملك، بل هي ثالثة أركانه، لأن الملك لا بد له من الجند والمال والمخاطبة لمن غاب عنه، فاحتاج صاحب الملك إلى الأعوان في أمر السيف وأمر القلم وأمر المال، فينفرد صاحبها لذلك بجزء من رياسة الملك. وكذلك كان الأمر في دولة بني أمية بالأندلس والطوائف بعدهم.وأما في دولة الموحدين فكان صاحبها إنما يكون من الموحدين يستقل بالنظر في استخراج الأموال وجمعها وضبطها وتعقب نظر الولاة والعمال فيها، ثم تنفيذها على قدرها وفي مواقيتها. وكان يعرف بصاحب الأشغال، وكان ربما يليها في الجهات غير الموحدين ممن يحسنها.ولما استبد بنو أبي حفص بإفريقية وكان شأن الجالية من الأندلس، فقدم عليهم أهل البيوتات وفيهم من كان يستعمل ذلك في الأندلس، مثل بني سعيد أصحاب القلعة جوار غرناطة المعروفين ببني أبي الحسن، فاستكفوا بهم في ذلك، وجعلوا لهم النظر في الأشغال، كما كان لهم بالأندلس، ودالوا فيها بينهم وبين الموحدين. ثم استقل بها أهل الحسبان والكتاب وخرجت عن الموحدين. ثم لما استغلظ أمر الحاجب ونفذ أمره في كل شأن من شؤون الدولة تعطل هذا الرسم، وصار صاحبه مرؤوساً للحاجب، واصبح من جملة الجباة وذهبت تلك الرياسة التي كانت له في الدولة.وأما دولة بني مرين لهذا العهد فحسبان

العطاء والخراج مجموع لواحد، وصاحب هذه الرتبة هو الذي يصحح الحسبانات كلها، ويرجع إلى ديوانه ونظره معقب بنظر السلطان أو الوزير، وخطه معتبر في صحة الحسبان في الخراج والعطاء.هذه أصول الرتب والخطط السلطانية، وهي الرتب العالية التي هي عامة النظر ومباشرة للسلطان.وأما هذه الرتبة في دولة الترك فمتنوعة. وصاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش وصاحب المال مخصوص باسم الوزير، وهو الناظر في ديوان الجباية العامة للدولة، وهو أعلى رتب الناظرين في الأموال، لأن النظر في الأموال عندهم يتنوع إلى رتب كثيرة لانفساح دولتهم، وعظمة سلطانهم، واتساع الأموال والجبايات عن أن يستقل بضبطها الواحد من الرجال، ولو بلغ في الكفاية مبالغه، فتعين للنظر العائم منها هذا المخصوص باسم الوزير وهو مع ذلك رديف لمولى من موالي السلطان وأهل عصبيته وأرباب السيوف في الدولة، يرجع نظر الوزير إلى نظره، ويجتهد جهده في متابعته، ويسمى عندهم أستاذ الدولة، وهو أحد الأمراء الأكابر في الدولة من الجند وأرباب السيوف. ويتبع هذه الخطة خطط عندهم أخرى كلها راجعة إلى الأموال والحسبان، مقصورة النظر على أمور خاصة مثل ناظر الخاص، وهو المباشر لأموال السلطان الخاصة به من إقطاعه أو سهمانه من أموال الخراج وبلاد الجباية مما ليس من أموال المسلمين العامة. وهو تحت يد الأمير أستاذ الدار.وإن كان الوزير من الجند فلا يكون أستاذ الدار نظر عليه. وناظر الخاص تحت يد الخازن لأموال السلطان من مماليكه المسمى خازن الدار لاختصاص وظيفتهما بمال السلطان الخاص.وهذا بيان هذه الخطة بدولة الترك بالمشرق بعدما قدمناه من أمرها بالمغرب. والله مصرف الأمور لا رب غيره.
ديوان الرسائل والكتابة:
هذه الوظيفة غير ضرورية بما في الملك لاستغناء كثير من الدول عنها رأساً كما

في الدول العريقة في البداوة، التي لم يأخذها تهذيب الحضارة ولا استحكام الصنائع. وإنما أكد الحاجة إليها في الدولة الإسلامية شأن اللسان العربي والبلاغة في العبارة عن المقاصد. فصار الكتاب يؤدي كنه الحاجة بأبلغ من العبارة اللسانية في الأكثر. وكان الكاتب لأمير يكون من أهل نسبه ومن عظماء قبيله ، كما كان للخلفاء وأمراء الصحابة بالشام والعراق، لعظم أمانتهم وخلوص أشرارهم. فلما فسد اللسان وصار صناعة أختص بمن يحسنه.. وكانت عند بني العباس رفيعة. وكان الكاتب يصدر السجلات مطلقة، ويكتب في آخرها اسمه، ويختم عليها بخاتم السلطان، وهو طابع منقوش فيه اسم السلطان أو شارته، يغمس في طيني احمر مذاب بالماء، ويسمى طين الختم، ويطبع به على طرفي السجل عند طيه، وإلصاقه ثم صارت السجلات من بعدهم تصدر باسم السلطان، ويضع الكاتب فيها علامته أولاً أو آخراً على حب الاختيار في محلها وفي لفظها. ثم قد تنزل هذه الخطة بارتفاع المكان عند السلطان لغير صاحبه من أهل المراتب في الدولة أو استبداد وزير عليه، فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرئيس عليه، يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة، والحكم لعلامة ذلك الرئيس. كما وقع آخر الدولة الحفصية لما ارتفع شأن الحجابة ، وصار أمرها إلى التفويض ثم الاستبداد، صارحكم العلامة التي للكاتب ملغى وصورتها ثابتة، اتباعا لما سلف من أمرها. فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه، ذلك بخط يصنعه ويتخير له من صيغ الإنفاذ ما شاء، فيأتمر الكاتب له، ويضع العلامة المعتادة. وقد يختص السلطان بنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبداً بأمره قائماً على نفسه، فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته.ومن خطط الكتابة التوقيع، وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله ويوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها، متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه: فإما أن تصدر كذلك، وإما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة. ويحتاج الموقع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها

توقيعه، وقد كان جعفر بن يحيى يوقع القصص بين يدي الرشيد ويرمي بالقصة إلى صاحبها، فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصينها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها، حتى قيل: أنها كانت تباع كل قصة منها بدينار. وهكذا كان شأن الدول واعلم أن صاحب هذه الخطة لا بد أن يتخير من ارفع طبقات الناس وأهل المروءة والحشفة منهم، وزيادة العلم وعارضة البلاغة، فأنه معرض للنظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم، من أمثال ذلك مع ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب والتخلق بالفضائل، مع ما يضطر إليه في الترسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها.وقد تكون الرتبة في بعض الدول مستندة إلى أرباب السيوف، لما يقتضيه طبع الدولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبية فيختص السلطان أهل عصبيته بخطط دولته وسائر رتبه، فيقلد المال والسيف والكتابة منهم. فأما رتبة السيف فتستغني عن معاناة العلم، وأما المال والكتابة فيضطر إلى ذلك للبلاغ في هذه والحسبان في أخرى، فيختارون لها من هذه الطبقة ما دعت إليه الضرورة ويقلدونه، إلا أنه لا تكون يد أخرى من أهل العصبية غالبة على يده، ويكون نظره متصرفاً عن نظره. كما هو في دولة الترك لهذا العهد بالمشرق، فأن الكتابة عندهم وأن كانت لصاحب الإنشاء إلا أنه تحت يد أمير من أهل عصبية السلطان يعرف بالدويدار، وتعويل السلطان ووثوقه به واستنامته في غالب أحواله إليه، وتعويله على الأخر في أحوال البلاغة وتطبيق المقاصد وكتمان الإسرار وغير ذلك من توابعها.وأما الشروط المعتبرة في صاحب هذه الرتبة التي يلاحظها السلطان في اختياره وانتقائه من أصناف الناس فهي كثيرة، وأحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتاب، وهي:
رسالة عبد الحميد الكاتب إلى الكتاب:
أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم. فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن بعد الملوك المكرمين أصنافاً وإن كانوا في الحقيقة

سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات، إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات، والعلم والرزانة. بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها. وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم. لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم. فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون. فأمتعكم الله بما خضكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أصفاه من النعمة عليكم. وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم.أيها الكتاب. إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليماً في موضع الحلم، فهيماً في موضع الحكم، مقداماً في موضع الإقدام، محجماً في موضع الإحجام، مؤثراً للعفاف والعدل والإنصاف، كتوماً للأسرار، وفياً عند الشدائد، عالماً بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق في أماكنها، قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به، يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه وفضل تجربته، ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته وعتاده، ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته.فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين. وابدؤوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه جلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم، ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج.وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها، وسفساف الأمور ومحاقرها، فإنها مذلة للرقاب، مفسدة للكتاب. ونزهوا صناعتكم عن الدناءة، واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما

فيه أهل الجهالات. وإياكم والكبر والسخف والعظمة، فأنها عداوة مجتلبة من غير إحنة. وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم. وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه، وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره. وأن أقعد أحداً منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه. فأن عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه. وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال. فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء، وهو لكم أفسد منه لهم. فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبدل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه، فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه، ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه، فاستشعروا ذلك. وفقكم الله من أنفسكم. في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمؤاساة والاحسان والسراء والضراء. فنعمت الشيمة هذه، من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة. وإذا ولي الرجل منكم أو ضير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز وجل، وليؤثر طاعته وليكن الضعيف رفيقاً وللمظلوم منصفاً، فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله.ثم ليكن بالعدل حاكماً، وللأشراف مكرماً، وللفيء موفراً، وللبلاد عامراً، وللرعية متألفاً ، وعن أذاهم متخلفاً، وليكن في مجلسه متواضعاً حليماً، وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقاً.وإذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن، واحتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة. وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها: فإن كانت رموحاً لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوباً اتقاها من ين يديها، وإن خاف

منها شرودا توقاها من ناحية رأسها، وأن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها، فأن استمرت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها. وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم. والكاتب، لفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يجاوره من الناس ويناظره، ويفهم عنه أو يخاف سطوته، أولى بالرفق لصاحبه، ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً، ولا تعرف صواباً، ولا تفهم خطاباً، إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها. إلا فارفقوا رحمكم الله في النظر، واعملوا ما أمكنكم فيه من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والإستثقال والجفوة، ويصير منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى الموأخاة والشفقة أن شاء الله.ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه، وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه، فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير، حفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير. واستعينوا على عفافكم بالقصد، في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم. واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف، فأنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب . ويفضحان أهلهما ولا سيما الكتاب وأرباب الآداب.وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض، فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم. ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأصدقها حجة، واحمدها عاقبة. وأعلموا أن للتدبير آفة متلفة وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنقاذ علمه ورويته. فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه، فإن ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للشاغل عن إكثاره. وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر بدينه وعقله وآدابه. فإنه أن ظن منكم ظان أو قال قائل أن الذي برز من جميل صنعته، وقوة حركته إنما هو

بفضل حيلته وحسن تدبيره، فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كاف، وذلك على من تأمله غير خاف. ولا يقول أحد منكم أنه ابصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته، فأن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره، ورأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته. وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه، ولا يكاثر على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيره. وحمد الله واجب على الجميع، وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته.وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: “من تلزمه النصيحة يلزمه العمل “. وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل. فلذلك جعلته آخره وتممته به.تولانا الله وأياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده ، فإن ذلك إليه وبيده. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشرطة:
ويسمى صاحبها لهذا العهد بإفريقية الحاكم ، وفي دولة أهل الأندلس صاحب المدينة، وفي دولة الترك الوالي. وهي وظيفة مرؤوسة لصاحب السيف في الدولة، وحكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان. وكان أصل وضعها في الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدادها أولاً ثم الحدود بعد استيفائها. فأن التهم التي تعرض في الجرائم لا نظر للشرع إلا في استيفاء حدودها، وللسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامة في ذلك. فكان الذي يقوم بهذا الإستبداد وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة، وربما جعلوا إليه النظر في الحدود والدماء بإطلاق، وأفردوها من نظر القاضي. ونزهوا هذه المرتبة وقلدوها كبار القواد وعظماء الخاصة من مواليهم. ولم تكن عامة التنفيذ في

طبقات الناس، إنما كان حكمهم على الدهماء وأهل الريب، والضرب على أيدي الرعاع والفجرة.ثم عظمت نباهتها في دولة بني أمية بالأندلس، ونوعت إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى. وجيل حكم الكبرى على الخاصة والدهماء. وجعل له الحكم على أهل المراتب السلطانية والضرب على أيديهم في الظلامات، وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه. وجعل صاحب الصغرى مخصوصاً بالعامة. ونصب لصاحب الكبرى كرسي بباب دار السلطان ورجال يتبؤون المقاعد بين يديه، فلا يبرحون عنها إلا في تصريفه. وكانت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة حتى كانت ترشيحاً للوزارة والحجابة.
وأما في دولة الموحدين بالمغرب فكان لها حظ من التنويه وإن لم يجعلوها عامة. وكان لا يليها إلا رجالات الموحدين وكبراؤهم. ولم يكن له التحكم على أهل المراتب السلطانية. ثم فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال الموحدين وصارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين.وأما في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت من مواليهم وأهل اصطناعهم، وفي دولة الترك بالمشرق في رجالات الترك أو أعقاب أهل الدولة قبلهم من الأكراد، يتخيرونهم لها في النظر بما يظهر منهم من الصلابة والمضاء في الأحكام لقطع مواد الفساد وحسم أبواب الدعارة، وتخريب مواطن الفسوق وتفريق مجامعه، مع إقامة الحدود الشرعية والسياسية كما تقتضيه رعاية المصالح العامة في المدينة. والله مقلب الليل والنهار، وهو العزيز الجبار، والله تعالى اعلم.
قيادة الأساطيل:
وهي من مراتب الدولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية، ومرؤوسة لصاحب السيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال. ويسمى توجبه في عرفهم البلمند بتفخيم اللام منقولاً من لغة الإفرنجة فأنه اسمها في اصطلاح لغتهم. وإنما أختصت هذه المرتبة بملك إفريقية والمغرب لأنهما جميعا على ضفة البحر الرومي من جهة الجنوب،وعلى عدوته الجنوبية بلاد البربر كلهم

من سبتة إلى الإسكندرية إلى الشام، وعلى عدوته الشمالية بلاد الأندلس والإفرنجة والصقالبة والروم إلى بلاد الشام أيضاً ويسمى البحر الرومي والبحر الشامي نسبة إلى أهل عدوته. والساكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمة من أمم البحار. فقد كانت الروم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي، وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السفن، فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله. ولما أسف من أسف منهم إلى ملك العدوة الجنوبية، مثل الروم إلى إفريقية والقوط إلى المغرب، أجازوا في الأساطيل وملكوها وتغلبوا على البربر بها، وانتزعوا من أيديهم أمرها، وكان لهم بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة. وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب رومة. ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد، فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر الساكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث. ولما ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أن صف لي البحر، فكتب إليه: “أن البحر خلق عظيم، يركبه خلق ضعيف، دود على عود”. فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه. ولم يركبه أحد من العرب إلا من افتات على عمر في ركوبه ونال من عقابه، كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزدي سيد بجيلة لما أغزاه عمان، فبلغه غزوه في البحر، فأنكر عليه وعنفه أنه ركب البحر للغزو. ولم يزل الشأن ذلك حتى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده. والسبب في ذلك أن العرب كانوا لبداوتهم لم يكونوا أول الأمر مهرة في ثقافته وركوبه، والروم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدراية بثقافته.فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولاً لهم وتحت أيديهم، وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمماً وتكررت ممارستهم للبحر

وثقافته، استحدثوا بصراء بها، فشرهوا إلى الجهاد فيه، وأنشئوا السفن فيه والشواني، وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر، وأختصوا بدلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر، وعلى حافته مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس. وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسان بن النعمان عامل إفريقية باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصاً على مراسم الجهاد. ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا، وفتح قو صرة أيضاً في أيامه بعد أن كان معاوية بن حديج اغزي صقلية أيام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه، وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده اسد بن الفرات. وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيديين والأمويين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة، فتجوس خلال السواحل بالإفساد والتخريب. انتهى أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها، وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريباً منه. وكان قائد الأساطيل بالأندلس ابن دماحس، ومرفأها للحط وإلا قلاع بجاية والمرية. وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك، من كل بلد يتخذ فيه السفن أسطول، يرجع نظره إلى قائد من النواتية يدبر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته، ورئيس يدبر أمر جريته بالريح أو بالمجاديف وأمر إرسائه في مرفئه. فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرضٍ سلطاني مهم عسكرت بمرفئها المعلوم وشحنها السلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه، وجعلهم لنظر أميرٍ واحدٍ من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كفهم إليه، ثم يسرحهم لوجههم وينتظر أيابهم بالفتح والغنيمة.وكان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه، وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم، فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم، وملكوا سائر

الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه، مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرص وسائر ممالك الروم والإفرنج. وكان أبو القاسم الشيعي وأبناؤه يغزون أساطيلهم من المهدئة جزيرة جنوة فتنقلب بالظفر والغنيمة. وافتتح مجاهد العامري صاحب دانية من ملوك الطوائف جزيرة سردانية في أساطيله سنة خمس وأربعمائة، وارتجعها النصارى لوقتها. والمسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على كثير من لجة هذا البحر، وسارت أساطيلهم فيهم جائية وذاهبة، والعساكر الإسلامية تجيز البحر في الأساطيل من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية، فتوقع بملوك الإفرنج وتثخن في ممالكهم، كما وقع في أيام بني الحسين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوة العبيديين، انحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي منه، من سواحل الإفرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها. وأساطيل المسلمين قد ضريت عليهم ضراء الأسد على فريسته، وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة وعدداً، واختلفت في طرقه سلماً وحرباً، فلم تسبح للنصرانية فيه ألواح.حتى إذا أدرك الدولة العبيدية والأموية الفشل والوهن، وطرقها الاعتلال مد النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية وإقريطش ومالطة، فملكوها. ثم ألحوا على سواحل الشام في تلك الفترة وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكا، واستولوا على جميع الثغور بسواحل الشام، وغلبوا على بيت المقدس وبنوا عليه كنيسة لإظهار دينهم وعبادتهم، وغلبوا بني خزرون على طرابلس، ثم على قابس وصفاقس ووضعوا عليهم الجزية، ثم ملكوا المهدية مقر ملوك العبيديين من يد أعقاب بلكين بن زيري، وكانت لهم في المائة الخامسة الكرة بهذا البحر. وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن أنقطع، ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد، بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد كما هو معروف في أخبارهم. فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك، وبقيت بأفريقية والمغرب فصارت مختصة بها. وكان الجانب الغربي من هذا

البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوة، لم يتحيفه عدو، ولا كانت لهم به كرة. فكان قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس، ومن أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم وطاعتهم، انتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعاً.ولما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف وأعظم ما عهد. وكان قائد أسطولهم أحمد الصقلي، أصله من صد غيار الموطنين بجزيرة جربة من سرويكش، أسرة النصارى من سواحلها وربي عندهم، واستخلصه صاحب صقلية واستكفاه، ثم هلك وولي ابنه فأسخطه ببعض النزعات، وخشي على نفسه ولحق بتونس، ونزل على السيد بها من بني عبد المؤمن، وأجاز إلى مراكش، فتلقاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرة والكرامة، وأجزل الصلة وقلده أمر أساطيله فجلى في جهاد أمم النصرانية، وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحدين. وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والإستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه. ولما قام صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام لعهده باسترجاع ثغور الشام من يد أمم النصرانية، وتطهير بيت المقدس، تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثغور من كل ناحية قريبة لبيت المقدس الذي كانوا قد استولوا عليه، فأمدوهم بالعدد والأقوات، ولم تقاومهم أساطيل الإسكندرية لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشرقي من البحر، وتعدد أساطيلهم فيه، وضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل. فأوفد صلاح الدين على أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من الموحدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من بيت بني منقذ ملوك شيزر ، وكان ملكها من أيديهم وأبقى عليهم في دولته، فبعث عبد الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالباً مدد الأساطيل لتجول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من إمداد النصرانية بثغور الشام، واصحبه كتابه إليه في ذلك، من إنشاء الفاضل البيساني يقول في افتتاحه:

“فتح الله لسيدنا أبواب المناحج والميامن” حسبما نقله العماد الأصفهاني في كتاب الفتح القيسيَّ فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين وأسرها في نفسه، وحملهم على مناهج البر والكرامة، وردهم إلى مرسلهم ، ولم يجبه إلى حاجته من ذلك. وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنصرانيَةّفي الجانب الشرقي من هذا البحر من الاستطالة وعدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده بشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة.ولما هلك أبو يعقوب المنصور واعتلت دولة الموَّحدين واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس، وألجأوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي، قويت ريحهم في بسيط هذا البحر، واشتدت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم، وتراجعت قوة المسلمين فيه إلى المساواة معهم، كما وقع لعهد السلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب، فإن أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدة النصرانية وعد يدهم.ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر، بكثرة العوائد اليدوية بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسية. ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجته وعلى أعواده. وصار المسلمون فيه كالأجانب إلا قليلاً من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأمصار والأعوان، أو قوة من الدولة تستجيش لهم أعواناً وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكاً. وبقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة الغربية محفوظة، والرسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والركوب معهوداً، لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السلطانية في البلاد البحرية. والمسلمون يستهبون الريح على الكفر وأهله. فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنه لا بد للمسلمين من الكرة على النصرانية وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة، وأن ذلك يكون في الأساطيل. والله ولي المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الفصل الخامس والثلاثون
في التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول
إعلم أن السيفَ والقلمَ كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره. إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم، لأن القلمَ في تلك الحال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني، والسيف شريك في المعونة. وكذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتها كما ذكرناه، ويقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قدمناه، فتحتاج الدولة إلى الأستظهار بأرباب السيوف وتقوى الحاجةُ إليهم في حماية الدولة، والمدافعة عنها، كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها. فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين. ويكون أربابُ السيف حينئذٍ أوسع جاها وأكثر نعمة وأسنى إقطاعاً. وأما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه قد تمهد أمره، ولم يبق همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام، والقلم هو المعين له في ذلك، فتعظم الحاجة إلى تصريفه، وتكون السيوف مهملة في مضاجع أغمادها ، إلا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سد فرجة، وما سوى ذلك فلا حاجة إليها. فيكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاها، وأعلى رتبة، وأعظم نعمة وثروة، وأقرب من السلطان مجلساً، وأكثر إليه تردداً وفي خلواته نجياً، لأنه حينئذٍ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه، والنظر في أعطافه، وتثقيف أطرافه، المباهاة بأحواله، ويكون الوزراء حينئذٍ وأهل السيوف مستغنى عنهم، مبعدين عن باطن السلطان، حذرين على أنفسهم من بوادره. وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم: “أما بعد فأنه مما حفظناه من وصايا الفرس، أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء”. سنة الله في عباده، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الفصل السادس والثلاثون
في شارات الملك والسلطان الخاصة به
إعلم أن للسلطان شارات وأحوالاً تقتضيها الأبهةُ والبذخ فيختص بها ويتميز بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته. فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة، {وفوق كل ذي علم عليم }.[سورة…الآية…]
الآلة: فمن شارات الملك اتخاذُ الآلة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون. وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة، أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب، فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة. ولعمري إنه أمر وجداني في مواطن الحرب يجده كل أحدٍ من نفسه. وهذا السبب الذي ذكره أرسطو -إن كان ذكره- فهو صحيح ببعض الاعتبارات. وأما الحق في ذلك فهو أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك، فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب، ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه. وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم، بانفعال الإبل بالحداء، والخيل بالصفير والصريحُ كما علمت. ويزيد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء. وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى. ولأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية لا طبلاً ولا بوقاً، فيحدقُ المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم، ويغنون، فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة. ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب، فتجيش همم الأبطال بما فيها، ويسارعون إلى مجال الحرب، وينبعث كل قرنٍ إلى قرنه. وكذلك زناتةُ من أمم المغرب. يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف، ويتغنى فيحركُ بغنائه الجبال الرواسي، وببعثُ على

الإستماتة منْ لا يظن بها، ويسمون ذلك الغناء تاصو كايت. وأصله كله فرح يحدث في النفس فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح. والله أعلم.وأما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التهويل لا أكثر، وربما يحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام، وأحوال النفوس وتلويناتها غريبة. والله الخلاق العليم. ثم أن الملوك والدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات، فمنهم مكثر ومنهم مقلل بحسب اتساع الدولة وعظمها. فأما الرايات فأنها شعار الحروب من عهد الخليقة، ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات، لعهد النبي  ومن بعده من الخلفاء. وأما قرع الطبول والنفخ في الأبواق فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه، تنزهاً عن غلظة الملك ورفضا لأحواله، واحتقاراً لأبهته التي ليست من الحق في شيء. حتى إذا انقلبت الخلافة ملكاً وتبجحوا بزهرة الدنيا ونعيمها، ولابسهم الموالي من الفرس والروم أهل الدول السالفة، واروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والترف، فكان مما استحسنوه اتخاذ الآلة فأخذوها، وأذنوا لعمالهم في اتخاذها تنويهاً بالملك وأهله. فكثيراً ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه، ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات والآلات، فلا يميز بين موكب العامل والخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها، أو بما أختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسواد في رايات بني العباس، فأن راياتهم كانت سوداً حزناً على شهدائهم من بني هاشم، ونعياً على بني أمية في قتلهم، ولذلك سموا المسودة.ولما افترق أمر الهاشميين وخرج الطالبيون على العباسيين في كل جهة وعصر، ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضاً وسموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين، ومن خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق، كالداعي بطبرستان وداعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرافضة من غيرهم كالقرامطة.ولما نزع المأمونُ عن لبس السواد

وشعاره في دولته، عدل إلى لون الخضرة، فجعل رأيته خضراء.وأما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد، وقد كانت آلة العبيديين لما خرج العزيز إلى فتح الشام خمسائٍة من البنود وخمسمائٍة من الأبواق.وأما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصوا بلونٍ وأحدٍ، بل وشوها بالذهب واتخذوها من الحرير الخالص ملونةً، واستمروا على الإذن فيها لعمالهم. حتى إذا جاءت دولة الموحدين ومن بعدهم من زناتة قصروا الآلة من الطبول والبنود على السلطان، وحظروها على من سواه من عماله، وجعلوا لها موكباً خاصاً يتبع أثر السلطان في مسيره يسمى الساقة. وهم فيه بين مكثر ومقلًّ باختلاف مذاهب الدول في ذلك: فمنهم من يقتصر على سبعةٍ من العدد تبركاً بالسبعة كما هو في دولة الموحدين، وبني الأحمر بالأندلس، ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناتة. وقد بلغت في أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائةً من الطبول ومائةً من البنود ملونةً بالحرير منسوجة بالذهب، ما بين كبير وصغير. ويأذنون للولاة والعمال والقواد في اتخاذ رايةٍ واحدةٍ صغيرةٍ من الكتان بيضاء وطبل صغير أيام الحرب لا يتجاوزون ذلك.
وأما دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فيتخذون أولاً رايةً واحدةً عظيمةً وفي رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر، وهي شعار السلطان عندهم، ثم تتعدد الرايات ويسمونها السناجق، وأحدها سنجق وهي الراية بلسانهم. وأما الطبول فيبالغون في الاستكثار منها ويسمونها الكوسات ، ويبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فأنه خاص بالسلطان.وأما الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس، فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجو صعداً ومعها قرع الأوتار من الطنابير، ونفخ الغيطات ، يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم، وهكذا يبلغنا عنهم وعمن وراءهم من ملوك العجم. {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].

السرير: وأما السرير والمنبر والتخت والكرسي فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصعيد. ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام، وفي دول العجم. وقد كانوا يجلسون على أسرة الذهب. وكان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما وسلامه كرسي وسرير من عاج، مغشى بالذهب. إلا أنه لا تأخذُ به الدول إلا بعد الاستفحال والترف شأن الأبهة كلها كما قلناه. وأما في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوفون إليه.وأول من اتخذه في الإسلام معاوية واستأذن الناس فيه، وقال لهم: أني قد بدنت فأذنوا له، فاتخذه واتبعه الملوك الإسلاميون فيه وصار من منازع الأبهة. ولقد كان عمرو بن العاص بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب، ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذهب محمولاً على الأيدي لجلوسه شأن الملوك، فيجلس عليه وهو أمامه، ولا يغيرون عليه وفاءً له بما عقد معهم من الذمة واطراحاً لأبهة الملك. ثم كان بعد ذلك لبني العباس والعبيديين وسائر ملوك الإسلام شرقاً وغرباً من الأسرة والمنابر والتخوت ما عفا عن الأكاسرة والقياصرة. والله مقلب الليل والنهار.
السكة: وهي الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة، ويضرب بها على الدينار أو الدرهم، فتخرج رسوم تلك النقوش عليها ظاهرة مستقيمة، بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى، وبعد تقدير أشخاص الدراهم والدنانير بوزن معين صحيح يصطلح عليه، فيكون التعامل بها عدداً، وأن لم تقدر أشخاصها يكون التعامل بها وزناً. ولفظ السكة كان اسماً للطابع، وهي الحديدة المتخذة لذلك، ثم نقل إلى أثرها وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم، ثم نقل إلى القيام على ذلك، والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه، وهي الوظيفة، فصار علماً

عليها في عرف الدول. وهي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات، ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة. وكان ملوك العجم يتخذونها وينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها، مثل تمثال السلطان لعهدها أو تمثيل حصنٍ أو حيوانٍ أو مصنوعٍ أو غير ذلك، ولم يزل هذا الشأن عند العجم إلى آخر أمرهم.ولما جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدين وبداوة العرب. وكانوا يتعاملون بالذهب والفضة وزناً، وكانت دنانير الفرس ودراهمهم بين أيديهم يردونها في معاملتهم إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم، إلى أن تفاحش الغش في الدنانير والدراهم، لغفلة الدولة عن ذلك، وأمر عبد الملك الحجاج، على ما نقل سعيد بن المسيب وأبو الزناد، بضرب الدراهم وتمييز المغشوش من الخالص، وذلك سنة أربٍع وسبعين، وقال المدائني سنة خمس وسبعين، ثم أمر بصرفها في سائر النواحي سنة ست وسبعين، وكتب عليها: “الله أحد الله الصمد”.ثم ولي ابن هبيرة العراق أيام يزيد بن عبد الملك، فجود السكة، ثم بالغ خالد القسري في تجويدها، ثم يوسف بن عمر بعده. وقيل: أول من ضرب الدنانير والدراهم مصعب بن الزبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لما ولي الحجاز، وكتب عليها في أحد الوجهين: “بركة الله ” وفي الأخر “اسم الله “، ثم غيرها الحجاج بعد ذلك بسنةٍ، وكتب عليها اسم الحجاج وقدر وزنها على ما كانت استقرت أيام عمر. وذلك أن الدرهم كان وزنه أول الإسلام ستة دوانق، والمثقال وزنه درهم وثلاثة أرباع درهم، فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل. وكان السبب في ذلك أن أوزان الدرهم أيام الفرس كانت مختلفة وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطاً، ومنها اثنا عشر، ومنها عشرة، فلما احتيج إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط وذلك اثنا عشر قيراطاً، فكان المثقال درهماً وثلاثة أسباع درهمٍ. وقيل كان منها البغلي بثمانية دوانق، والطبري أربعة دوانق، والمغربي ثمانية دوانق، واليمني ستة دوانق، فأمر عمر أن ينظر الأغلبُ في

التعامل، فكان البغلي والطبري وهما اثني عشر دانقاً. وكان الدرهم ستة دوانق، وإن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالاً، وإذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهماً. فلما رأى عبد الملك اتخاذ السًكة لصيانة النقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغش عين مقدارها على هذا الذي استقر لعهد عمر رضي الله عنه، واتخذ طابع الحديد واتخذ فيه كلمات لا صوراً، لأن العرب كان الكلام والبلاغة أقرب مناحيهم وأظهرها، مع أن الشرع ينهى عن الصور. فلما فعل ذلك استمر بين الناس في أيام الملة كلها. وكان الدينار والدرهم على شكلين مدورين، والكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلاً وتحميداً، وصلاة على النبي وآله، وفي الوجه الثاني التاريخ واسم الخليفة. وهكذا أيام العباسيين والعبيديين والأمويين.وأما صنهاجة فلم يتخذوا سكة إلا آخر الأمر، اتخذها منصور صاحب بجاية، ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه. ولما جاءت دولة الموحدين كان مما سن لهم المهدي اتخاذ سكة الدرهم مربع الشكل، وأن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه، ويملأ من أحد الجانبين تهليلاً وتحميداً، ومن الجانب الأخر كتباً في السطور باسمه واسم الخلفاء من بعده، ففعل ذلك الموحدون، وكانت سكتهم على هذا الشكل لهذا العهد. ولقد كان المهدي، فيما ينقل، ينعت قبل ظهوره بصاحب الدرهم المربع، نعته بدلك المتكلمون بالحدثان من قبله، المخبرون في ملاحمهم عن دولته.وأما أهل المشرق لهذا العهد فسكتهم غير مقدرةٍ، وإنما يتعاملون بالدنانير والدراهم وزناً بالصنجات المقدرة بعدة منها، ولا يطبعون عليها بالسكة نقوش الكلمات بالتهليل والصلاة واسم السلطان كما يفعله أهل المغرب. {ذلك تقدير العزيز العليم}.[سورة…الآية…]
ولنختم الكلام في السكة بذكر حقيقة الدرهم والدينار الشرعيين وبيان حقيقة مقدارهما.
مقدار الدرهم والدينار الشرعيين:
وذلك أن الدينار والدرهم مختلفا السكة في المقدار والموازين بالآفاق

والأمصار وسائر الأعمال. والشرع قد تعرض لذكرهما وعلق كثيراً من الأحكام بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها. فلا بد لهما عنده من حقيقة ومقدارٍ معين في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشرعي منهما. فاعلم أن الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب، والأوقية منه أربعين درهماً، وهو على هذا سبعة أعشار الدينار، ووزن المثقال من الذهب اثنتان وسبعون حبةً من الشعير. فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبةً وخمسا حبةٍ. وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع. فأن الدرهم الجاهلي كان بينهم على أنواع أجودها الطبري، وهو أربعة دوانق، والبغلي وهو ثمانية دوانق، فجعلوا الشرعي بينهما وهو ستة دوانق. فكانوا يوجبون الزكاة في مائة درهم بغلية ومائةٍ طبرية خمسة دراهم وسطاً.وقد اختلف الناس هل كان ذلك من وضع عبد الملك، وإجماع الناس بعد عليه كما ذكرناه، ذكر ذلك الخطام في كتاب معالم السنن والماوردي في الأحكام السلطانية، وأنكره المحققون من المتأخرين، لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم، مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه.والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق. وكان مقدارهما غير مشخص في الخارج، وإنما كان متعارفاً بينهم بالحكم الشرعي على المقدر في مقدارهما وزنتهما. حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة، ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشرع ليستريحوا من كلفة التقدير. وقارن ذلك أيام عبد الملك فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج، كما هو في الذهن، ونقش عليهما السكة باسمه وتاريخه أثر الشهادتين الإيمانيتين، وطرح النقود الجاهلية رأساً حتى خلصت ونقش عليها سكة وتلاشى وجودها. فهذا هو

الحق الذي لا محيد عنه.ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم، واختلفت في كل الأقطار والآفاق، ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهناً كما كان في الصدر الأول، وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم، بمعرفة النسبة التي بينها وبين مقاديرها الشرعية.وأما وزن الدينار باثنين وسبعين حبةً من الشعير الوسط فهو الذي نقله المحققون وعليه الإجماع إلا ابن حزم خالف ذلك، وزعم أن وزنه أربعة وثمانون حبةً، نقل ذلك عنه القاضي عبد الحق، ورده المحققون، وعدوه وهماً وغلطاً وهو الصحيح. (والله يحق الحق بكلماته)
وكذلك تعلم أن الأوقية الشرعية ليست هي المتعارفة بين الناس، لأن المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار، والشرعية متحدة ذهناً لا اختلاف فيها. (والله خلق كل شي فقدره تقديراً).
الخاتم:
وأما الخاتم فهو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية. والختم علي الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي  أراد أن يكتب إلى قيصر، فقيل له: أن العجم لا يقبلون كتاباً إلا أن يكون مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه: “محمد رسول الله “.
قال البخاري: “جعل ثلاث كلمات في ثلاثة اسطر وختم به، وقال: لا ينقش أحد مثله “، قال: “وتختم به أبو بكر وعمر وعثمان، ثم سقط من يد عثمان في بئر أريس، وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد، واغتم عثمان وتطير منه وصنع آخر على مثله “. وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه. وذلك أن الخاتم يطلق على الآلة التي
تجعل في الإصبع ، ومنه تختم إذا لبسه. ويطلق على النهاية والتمام، ومنه ختمت الأمر إذا بلغت آخره، وختمت القرآن كذلك، ومنه خاتم النبيين وخاتم الأمر. ويطلق على السداد الذي يسد به الأواني والدنان، ويقال فيه ختام، ومنه قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26]. وقد غلط من فسر هذا بالنهاية والتمام، قال لأن آخر ما يجدونه فم شرابهم ريح المسك، وليس المعنى عليه، وإنما هو من الختام، الذي هو السداد، لأن الخمر

يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار يحفظها ويطيب عرفها وذوقها، فبولغ في وصف خمر الجنة بأن سدادها من المسك، وهو أطيب عرفاً وذوقاً من القار والطين المعهودين في الدنيا.فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشئ عنها.وذلك أن الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في مذاق من الطين أو مداد، ووضع على صفح القرطاس بقي أكثر الكلمات في ذلك الصفح. وكذلك إذا طبع به على جسم لين كالشمع، فأنه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسماً فيه. وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النقش على الاستقامة من اليمنى، وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النقش من الجهة اليسرى، لأن الختم يقلب جهة الخط في الصفح كما كان في النقش من يمين أو يسار. فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطين، ووضعه على الصفح فتنتقش الكلمات فيه، ويكون هذا من معنى النهاية والتمام بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه، كان الكتاب إنما يتم العمل به بهذه العلامات، وهو من دونها ملغى ليس بتمام. وقد يكون هذا الختم بالخط آخر الكتاب أو أوله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح، أو باسم السلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب كائناً من كان، أو شيء من نعوته، يكون ذلك الخط علامة على صحة الكتاب ونفوذه، وسمي ذلك في المتعارف علامة، وسمي ختماً تشبيهاً له بأثر الخاتم الآصفي في النقش، ومن هذا خاتم القاضي الذي يبعث به للخصوم، أي علامته وخطه الذي ينفذ بهما أحكامه، ومنه خاتم السلطان أو الخليفة أي علامته. قال الرشيد ليحيى بن خالد لما أراد أن يستوزر جعفراً ويستبدل به من الفضل أخيه، فقال لأبيهما يحيى: “يا أبت إني أردت أن أحول الخاتم من يميني إلى شمالي “. فكنى له بالخاتم عن الوزارة، لما كانت العلامة على الرسائل والصكوك من وظائف الوزارة لعهدهم. ويشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطبري أن معاوية أرسل إلى

الحسن عند مراودته إياه في الصلح صحيفة بيضاء ختم على أسفلها، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك. ومعنى الختم هنا علامة في آخر الصحيفة بخطه أو غيره. ويحتمل أن يختم به في جسم لين فتنتقش فيه حروفه، ويجعل على موضع الحزم من الكتاب إذا حزم وعلى المودوعات وهو من السداد كما مر. وهو في الوجهين آثار الخاتم، فيطلق عليه خاتم.وأول من أطلق الختم على الكتاب، أي العلامة معاوية، لأنه أمر لعمر بن الزبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف، ففتح الكتاب وصير المائة مائتين ورفع زياد حسابه، فأنكرها معاوية، وطلب بها عمر وحبسه حتى قضاها عنه أخوه عبد الله. واتخذ معاوية عند ذلك ديوان الخاتم ذكره الطبري. وقال آخرون: وحزم الكتب ولم تكن تحزم أي جعل لها السداد. وديوان الختم عبارة عن الكتاب القائمين على إنفاذ كتب السلطان والختم عليها أما بالعلامة أو بالحزم. وقد يطلق الديوان على مكان جلوس هؤلاء الكتاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال.والحزم للكتب يكون أما بدس الورق كما في عرف كتاب المغرب، وأما بلصق رأس الصحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق. وقد يجعل على مكان الدس أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه والإطلاع على ما فيه. فأهل المغرب يجعلون على مكان الدس قطعة من الشمع ويختمون عليها بخاتم نقشت فيه علامة لذلك، فيرتسم النقش في الشمع. وكان في المشرق في الدول القديمة يختم على مكان اللصق بخاتم منقوش أيضاً قد غمس في مذاق من الطين معد لذلك، صبغه احمر فيرتسم ذلك النقش عليه. وكان هذا الطين في الدولة العباسية يعرف بطين الختم، وكان يجلب من سيراف، فيظهر أنه مخصوص بها.فهذا الخاتم الذي هو العلامة المكتوبة أو النقش للسداد، والحزم للكتب خاص بديوان الرسائل. وكان ذلك للوزير في الدولة العباسية. ثم اختلف العرف وصار لمن إليه الترسيل وديوان الكتاب في الدولة. ثم صاروا في دول المغرب يعدون من علامات الملك وشاراته الخاتم للإصبع، فيستجيدون صوغه من الذهب

ويرصعونه بالفصوص من الياقوت والفيروز والزمرد، ويلبسه السلطان شارة في عرفهم، كما كانت البردة والقضيب في الدولة العباسية والمظلة في الدولة العبيدية. والله مصرف الأمور بحكمه.
الطراز:
من أبهة الملك والسلطان ومذاهب الدول أن ترسم أسماؤهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم، من الحرير أو الديباج أو الإبريسم ، تعتبر كتابة خطها في نسج الثوب ألحاماً وإسداء بخيط الذهب، أو ما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب، على ما يحكمه الصناع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم، فتصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز قصد التنويه بلابسها من السلطان فمن دونه، أو التنويه بمن يختصه السلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته لوظيفة من وظائف دولته.وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطراز بصور الملوك وأشكالهم، أو أشكال وصور معينة لذلك. ثم اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب ‎أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو السجلات. وكان ذلك في الدولتين من أبهة الأمور وأفخم الأحوال. وكانت الدور المعدة لنسج أثوابهم في قصورهم تسفي دور الطراز لذلك. وكان القائم على النظر فيها يسمى صاحب الطراز، ينظر في أمور الصباغ والآلة والحاكة فيها، وإجراء أرزاقهم وتسهيل آلاتهم ومشارفة أعمالهم. وكانوا يقلدون ذلك لخواص دولتهم وثقات مواليهم. وكذلك كان الحال في دولة بني أمية بالأندلس، والطوائف من بعدهم، وفي دولة العبيديين بمصر، ومن كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق. ثم لما ضاق نطاق الدول عن الترف والتفنن فيه لضيق نطاقها في الاستيلاء، وتعددت الدول، تعطلت هذه الوظيفة والولاية عليها من أكثر الدول بالجملة.ولما جاءت دولة الموحدين بالمغرب بعد بني أمية أول المائة السادسة، لم يأخذوا بدلك أول دولتهم، لما كانوا عليه من منازع الديانة والسذاجةالتى لقنوها عن إمامهم محمد ابن تومرت الامهدي وكانوايتورعون عن لباس

الحرير والذهب فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم واستدرك منها أعقابهما آخر الدوله طرفاً لم يكن بتلك النباهة وأما لهذا العهد فأدركنا بالمغرب في الدولة المرينية لعنفوانها وشموخها رسماً جليلاً لقنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس، واتبع هو في ذلك ملوك الطوائف، فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر.وأما دولة الترك بمصر والشام لهذا العهد ففيها من الطراز تحرير آخر على مقدار ملكهم وعمران بلادهم إلا أن ذلك لا يصنع في دورهم وقصورهم وليست من وظائف دولتهم، وإنما ينسج ما تطلبه الدولة من ذلك عند صناعه من الحرير ومن الذهب الخالص، ويسمونه المزركش- لفظ أعجمية ويرسم اسم السلطان أو الأمير عليه ويعده الصناع لهم فيما يعدونه للدولة من طرف الصناعة اللائقة بها. والله مقدر الليل والنهار، والله خير الوارثين.
الفساطيط والسياج:
إعلم أن من شارات الملك وترفه اتخاذ الأخبية الفساطيط والفازات من ثياب الكتان والصوف والقطن بجدل الكتان والقطن، فيباهى بها في الإسفار وتنوع منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدولة في الثروة واليسار، وإنما يكون الأمر في أول الدولة في بيوتهم التي جرت عادتهم باتخاذها قبل الملك. وكان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خياماً من الوبر والصوف. ولم تزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم. فكانت أسفارهم لغزواتهم، وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد. وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل، بعبدة ما بين المنازل، متفرقة الأحياء، يغيب كل واحدٍ منها عن نظر صاحبه مع الأخرى كشأن العرب. ولذلك كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد الناس على أثره أن يقيموا إذا ظعن.

ونقل أنه استعمل في ذلك الحجاج حين أشار به روح بن زنباغٍ وقضتها في إحراق فساطيط روح وخيامه لأول ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصة مشهورة. ومن هذه الولاية تعرف رتبة الحجاج بين العرب، فأنه لا يتولى إرادتهم على الظعن إلا من يأمن بوادر السفهاء من أحيائهم، بما له من العصبية الحائلة دون ذلك، ولذلك اختصه عبد الملك بهذه الرتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيته وصرامته.فلما تفننت الدولة العربية في مذاهب الحضارة والبذخ ونزلوا المدن والأمصار وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور، ومن ظهر الخف إلى ظهر الحافر، اتخذوا للسكنى في أسفارهم ثياب الكتان يستعملون منها بيوتا مختلفة الأشكال مقدرة الأمثال من القوراء والمستطيلة والمربعة ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزينة، ويدير الأمير القائد للعساكر على فساطيطه وفازاته من بينهم سياجاً من الكتان يسمى في المغرب بلسان البربر، الذي هو لسان أهله “أفراك” بالكاف التي بين الكاف والقاف، ويختص به السلطان بدلك القطر لا يكون لغيره.وأما في المشرق فيتخذه كل أمير وأن كان دون السلطان. ثم جنحت الدعة بالنساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم، فخص لذلك ظهرهم وتقاربت السياج بين منازل العسكر، واجتمع الجيش والسلطان في معسكر وأحد، يحصرة البصر في بسيطة زهواً أنيقاً لاختلاف ألوانه. واستمر الحال على ذلك في مذاهب الدول في بذخها وترفها.وكذا كانت دولة الموحدين وزناتة التي أظلتنا. كان سفرهم أول أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام والقياطين، حتى إذا أخذت الدولة في مذاهب الترف وسكنى القصور عادوا إلى سكنى الأخبية والفساطيط، وبلغوا من ذلك فوق ما أرادوه وهو من الترف بمكان. إلا أن العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم فيه الصيحة ولخفتهم من الأهل

والولد الذين تكون الاستماتة دونهم، فيحتاج في ذلك إلى تحفظ آخر. والله القوي العزيز.
المقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة:
وهما من الأمور الخلافية ومن شارات الملك الإسلامي، ولم يعرف في غير دول الإسلام.فأما البيت المقصورة من المسجد لصلاة السلطان فيتخذ سياجاً على المحراب، فيحوز، وما يليه. فأول من اتخذها معاوية بن أبي سفيان حين طعنه الخارجي، والقصة معروفة، وقيل أول من اتخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليماني. ثم اتخذها الخنفاء من بعدهما وصارت سنة في تمييز السلطان عن الناس في الصلاة. وهي إنما تحدث عند حصول الترف في الدول والاستفحال شأن أحوال الأبهة كلها. وما زال الشأن ذلك في الدول الإسلامية كلها. وعند افتراق الدولة العباسية وتعدد الدول بالمشرق، وكذا بالأندلس عند انقراض الدولة الأموية وتعدد ملوك الطوائف. وأما المغرب فكان بنو الأ غلب يتخذونها بالقيروان ثم الخلفاء العبيديون، ثم ولاتهم على المغرب من صنهاجة، بنو باديس بفاس، وبنو حماد بالقلعة. ثم ملك الموحدون سائر المغرب والأندلس، ومحوا ذلك الرسم على طريقة البداوة التي كانت شعارهم. ولما استفحلت الدولة وأخذت بحظها من الترف، وجاء أبو يعقوب المنصور ثالث ملوكهم فاتخذ هذه المقصورة، وبقيت من بعده سنة لملوك المغرب والأندلس. وهكذا كان الشأن في سائر الدول. سنة الله في عباده.وأما الدعاء على المنابر في الخطبة فكان الشأن أولاً عند الخلفاء ولأية الصلاة بأنفسهم. فكانوا يدعون لذلك بعد الصلاة بالصلاة على النبي  والرضا عن أصحابه. وأول من اتخذ المنبر عمرو بن العاص لما بنى جامعه بمصر. وأول من دعا للخليفة على المنبر ابن عباس، دعا لعلي رضي الله عنهما في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها، فقال: اللهم أنصر علياً على الحق. واتصل العمل على ذلك فيما بعد. وبعد أخذ

عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطاب ذلك، فكتب إليه عمر بن الخطاب: “أما بعد، فقد بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب المسلمين، أوما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون تحت عقبك، فعزمت عليك إلا ما كسرته “. فلما حدثت الابهة، وحدث في الخلفاء المانع من الخطبة والصلاة استنابوا فيهما. فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويهاً باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه، ولأن تلك الساعة مظنة للإجابة، ولما ثبت عن السلف في قولهم: من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان. وكان الخليفة يفرد بذلك.فلما جاء الحجر والاستبداد صار المتغيبون على الدول كثيراً ما يشاركون الخليفة في ذلك، ويشاد باسمهم عقب اسمه. وذهب ذلك بذهاب تلك الدول، وصار الأمر إلى اختصاص السلطان بالدعاء له على المنبر دون من سواه، وحظر أن يشاركه فيه ويسمو إليه.وكثيراً ما يغفل المعاهدون من أهل الدول هذا الرسم عندما تكون الدولة في أسلوب الغضاضة ومناحي البداوة في التغافل والخشونة، ويقنعون بالدعاء على الإبهام والأجمال لمن ولي أمور المسلمين. ويسمون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عباسية، يعنون بدلك أن الدعاء على الأجمال إنما يتناول العباسي تقليداً في ذلك لما سلف من الأمر، ولا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه والتصريح باسمه. يحكى أن يغمراسن بن زيان، عاهد دولة بني عبد الواد لما غلبه الأمير أبو زكريا يحيى بن أبي حفص على تلمسان، ثم بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها،
كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله، فقال يغمراسن: تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاءوا. وكذلك يعقوب بن عبد الحق عاهد دولة بني مرين، حضره رسول المستنصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص وثالث ملوكهم، وتخفف بعض أيامه عن شهود الجمعة، فقيل له لم يحضر هذا الرسول كراهية لخلو الخطبة من ذكر سلطانه، فأذن في الدعاء له، وكان ذلك سبباً لأخذهم بدعوته. وهكذا شأن الدول في بدايتها وتمكنها في الغضاضة والبداوة. فإذا انتبهت عيون سياستهم

ونظروا في أعطاف ملكهم واستتموا شيات الحضارة ومعاني البذخ وإلابهة، انتحلوا جميع هذه السمات وتفننوا فيها، وتجاروا إلى غايتها، وأنفوا من المشاركة فيها، وجزعوا من افتقادها وخلو دولتهم من آثارها. والعالم بستان. والله على كل شيء رقيب.
الفصل السابع والثلاثون
في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها
إعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ براها الله. وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منها أهل عصبيته. فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان ، إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع، كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل.وسبب هذا الانتقام في الأكثر: أما غيرة ومنافسة، وأما عدوان، وأما غضب لله ولدينه، وأما غضب للملك وسعي في تمهيده. فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة. والثاني، وهو العدوان، أكثر ما يكون من أمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم، لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم، ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم، ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب، ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك، وإنما همهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم. والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد. والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها.فهذه أربعة أصنافٍ من الحروب: الصنفان الأولان منها حروب بغي وفتنة،والصنفان الأخيران حروب جهادٍ وعدلٍ، وصفة الحروب الواقعة بين الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين: نوع بالزحف

صفوفاً، ونوع بالكر والفر. أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كفهم على تعاقب أجيالهم.وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب.وقتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر. وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف، وتسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة، ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدماً. فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدو، لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد، لا يطمع في إزالته.
وفي التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] أي يشد بعضهم بعضا بالثبات. وفي الحديث الكريم: << المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً>>. ومن هنا يظهر لك حكمة أيجاب الثبات وتحريم التولي في الزحف، فأن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه، فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف، وباء بإثم الهزيمة أن وقعت وصار كأنه جرها على المسلمين، وأمكن منهم عدوهم، فعظم الذنب لعموم المفسدة، وتعديها إلى الدين بخرق سياجه، فعد من الكبائر. ويظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع.وأما قتال الكر والفر فليس فيه من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف. إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافاً ثابتاً يلجأون إليه في الكر والفر، ويقوم لهم مقام قتال الزحف كما نذكره بعد.ثم أن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش والعساكر أقساماً، يسمونها كراديس، ويسوون في كل كردوس صفوفه. وسبب ذلك أنه لفا كثرت جنودهم الكثرة البالغة، وحشدوا من قاصية النواحي، استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضاً إذا اختلطوا في مجال الحرب واعتوروا مع عدوهم الطعن والضرب، فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النكراء وجهل بعضهم ببعض، فلذلك كانوا يقسمون العساكر جموعاً ويضمون المتعارفين بعضهم لبعض، ويرتبونها قريباً من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع. ورئيس العساكر

كلها من سلطان أو قائده في القلب. ويسمون هذا الترتيب التعبئة، وهو مذكور في أخبار فارس والروم والدولتين صدر الإسلام. فيجعلون بين يدي الملك عسكراً منفرداً بصفوفه متميزاً بقائده ورأيته وشعاره، ويسمونه المقدمة، ثم عسكراً آخر من ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته يسمون الميمنة، ثم عسكراً آخر من ناحية الشمال كذلك يسفون الميسرة، ثم عسكراً آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة، ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع، ويسمون موقفه القلب. فإذا تم لهم هذا الترتيب المحكم، أما في مدى وأحد للبصر أو على مسافة بعبدة، أكثرها اليوم واليومان بين كل عسكرين منها، أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلة والكثرة، فحينئذٍ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة.وأنظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدولتين بالمشرق، وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلص عن رحيله لبعد المدى في التعبئة، فاحتيج لمن يسوقها من خلفه وعين لذلك الحجاج بن يوسف كما أشرنا إليه، وكما هو معروف في أخباره. وكان في الدولة الأموية بالأندلس أيضاً كثير منه. وهو مجهول فيما لدينا، لأنا إنما أدركنا دولاً قليلة العساكر، لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر، بل أكثر الجيوش من الطائفتين معا يجمعهم لدينا حلة أو مدينة، ويعرف كل وأحد منهم قرنه ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه، فاستغني عن تلك التعبئة.
ضرب المصاف وراء العسكر:
ومن مذاهب أهل الكر والفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم من الجمادات والحيوانات العجم، فيتخذونها ملجأً للخيالة في كرهم وفرهم، يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب. وقد يفعله أهل الزحف أيضاً ليزيدهم ثباتاً وشدة.فقد كان الفرس وهم أهل الزحف، يتخذون الفيلة في الحروب ويحملون عليها أبراجاً من الخشب أمثال الصروح، مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات، ويصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون، فتقوى بذلك نفوسهم

ويزداد وثوقهم.وأنظر ما وقع من ذلك في القادسية، وأن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بها على المسلمين حتى اشتدت رجالات من العرب فخالطوهم وبعجوها بالسيوف على خراطيمها، فنفرت ونكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن، فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرابع.وأما الروم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم، فكانوا يتخذون لذلك الأسرة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب، ويحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه، وترفع الرايات في أركان السرير، ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة، فيعظم هيكل السرير ويصير فئةً للمقاتلة وملجأ للكر والفر. وجعل ذلك الفرس أيام القادسية، وكان رستم جالساً على سرير نصبه لجلوسه، حتى اختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره ذلك، فتحول عنه إلى الفرات وقتل.وأما أهل الكر والفر من العرب واكثر الأمم البدوية الرحالة فيصفون لذلك إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم، ويسمونها المجبوذة، وليس أمة من الأمم إلا وهي تفعل ذلك في حروبها، وتراه أوثق في الجولة، وآمن من الغرة والهزيمة. وهو أمر مشاهد.وقد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة، واعتاضوا عنه بالظهر الحامل للأثقال والفساطيط يجعلونها ساقة من خلفهم، ولا تغني غناء الفيلة والإبل. فصارت العساكر بدلك عرضة للهزائم، ومستشعرة للفرار في المواقف.وكان الحرب أول الإسلام كله زحفاً. وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر. لكن حملهم على ذلك أول الإسلام أمران: أحدهما أن عدوهم كانوا يقاتلون زحفاً فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم، الثاني: أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر، ولما رسخ فيهم من الأيمان، والزحف إلى الإستماتة أقرب.
وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي والحبيري بعده. قال الطبري: لما ذكر قتال الحبيري: “فولى الخوارج عليهم شيبان بن عبد

العزيز اليشكري ويلقب أبا الذلفاء، وقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصف من يومئذٍ، أنتهى. فتنوسي قتال الزحف بإبطال الصف، ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف. وذلك أنها حينما كانت يدوية وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل وسكنى النساء والولدان معهم في الأحياء. فلما حصلوا على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر وتركوا شأن البادية والقفر نسوا لذلك عهد الإبل والظعائن، وصعب عليهم اتخاذها، فخلفوا النساء في الإسفار وحملهم الملك والترف على اتخاذ الفساطيط والأخبية، فاقتصروا على الظهر الحامل للأثقال والأبنية وكان ذلك صفتهم في الحرب. ولا يغني كل الغناء لأنه لا يدعو إلى الإستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال. فيخف الصبر من اجل ذلك وتصرفهم الهيعات وتخرم صفوفهم.
فصل:
ولما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر وتأكده في قتال الكر والفر، صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الإفرنج في جندهم، وأختصوا بدلك لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر. والسلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون ردءاً للمقاتلة أمامه، فلا بد وأن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف، وإلا أجفلوا على طريقة أهل الكر والفر، فانهزم السلطان والعساكر بإجفالهم، فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جنداً من هذه الآفة المتعودة الثبات في الزحف وهم الإفرنج، ويرتبون مصافهم المحدق بهم منها، هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر. وإنما استخفوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك، لأن عادتهم في القتال الزحف، فكانوا أقوم بذلك من غيرهم. مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر، وقتالهم على الطاعة، وأما في الجهاد فلا يستعينون بهم حذراً من ممالأتهم على المسلمين. هذا هو

الواقع بالمغرب لهذا العهد، وقد أبدينا سببه. والله بكل شيء عليم.
فصل:
وبلغنا أن أمم الترك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسهام، وأن تعبئة الحرب عندهم بالمصاف، وأنهم يقسمون بثلاثة صفوف، يضربون صفا وراء صف، ويترجلون عن خيولهم، ويفرغون سهامهم بين أيديهم، ثم يتناضلون جلوساً، وكل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو، إلى أن يتهيأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى. وهي تعبئة محكمة غريبة.
فصل:
وكان من مذاهب الأول في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عندما يتقاربون للزحف، حذراً من معرة البيات والهجوم على العسكر بالليل، لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف، فيلوذ الجيش بالفرار وتجد النفوس في الظلمة ستراً من عاره، فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة. فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم، ويديرون الحفائر نطاقاً عليهم من جميع جهاتهم، حرصاً أن يخالطهم العدو بالبيات، فيتخاذلوا. وكانت للدول في أمثال هذا قوة وعليه اقتدار باحتشاد الرجال، وجمع الأيدي عليه في كل منزل من منازلهم، بما كانوا عليه من وفور العمران وضخامة الملك. فلما خرب العمران وتبعه ضعف الدول وقلة الجنود وعدم الفعلة نسي هذا الشأن جملة كأنه لم يكن. والله خير ا لقادرين.
وصية علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفين:
وأنظر وصية علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفين تجد كثيراً من علم الحرب ولم يكن أحد أبصر بها منه.قال في كلام له: “فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدموا الدارع وأخروا الخاسر. وعضوا على الأضراس، فأنه أنبى للسيوف عن الهام. والتووا على أطراف الرماح، فأنه أصون للأسنة. وغضوا الأبصار، فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب. وأخفتوا الأصوات، فأنه أطرد للفشل وأولى بالوقار. وأقيموا راياتكم، فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم. واستعينوا بالصدق والصبر، فأنه بقدر الصبر ينزل النصر”.وقال الأشتر يومئذٍ يحرض الازد: “عضوا على النواجذ من الأضراس، واستقبلوا القوم بهامكم، وشدوا

شدة قوم موتورين يثأرون بآبائهم وإخوانهم حناقاً على عدوهم، وقد وطنوا على الموت أنفسهم لئلا يسبقوا بوتر، ولا يلحقهم في الدنيا عار.وقد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصيرفي شاعر لمتونة وأهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن علي بن يوسف، ويصف ثباته في حرب شهدها، ويذكره بأمور الحرب في وصايا وتحذيرات تنبهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها:
# يا أيها الملأ الذي يتقنــــــــــــــــع من منكم الملك الهمام الأروع
# ومن الذي غدر العدو به دجـــــى
# تمضي الفوارس والطعان يصدها
# والليل من وضح الترائك أنــــــــه
# أنى فزعتم يا بني صنهاجــــــــــة
# إنسان عين لم يصبه منكـــــــــــم
# وصددتم عن تاشفين وأنـــــــــــه
# ما أنتم إلا أسود خفيـــــــــــــــــة
# يا تاشفين أقم لجيشك عــــــــذره فأنفض كل وهو لا يتزعـــزع
عنه ويدمرها الوفاء فترجـتـــع
صبح على هام الجيوش يلمـــع
وإليكم في الروع كان المفــزع
حضن وقلب أسلمته الأضلــــع
لعقابه لو شاء فيكم موضــــــع
كل لكل كريهة مستطلــــــــــع
بالفيل والعذر الذي لا يدفـــــع
(ومنها في سياسة الحرب):
# أهديك من أدب السياسة ما بــــــه
# لا إنني أدري بها لكنهـــــــــــــــا
# والبس من الحلق المضاعفة التي
# والهندواني الرقيق فأنــــــــــــــه
# واركب من الخيل السوابق عـدة
# خندق عليك إذا ضربت محلــــة
# والواد لا تعبره وأنزل عنــــــده
# واجعل مناجزة الجيوش عشيــة
# وإذا تضايقت الجيوش بمعــرك
# واصدمه أول وهلة لا تكتـــرث
# واجعل من الطلاع أهل شهامة
# لا تسمع الكذاب جاءك مرجفـاً كانت ملوك الفرس قبلك تولـــع
ذكرى تحض المؤمنين وتنفــــع
وصى بها صنع الصنائع تبــــع
سيان تتبع ظافراً أو تتبـــــــــــع
أمضى على حد الدلاص وأقطع
حصناً حصيناً ليس فيه مدفـــــع
بين العدو وبين جيشك يقطـــــع
ووراءك الصدق الذي هو أمنـع
ضنك فأطراف الرماح توســــع
شيئاً فإظهار النكول يضعضـــع
للصدق فيهم شيمة لا تخــــــدع
لا رأي للكذاب فيما يصنــــــــع
قوله: “واصدمه أول وهلة لا تكترث” البيت مخالف لما عليه الناس في أمر الحرب. فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثقفي لما ولاه حرب فارس والعراق فقال له: “اسمع وأطع من أصحاب النبي  وأشركهم في ، ولا تجيبن مسرعاً حتى تتبين، فأنها الحرب ولا يصلح لها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف”.وقال له في أخرى: “أنه لن يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته في الحرب. وفي التسرع في الحرب إلا عن بيان ضياع. والله لولا ذلك لأمرته. لكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث”.هذا كلام عمر، وهو شاهد بأن التثاقل في الحرب أولى من الخوف، حتى يتبين حال تلك الحرب. وذلك عكس ما قاله الصيرفي، إلا أن يريد أن الصدم بعد البيان فله وجه. والله تعالى أعلم.ولا وثوق في الحرب بالظفر وأن حصلت أسبابه من العدة والعديد، وإنما الظفر فيها والغلب من قبيل البخت والاتفاق. وبيان ذلك أن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة وهي الجيوش ووفورها وكمال الأسلحة واستجادتها وكثرة الشجعان وترتيب المصاف، ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك، ومن أمور خفية وهي أما من خدع البشر وحيلهم في الإرجاف والتشانيع التي يقع بها التخذيل وفي التقدم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوهم المنخفض لذلك، وفي الكمون في الغياض ومطمئن الأرض والتواري بالكدى عن العدو حتى يتداولهم العسكر

دفعة، وقد تورطوا، فيتلفتون إلى النجاة، وأمثال ذلك. وأما أن تكون تلك الأسباب الخفية، أموراً سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب، فيستولي الرهب عليهم لأجلها فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة. وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية لكثرة ما يعتمل لكل وأحد من الفريقين فيها حرصاًعلى الغلب، فلا بد من وقوع التأثير في ذلك لأحدهما ضرورة. ولذلك قال  : <<الحرب خدعة>>. ومن أمثال العرب: “رب حيلة أنفع من قبيلة”. فقد تبين أن وقوع الغلب في الحروب غالباً عن أسباب خفية غير ظاهرة، ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت كما تقرر في موضعه. فاعتبره وتفهم من وقوع الغلب عن الأمور السماوية كما شرحناه، معنى قوله  : <<نصرت بالرعب مسيرة شهر>>، وما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل وغلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات. فأن الله سبحانه وتعالى تكفل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يستولي على قلوبهم، فينهزموا، معجزة لرسوله ، فكان الرعب في قلوبهم سبباً للهزائم في الفتوحات الإسلامية كلها،إلا أنه خفي عن العيون.وقد ذكر الطرطوشي: أن من أسباب الغلب في الحروب أن تفضل عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عدتهم في الجانب الأخر، مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشجعان المشاهير وفي الجانب الأخر ثمانية أو ستة عشر، فالجانب الزائد ولو بواحد يكون له الغلب، وأعاد في ذلك وأبدى، وهو راجع إلى الأسباب الظاهرة التي قدمنا، وليس بصحيح. وإنما الصحيح المعتبر في الغلب حال العصبية أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكفهم، وفي الجانب الأخر عصائب متعددة، لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية، إذ تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد، ويكون الجانب الذي عصابته متعددةً لا يقاوم الجانب الذي عصبيته واحدة لأجل ذلك فتفهمه. واعلم أنه اصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي ولم

يحمله على ذلك إلا نسيان شأن العصبية في حفته وبلده، وأنهم إنما يردون ذلك الدفاع والحماية والمطالبة إلى الوحدان، والجماعة الناشئة عنهم، لا يعتبرون في ذلك عصبية ولا نسباً. وقد بينا ذلك أول الكتاب مع أن هذا وأمثاله على تقدير صحته إنما هو من الأسباب الظاهرة مثل اتفاق الجيش في العدة وصدق القتال وكثرة الأسلحة وما أشبهها، فكيف يجعل ذلك كفيلاً بالغلب، ونحن قد قررنا لك الآن أن شيئاً منها لا يعارض الأسباب الخفية من الحيل والخداع ولا الأمور السماوية من الرعب والخذلان الإلهي. فافهمه وتفهم أحوال الكون. والله مقدر الليل والنهار.
فصل:
ويلحق بمعنى الغلب في الحروب وأن أسبابه خفية وغير طبيعية حال الشهرة والصيت. فقل أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس، من الملوك والعلماء والصالحين والمنتحلين للفضائل علي العموم، وكثير ممن اشتهر بالشر وهو بخلافه، وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة وهو أحق بها وأهلها. وقد تصادف موضعها وتكون طبقاً على صاحبها. والسبب في ذلك أن الشهرة والصيت إنما هما بالأخبار، والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل، ويدخلها التعصب والتشيع، ويدخلها الأوهام، ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال، لخفائها بالتلبيسة والتصنع أو لجهل الناقل، ويدخلها التقرب لأصحاب التجلة والمراتب الدنيوية بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بدلك، والنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطاولون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها، وأين مطابقة الحق مع هذه كلها، فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه، وتكون غير مطابقة. وكل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.

الفصل الثامن والثلاثون
في الجباية وسبب قلتها وكثرتها
إعلم أن الجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة، وآخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة. والسبب في ذلك أن الدولة: أن كانت على سنن الدين فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية، وهي قليلة الوزائع، لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت، وكذا زكاة الحبوب والماشية، وكذا الجزية والخراج وجميع المغارم الشرعية، وهي حدود لا تتعدى، وأن كانت على سنن التغلب والعصبية فلا بد من البداوة في أولها كما تقدم، والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتجافي عن أموال الناس، والغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر، فيقل لذلك مقدار الوظيفة الواحدة، والوزيعة التي تجمع الأموال من مجموعها. وإذا قفت الوزائع والوظائف على الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيه، فيكثر الاعتمار ويتزايد محصول الاغتباط بقلة المغرم، وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف الوزائع، فكثرت الجباية التي هي جملتها. فإذا استمرت الدولة واتصلت، وتعاقب ملوكها وأحدا بعد وأحد، واتصفوا بالكيس، وذهب شر البداوة والسذاجة وخلقها من الإغضاء والتجافي، وجاء الملك العضوض والحضارة الداعية إلى الكيس، وتخفق أهل الدولة حينئذ بخلق التحذلق، وتكثرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف، فيكثرون الوظائف الوزائع حينئذ على الرعايا والإكرة والفلاحين وسائر أهل

المغارم، ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقداراً عظيماً لتكثر لهم الجباية، ويضعون المكوس على المبايعات وفي الأبواب كما نذكر بعد، ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرج عوائد الدولة في الترف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه، حتى تثقل المغارم على الرعايا وتنهضم وتصير عادة مفروضة، لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً قليلاً ولم يشعر أحد بمن زادها على التعيين، ولا من هو واضعها، إنما تثبت على الرعايا كأنها عادة مفروضة. ثم تزيد إلى الخروج عن حد الاعتدال، فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع، إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته، فتنقبض كثير من الأيدى عن الاعتمار جملة، فتنقص جملة الجباية حينئذ بنقصان تلك الوزائع منها. وربما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك النقص في الجباية ويحسبونه جبراً لما نقص، حتى تنتهي كل وظيفة ووزيعة إلى غاية ليس وراءها نفع ولا فائدة، لكثرة الإنفاق حينئذ في الاعتمار وكثرة المغارم وعدم وفاء الفائدة المرجوة به. فلا تزال الجملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها، إلى أن ينتقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار، ويعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الاعتمار، عائدة إليها. وإذا فهمت ذلك علمت أن أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن، فبدلك تنبسط النفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه. والله سبحانه وتعالى مالك الأمور كلها، {وبيده ملكوت كل شيء}[سورة يس الآية الأخيرة] .
الفصل التاسع والثلاثون
في ضرب المكوس أواخر الدولة
إعلم أن الدولة تكون في أولها بدوية كما قلنا، فتكون لذلك قليلة الحاجات لعدم الترف وعوائده، فيكون خرجها وأنفاقها قليلاً فيكون في الجباية حينئذٍ وفاء

بأزيد منها، بل يفضل منها كثير عن حاجاتهم. ثم لا تلبث أن تأخذ يدين الحضارة في الترف وعوائدها، وتجري على نهج الدول السابقة قبلها، فيكثر لذلك خراج أهل الدولة، ويكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة بنفقته في خاصته، وكثرة عطائه، ولا تفي بدلك الجباية. فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء، والسلطان من النفقة، فيزيد في مقدار الوظائف الوزائع أولاً كما قلناه، ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية، ويدرك الدولة الهرم،وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية، فتقل الجباية وتكثر العوائد، ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم. فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضربها على البيعات، ويفرض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق، وعلى أعيان السلع في أموال المدينة. وهو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية. وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة، فتكسد الأسواق لفساد الآمال، ويؤذن ذلك باختلال العمران، ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل.وقد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدولة العباسية والعبيدية كثير، وفرضت المغارم حتى على الحاج في الموسم، وأسقط صلاح الدين أيوب تلك الرسوم جملة وأعاضها بآثار الخير. وكذلك وقع بالأندلس لعهد الطوائف حتى محى رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطين. وكذلك وقع بأمصار الجريد بأفريقية لهذا العهد حين استبد بها رؤساؤها. والله تعالى أعلم.
الفصل الأربعون
في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية
إعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد

والنفقات وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها، واحتاجت إلى مزيد المال والجباية، فتارةً توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم كما قدمنا ذلك في الفصل قبله، وتارةً بالزيادة في ألقاب المكوس أن كان قد استحدث من قبل، وتارةً بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم، لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية، لا يظهره الحسبان، وتارةً باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان على تسمية الجباية لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم، وأن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال. فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق، ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد. وهو غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة.فأولاً مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع، وتيسير أسباب ذلك، فأن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب، وإذا رافقهم السلطان في ذلك وماله أعظم كثيراً منهم، فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته، ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد.ثم أن السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غضاً أو بأيسر ثمن، إذ لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه.ثم إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلها كله من زرعٍ أو حريرٍ أو عسلٍ أو سكرٍ أو غير ذلك من أنواع الغلات، وحصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع، فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات، لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة، فيكلفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلاحٍ بشراء تلك البضائع، ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد، فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم، وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضاً جامدةً، ويمكثون عطلاً من الإدارة

التي فيها كسبهم ومعاشهم. وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب راس ماله، فيقعد عن سوقه، ويتعدد ذلك وبتكرر، ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح، ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة، ويؤدي إلى فساد الجباية، فأن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار، لا سيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها، فإذا أنقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة، ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش.
وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل. ثم أنه ولو كان مفيداً فيذهب له بحظ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع، فأنه من البعيد أن يوجد فيه من المكس. ولو كان غيره في تلك الصفقات لكان تكسبها كلها حاصلاً من جهة الجباية. ثم فيه التعرض لأهل عمرانه، واختلال الدولة بفسادهم ونقصه، فأن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت بالنفقات، وكان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك. وكان الفرس لا يملكون عليهم إلا من أهل بيت المملكة، ثم يختارونه من أهل الفضل والدين والأدب والسخاء والشجاعة والكرم، ثم يشترطون عليه مع ذلك العدل، وأن لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه، ولا يتاجر فيحب غلاء الأسعار في البضائع، وأن لا يستخدم العبيد فأنهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة.واعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولا يدر موجوده إلا الجباية وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال، والنظر لهم بدلك، فبدلك تنبسط آمالهم، وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها، فتعظم منها جباية

السلطان. وأما غير ذلك من تجارةٍ أو فلحٍ فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة. وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان، أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم، ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاءون، ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن. وهذه أشد من الأولى وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم. وربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف، أعني التجار والفلاحين لما هي صناعته التي نشأ عليها، فيحمل السلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعاً،ولا سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم ولا مكس، فأنها اجدر بنمو الأموال، وأسرع في تثميره، ولا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته. فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض عن سعايتهم المضرة بجبايته وسلطانه، والله يلهمنا رشد أنفسنا، وينفعنا بصالح الأعمال، والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والأربعون
في أن ثروة السلطان وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة
والسبب في ذلك أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل والعصبية بمقدار غنائهم وعصبيتهم، ولأن الحاجة إليهم في تمهيد الدولة كما قلناه من قبل. فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عما يسمون إليه من الجباية، معتاض عن ذلك بما هو يروم من الاستبداد عليهم، فله عليهم عزة وله إليهم حاجة. فلا يطير في سهمانه من الجباية إلا الأقل من حاجته. فتجد حاشيتة لذلك وأذياله من الوزراء والكتاب والموالي مملقين في الغالب، وجاههم متقلص لأنه من جاه مخدومهم، ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيته.

فإذا استفحلت طبيعة الملك، وحصل لصاحب الدولة الاستبداد على قومه، قبض أيديهم عن الجبايات، إلا ما يطير لهم بين الناس في سهمانهم، وتقل حظوظهم إذ ذاك لقفة غنائهم في الدولة، بما أنكبح من أعنتهم، وصار الموالي والصنائع مساهمين لهم في القيام بالدولة وتمهيد الأمر، فينفرد صاحب الدولة حينئذٍ بالجباية أو معظمها، ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنفقات في مهمات الأحوال، فتكثر ثروته وتمتلئ خزائنه ويتسع نطاق جاهه ويعتز على سائر قومه، فيعظم حال حاشيته وذويه، من وزير وكاتبٍ وحاجبٍ ومولى وشرطي ويتسع جاههم، ويقتنون الأموال ويتأثلونها. ثم إذا أخذت الدولة في الهرم بتلاشي العصبية وفناء القبيل المعاهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذٍ إلى الأعوان والأنصار، ولكثرة الخوارج والمنازعين والثوار، وتوهم الانتقاض، فصار خراجه لظهرائه وأعوانه، وهم أرباب السيوف وأهل العصبيات، وأنفق خزائنه وحاصله في مهمات الدولة، وقلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء والإنفاق، فيقل الخراج وتشتد حاجة الدولة إلى المال، فيتقلص ظل النعمة والترف عن الخواص والحجاب والكتاب بتقلص الجاه عنهم، وضيق نطاقه على صاحب الدولة. ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة، ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة. ويرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم، فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسهِ شيئاً فشيئاً وواحداً بعد وأحدٍ، على نسبة رتبهم وتنكر الدولة لهم، ويعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثروة والنعمة من بطانتها، ويتقوض بدلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه.وأنظر ما وقع من ذلك لوزراء الدولة العباسية في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم، في الدولة الأموية بالأندلس عند

انحلالها أيام الطوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حديرة وبني برد وأمثالهم، وكذا في الدولة التي أدركناها لعهدنا. سنة الله التي قد خلت في عباده.
فصل:
ولما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان، بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر، ويرون أنه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته. وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة أحوالهم ودنياهم.واعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع. فأن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه، فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين، ولا أهل العصبية المزاحمون له، بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بدلك، لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها،ولا سيما عند استفحال الدولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتخلق بالشر. وأما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان وحاشيته وأهل الرتب في دولته، فقل أن يخلى بينه وبين ذلك أما أولاً فلما يراه الملوك أن ذويهم وحاشيتهم، بل وسائر رعاياهم مماليك لهم، مطلعون على ذات صدورهم، فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضنا بأسرارهم وأحوالهم أن يطلع عليها أحد، وغيرة من خدمته لسواهم. ولقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس، فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم، وما أبيح الحج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية ورجوعها إلى الطوائف. وأما ثانياً فأنهم وأن سمحوا بحل ربقته هو فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال، لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم، إذ لم يكتسب إلا بها وفي ظل جاهها، فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به. ثم إذا توهمنا أنه خلص بدلك المال إلى قطر آخر، وهو في النادر الأقل، فتمتد إليه أعين الملوك بدلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتخويف تعريضاً أو

بالقهر ظاهراً، لما يرون أنه مال الجباية والدول، وأنه مستحق للأنفاق في المصالح. وإذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة واليسار المكتسبين من وجوه المعاش، فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية والدول التي تجد السبيل إليه بالشرع والعادة. ولقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بأفريقية الخروج عن عهدة الملك واللحاق بمصر فراراً من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس، فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده، وركب السفين من هنالك؛ وخلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت والذخيرة، وباع كل ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجواهر، حتى الكتب، واحتمل ذلك كله إلى مصر ونزل على الملك الناصر محمد بن قلاون، سنة سبع عشرة من المائة الثامنة؛ فأكرم نزله ورفع مجلسه، ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئاً فشيئاً بالتعريض إلى أن حصل عليها، ولم يبق معاش ابن اللحياني إلا في جرايته التي فرضت له؛ إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره. فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الذي يعتري أهل الدول لما يتوقعونه من ملوكهم من المعاطب، وإنما يخلصون أن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم؛ وما يتوقعونه من الحاجة فغلط ووهم. والذي حصل لهم من الشهرة بخدمة الدول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السلطانية أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التجارة والفلاحة. والدول أنساب؛ لكن:
# النفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
والله سبحانه هو الرزاق، وهو الموفق بمنه وفضله، والله أعلم.

الفصل الثاني والأربعون
في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية
والسبب في ذلك أن الدولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم، ومنه مادة العمران. فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات ، أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها، قل حينئذٍ ما بأيدي الحاشية والحامية، وانقطع أيضاً ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم، وقلت نفقاتهم جملة وهم معظم السواد، ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم. فيقع الكساد حينئذٍ في الأسواق، وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك؛ لان الخراج والجباية إنما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب الناس للفوائد والأرباح. ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذٍ بقفة الخراج. فإن الدولة كما قلناه هي السوق الأعظم، أم الأسواق كلها، وأصلها ومادتها في الدخل والخرج، فإن كسدت وقفت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه. وأيضاً فالمال إنما هو متردد بين الرعية والسلطان منهم إليه، ومنه إليهم، فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية. سنة الله في عباده.
الفصل الثالث والأربعون
في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
إعلم أن العدوان على الناص في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها

لما يرونه حينئذٍ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم. وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران ووفوره ونفاق أشواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن القطر، وخلت دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان؛ لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة.وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام، وما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم والغفلة عن عائدته على الدولة، بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها، فقال له: أن بوما ذكراً يروم نكاح بوم أنثى، وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها؛ وقال لها: أن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية، وهذا أسهل مرام. فتنئه الملك من غفلته وخلا بالموبذان وسأله عن مراده، فقال له: أيها الملك أن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة، والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك؛ ولا عز للملك إلا بالرجال؛ ولا قوام للرجال إلا بالمال؛ ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة؛ ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل. والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرث وجعل له قيماً، وهو الملك وأنت أيها الملك عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها

وعمارها؛ وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال، وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة، فتركوا العمارة، والنظر في العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك. ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع؛ فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم، وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها، فقلت العمارة وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية، وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع المواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها.فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه، وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة وردت على أربابها، وحملوا على رسومهم السالفة، وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم، فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج، وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور، وأقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه، فحسنت أيامه وانتظم ملكه. فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران، وأن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض.ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها، ولم يقع فيها خراب. واعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر. فلما كان المصر كبيراً وعمرانه كثيراً وأحواله متسعةً بما لا ينحصر، كان وتوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيراً؛ لان النقص إنما يقع بالتدريج. فإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين. وقد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجيء الدولة الأخرى، فترفعه بجدتها، وتجبر النقص الذي كان خفيًا فيه، فلا يكاد يشعر به، إلا أن ذلك في الأقل النادر.والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه، ووباله عائد على الدول.ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غيم عوضٍ ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ فلك أحدٍ أو غضبه في عمله أو طالبه بغير حقً أو فرض عليه

حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائذ على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله.واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحريمه مهماً. وأدلته من القرآن والسنة كثير؛ أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر.ولو كان كل واحدٍ قادراً عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع، التي يقدر كل أحدٍ على اقترافها من الزنا والقتل والسكر. إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه، لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان، فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه، عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه. (وما ربك بظلام للعبيد).ولا تقولن أن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع، وهي من ظلم القادر؛ لان المحارب زمن حرابته قادر. فإن في الجواب عن ذلك طريقين. أحدهما أن تقول: العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أو مال على ما ذهب إليه كثير، وذلك إنما يكون بعد القدرة عليه والمطالبة بجنايته، وأما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة. الطريق الثاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة؛ فهي المؤذنة بالخراب؛ وأما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال؛ والمدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعاً وسياسة؛فليست من القدر المؤذن بالخراب. والله قادر على ما يشاء.

فصل:
ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق. وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق؛ لأان الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران.فإذا مساعيهم وأعمالهم كفها متمولات ومكاسب لهم، بل لا مكاسب لهم سواها؛ فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك. فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخرًيا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة. وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملة فأدى إلى انتقاض العمران وتخريبه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الاحتكار:
وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس، بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع. وربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التواحي والتعجيل، فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء، إلى بيعها بأبخس الأثمان، وتعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم. وقد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة والواردين من الآفاق في البضائع، وسائر السوقة، وأهل الدكاكين في المآكل والفواكه، وأهل الصنائع فيما يتخذ من الآلات والمواعين، فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات، وتتوالى على الساعات، وتجحف برؤوس الأموال، ولا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح، ويتثاقل الوارد ون من الآفاق لشراء البضائع وبيعها من اجل ذلك، فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرعايا، لأن عامته من البيع والشراء. وإذا كانت الأسواق عطلاً منها بطل معاشهم، وتنقصُ جبايةُ

السلطان أو تفسد، لأن معظمها من أوسط الدولة، وما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه. ويؤول ذلك إلى تلاشي الدولة وفساد عمران المدينة. ويتطرق هذا الخلل على التدريج ولا يشعر به.هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأما أخذها مجاناً والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وإعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة، وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض.ومن أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله وشرع المكايسة في البيع والشراء، وحظر أكل أموال الناس بالباطل سًدا لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش. واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال، فتكثرُ نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة، فيستحدثون ألقاباً ووجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج. ثم لا يزال الترف يزيد، والخرج بسببه يكثر، والحاجة إلى أموال الناس تشتد، ونطاق الدولة بذلك يزيد، إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها. والله أعلم.
الفصل الرابع والأربعون
في الحجاب كيف يقع في الدول وأنه يعظم عند الهرم
إعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه، لأنه لا بد لها من العصبية التي بها يتم أمرها ويحصل استيلاؤها، والبداوة هي شعار العصبية، والدولة أن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك؛ وإن كان قيامها بعز الغلب فقط، فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضاً عن منازع الملك ومذاهبه. فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الإذن.فإذا رسخ عزه وصار إلى الانفراد

ٍ بالمجد، واحتاج إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه، لما يكثر حينئذٍ من بحاشيته، فيطلب الانفراد عن العامة ما استطاع، ويتخذ الإذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته، ويتخذ حاجباً له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة.ثم إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعه استحالت أ خلاق صاحب الدولة إلى أخلاق الملك، وهي أ خلاق غريبة مخصوصة، يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها. وربما جهل تلك الخلق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم، فسخطوه وصاروا إلى حالة الانتقام منه. فانفرد بمعرفة هذه الآداب الخواص من أوليائهم، وحجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت، حفظاً على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم، وعلى الناس من التعرض لعقابهم.فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول، يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء، ويحجب دونه من سواهم من العامة. والحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء، ويحجب دونه من سواهم من العامة. والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا، كما حدث لأيام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية، وكان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جرياً على مذهب الاشتقاق الصحيح.ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف والعز ما هو معروف، وكملت خلق الملك على ما يجب فيها، فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني، وصار اسم الحاجب أخص به، وصار بباب الخلفاء داران للعباسية: دار الخاصة؛ ودار العامة، كما هو مسطور في أخبارهم.ثم حدث في الدول حجاب ثالث أخص من الأولين، وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة. وذلك أن أهل الدولة وخواص الملك إذا نصبوا الأبناء من

الأعقاب، وحاولوا الاستبداد عليهم، فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنه بطانة أبيه وخواص أوليائه، يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة، وفساد قانون ا أدب، ليقطع بذلك لقاء الغير، ويعوده ملابسة أخلاقه هو، حتى لا يتبدل به سواه، إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه، فيكون هذا الحجاب من دواعيه. وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر. ويكون دليلا على هرم الدولة ونفاد تؤتها. وهو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم؛ لأن القائمين بالدولة يحاولون ذلك بطباعهم عند هرم الدولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم، لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك وخصوصا مع الترشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه.
الفصل الخامس والأربعون
في انقسام الدولة الواحدة بدولتين
إعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها. وذلك أن الملك عندما يستفحل ويبلغ من أحوال الترف والنعيم إلى غايتها، ويستبد صاحب الدولة بالمجد وينفرد به، يأنف حينئذٍ عن المشاركة، ويصير إلى قطع أسبابها ما استطاع، بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشحين لمنصبه. فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم، ونزعوا إلى القاصية واجتمع إليهم من يلحق بهم، مثل حالهم من الاغترار والاسترابة. ويكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق ورجع عن القاصية؛ فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها. ولا يزال أمره يعظم بتراجع نطاق الدولة، حتى يقاسم الدولة أو يكاد.وانظر ذلك في الدولة الإسلامية العربية حين كان أمرها حريزاً مجتمعاً، ونطاقهاً ممتداً في الاتساع، وعصبية بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر، فلم ينبض عرق من الخلاف سائر أيامه؛ إلا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم، لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة، ولم يتم

أمرهم لمزاحمتهم العصبية القوية.ثم لما خرج الأمر من بني أمية، واستقل بنو العباس بالأمر، وكانت الدولة العربية قد بلغت الغاية من الغلب والترف، وآذنت بالتقلص عن القاصية، نزع عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، قاصية دولة الإسلام، فاستحدث بها ملكاً واقتطعها عن دولتهم وصير الدولة دولتين. ثم نزع إدريس إلى المغرب وخرج به وقام بأمره، وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربة ومغيلة وزناتة، واستولى على ناحية المغربين. ثم ازدادت الدولة تقلصاً فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم. ثم خرج الشيعة وقام بأمرهم كتامة وصنهاجة، واستولوا على أفريقية والمغرب، ثم مصر والشام والحجاز، وغلبوا على الأدارسة، وقسموا الدولة دولتين أخريين، وصارت الدولة العربية ثلاث دول: دولة بني العباس بمركز العرب، وأصلهم ومادتهم الإسلام؛ ودولة بني أمية المجددين بالأندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق؛ ودولة العبيديين بأفريقية ومصر والشام والحجاز. ولم تزل هذه الدول إلى أن أصبح انقراضها متقارباً أو جميعاً.وكذلك انقسمت دولة بني العباس بدول أخرى: وكان بالقاصية بنو ساسان فيما وراء النهر وخراسان؛ والعلوية في الديلم وطبرستان؛ وآل ذلك إلى استيلاء الديلم على العراقين وعلى بغداد والخلفاء. ثم جاء السلجوقية فملكوا جميع ذلك. ثم انقسمت دولتهم أيضاً بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم.وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب وأفريقية، لما بلغت إلى غايتها أيام باديس بن المنصور، خرج عليه عمه حماد واقتطع ممالك الغرب لنفسه، ما بين جبل أوراس إلى تلمسان وملوية، واختط القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة، ونزلها واستولى على مركزهم أشير بجبل تيطري، واستحدث ملكاً آخر قسيماً لملك آل باديس، وبقي آل باديس بالقيروان وما إليها، ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعاً.وكذلك دولة الموحدين لما تقلص ظلها ثار بأفريقية بنو أبي حفص فاستقلوا بها، واستحدثوا ملكاً لأعقابهم بنواحيها. ثم لما استفحل أمرهم واستولى على الغاية، خرج على الممالك الغربية من

أعقابهم الأمير أبو زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم، واستحدث ملكاً بجباية وقسنطينة وما إليها، أورثه بنيه، وقسموا به الدولة قسمين، ثم استولواعلى كرسي الحضرة بتونس، ثم انقسم الملك ما بين أعقابهم، ثم عاد الاستيلاء فيهم.وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاثٍ وفي غير أعياص الملك من قومه، كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس، وملوك العجم بالمشرق، وفي ملك صنهاجة بأفريقية؛ فقد كان لأخر دولتهم في كل حصن من حصون أفريقية ثائر مستقلً بأمره كما نقدم ذكره. وكذا حالُ الجريد والزاب من أفريقية ُقبيل هذا العهد كما نذكره.وهكذا شأن كل دولةٍلإ بد وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالترف والدعة ولقلص ظل الغلب، فيقتسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر وتتعدد فيها الدول والله وارثُ الأرض ومن عليها.
الفصل السادس والأربعون
في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع
قد قدمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحداً بعد واحدٍ، وبينا أنها تحدث للدولة بالطبع، وأنها كلها أمور طبيعية لها. وإذا كان الهرم طبيعياً في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية، كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني. والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها؛ لما أنه طبيعي، والأمور الطبيعية لا تتبذل. وقد يتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة فم السياسة، فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم، ويظن انه ممكن الارتفاع، فيأخذ نفسه بتلافي الدولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهم م، وبحسبه انه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم؛ وليس كذلك، فإنها أمور طبيعية للدولة، والعوائد هي المانعة له من تلافيها. والعوائد منزلة طبيعية أخرى؛ فإن من أدرك مثلا أباه وأكثر

أهل بيته يلبسون الحرير والديباج ويتحلون بالذهب في السلاح والمراكب، ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات، فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزي والاختلاط بالناس؛ إذ العوائد حينئذٍ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه. ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة، وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه.وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها، لولا التأييد الإلهي والنصر السماوي. وربما تكون العصبية قد ذهبت فتكون الأبهة تعوض عن موقعها من النفوس. فإذا أزيلت تلك الأبهة مع ضعف العصبية تجاسرت الرعايا على الدولة بذهاب أوهام الأبهة؛ فتتدرع الدولة بتلك الأبهة ما أمكنها حتى ينقضي الأمر.وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها إيماضة الخمود، كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال، وهي انطفاء. فاعتبر ذلك، ولا تغفل سر الله تعالى وحكمته في اطراد وجوده على ما قدر فيه. (ولكل أجل كتاب).
الفصل السابع والأربعون
في كيفية طروق الخلل للدولة
إعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما. فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند؛ والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. والخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين. فلنذكر أولاً طروق الخلل في الشوكة والعصبية؛ ثم نرجع إلى طروقه في المال والجباية.
1- واعلم أن تمهيد الدولة وتأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبية، وانه لا بد من عصبية كبرى جامعةٍ للعصائب مستتبعةٍ لها، وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرةٍ وقبيلةٍ. فإذا جاءت الدولة طبيعةُ الملك من الترف وجدع أنوف أهل

العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته وذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك؛ فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم. لمكانهم من الملك والعز والغلب ، فيحيط بهم هادمان وهما الترف والقهر. ثم يصير القهر آخراً إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر، فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعودوا الكثير منه، فيهلكون ويقفون وتفسد عصبية صاحب الدولة منهم، وهي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها، فتنحل عروتها وتضعف شكيمتها، وتستبدل عنها بالبطالة من موالي النعمة وصنائع الإحسان ويتخذ منهم عصبية؛ إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية، لفقدان الرحم والقرابة منها. وقد كنا قدمنا أن شأن العصبية وقوتها إنما هي بالقرابة والرحم، لما جعل الله في ذلك. فينفرد صاحب الدولة عن العشير والأنصار الطبيعية، ويحس بذلك أهل العصائب أخرى، فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسراً طبيعياً فيهلكهم صاحب الدولة، ويتبعهم بالقتل واحداً بعد واحدٍ. ويقلد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول؛ مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا. فيستولي عليهم الهلاك بالترف والقتل، حتى يخرجوا عن صبغة تلك العصبية ويفشوا بعزتها ويصيروا إوجز على الحماية، ويقلون لذلك، فتقل الحامية التي تنزل بالأطراف والثغور؛ فيتجاسر الرعايا على نقض الدعوة في الأطراف، ويبادر الخوارج على الدولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذٍ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية إليهم. ولا يزال يتدرج ونطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة. وربما انقسمت الدولة عند ذلك بدولتين أو ثلاثٍ، على قدر قوتها في الأصل كما قلناه، ويقوم بأمرها غير أهل عصبيتها، لكن إذعاناً لأهل عصبيتها ولغلبهم المعهود.واعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام؛ انتهت أولاً إلى الأندلس والهند والصين

. وكان أمر بني أمية نافذاً في جميع العرب بعصبية بني عبد مناف، حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك من دمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يرد أمره. ثم تلاشت عصبية بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا.وجاء بنو العباس فغضوا من أعنة بني هاشم وقتلوا الطالبيين وشردوهم، فانحلت عصبية عبد مناف وتلاشت، وتجاسر العرب عليهم، فاستبد عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بأفريقية وأهلى الأندلس وغيرهم، وانقسمت الدولة. ثم خرج بنو إدريس بالمغرب، وقام البربر بأمرهم إذعاناً للعصبية التي لهم، وأمناً أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدولة.فإذا خرج الدعاة آخراً فيتغلبون على الأطراف والقاصية، وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدولة. وربما يزيد ذلك متى زادت الدولة تقلصاً، إلى أن ينتهي إلى المركز، وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف، فتهلك وتضمحل، وتضعف الدولة المنقسمة كلها.
وربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فيستغني بذلك عن قوة العصائب، ويكفي صاحبها، بما حصل لها في تمهيد أمرها الأجراء على الحامية من جندي ومرتزق. ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم فلا يكاد أحد أن يتصور عصياناً أو خروجاً إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له؛ فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده. وربما كانت الدولة في هذا الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التسليم والانقياد لهم. فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة؛ فيكون أسلم من الهرج والانتقاض الذي يحدث من العصائب والعشائر. ثم لا يزال أمر الدولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها، شان الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء، إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور. (ولكل أجل كتاب)، ولكل دولة أمد. (والله يقدر الليل والنهار)، وهو

الواحد القهار.2- وأما الخلل الذي يتطرق من جهة المال، فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر، فيكون خلق الرفق بالرعايا والقصد في النفقات، والتعفف عن الأموال، فتتجافى عن الإمعان في الجباية، والتحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمال، ولا داعية حينئذٍ إلى الإسراف في النفقة، فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال. ثم يحصل الاستيلاء ويعظم، ويستفحل الملك، فيدعو إلى الترف، ويكثر الإنفاق بسببه؛ فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم، بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر، ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة. ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات، وينتشر ذلك في الرعية، لأن الناس على دين ملوكها وعوائدها. ويحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه، ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده. ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس، وتكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرعايا، فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا، من مكس أو تجارةٍ أو نقدٍ في بعض الأحوال، بشبهة أو بغير شبهة. ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسر على الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم، وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم، ولا تجد عن ذلك وليجة. ويكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم، وبما اتسع لذلك من جاههم، فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية، وتفشو السعاية فيهم بعضهم عن بعض للمنافسة والحقد، فتعمهم النكبات والمصادرات واحداً واحداً إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم، ويفقد ما كان للدولة من الأبهة والجمال بهم. فإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم. ويكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة، وضعفت عن الاستطالة والقهر، فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذٍ إلى مداراة الأمور ببذل المال، ويراه أرفع من

السيف لقلة غنائه. فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند، ولا يغني فيما يريد. ويعظم الهرم بالدولة ويتجاسر عليها أهل النواحي؛ والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه، إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعرض لاستيلاء الطلاب. فإن قصدها طالما انتزعها من أيدي القائمين بها، وإلا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفئ. والله مالك الأمور ومدبر الأكوان، لا إله إلا هو.
الفصل الثامن و الأربعون
فصل في اتساع نطاق الدولة
أولاً إلى نهايته ثم تضايقه طوراً بعد طور
إلى فناء الدولة واضمحلالها
قد كان تقدم لنا في فصل الخلافة والملك، وهو الثالث من هذه المقدمة، أن كل دولة لها حصة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها. واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على حماية أقطارها وجهاتها. فحيث نفد عددهم فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر؛ ويحيط بالدولة من سائر جهالها كالنطاق. وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى. وقد يكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها. وهذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة البأس. فإذا استفحل العز والغلب وتوفرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات، وزخر بحر الترف والحضارة ونشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية ورقت

حواشيهم. وعاد من ذلك إلى نفوسهم هيئات الجبن والكسل، بما يعانونه من ضنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجولية، بمفارقة البداوة وخشونتها، وبأخذهم العز بالتطاول إلى الرياسة والتنازع عليها؛ فيفضي إلى قتل بعضهم ببعض، ويكبحهم السلطان عن ذلك بما يؤدي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم؛ فتفقد الأمراء والكبراء، ويكثر التابع والمرؤوس، فيفل ذلك من حد الدولة، ويكسر من شوكتها. ويقع الخلل الأول في الدولة، وهو الذي من جهة الجند والحامية كما تقدم. ويساوق ذلك السرف في النفقات بما يعتريهم من أبهة العز، وتجاوز الحدود بالبذخ؛ بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السلاح وارتباط الخيول، فيقصر دخل الدولة حينئذٍ عن خرجها ويطرق الخلل الثاني في الدولة وهو الذي من جهة المال والجباية. ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين. وربما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم. وربما اعتز أهل الثغور والأطراف بما يحسون من ضعف الدولة وراءهم، فيصيرون إلى الاستغلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات، ويعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة، فيضيق نطاق الدولة عما كانت انتهت إليه في أولها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه من العجز والكسل في العصابة وقفة الأموال والجباية. فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قبل الجند والمال والولايات، ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق، ومقايسة ذلك بأول الدولة في سائر الأحوال. والمفاسد مع ذلك متوقعة من كل جهة. فيحدث في هذا الطور من بعد ما حدث في الأول من قبل. ويعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول، ويقايس

بالوزان الأول أحوالها الثانية، يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدد في كل طور ويأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك، ويقع فيه ما وقع في الأول. فكل واحدٍ من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى، ومجددون ملكاً. حتى تنقرض الدولة، وتتطاول الأمم حولها إلى التغلب عليها وإنشاء في دولة أخرى لهم، فيقع من ذلك ما قدر الله وقوعه.
واعتبر ذلك في الدولة الإسلامية كيف اتسع نطاقها بالفتوحات والتغلب على أمم، ثم تزايد الحامية وتكاثر عددهم بما تخولوه من النعم والأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أمية وغلب بنو العباس. ثم تزايد الترف، ونشأت الحضارة، وطرق الخلل، فضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدولة الأموية المر وانية والعلوية، واقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها، إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد، وظهر دعاة العلوية من كل جانب، وتمهدت لهم دول، ثم قتل المتوكل، واستبد الأمراء على الخلفاء وحجروهم، واستقل الولاة بالعمالات في الأطراف. وانقطع الخراج منها، وتزايد الترف. وجاء المعتضد فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة اقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه، مثل بني سامان وراء النهر وبني طاهر العراق وخراسان، وبني الصفار السند وفارس، وبني طولون مصر، وبني الأغلب أفريقية، إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم، واستبد بنو بويه والديلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة، وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر، وتطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه. ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم، إلى أن تلاشت دولهم. واستبد الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين. وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن

طولى بن دوشي خان ملك التتر والمغل حين غلبوا السلجوقية وملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام. وهكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول. ولا يزال طوراً بعد طورٍ إلى أن تنقرض الدولة. واعتبر ذلك في كل دولة عظمت أو صغرت. فهكذا سنة الله في الدول إلى أن يأتي ما قدر الله من الفناء على خلقه. و{كل شيء هالك إلا وجهه }[سورة القصص الآية 88].

الفصل التاسع والأربعون
في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع
إعلم أن نشأة الدول وبدايتها إذا أخذت الدولة المستقرة في الهرم والانتقاص يكون على نوعين:إما بأن يستبد ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلص ظلها عنهم، فتكون لكل واحدٍ منهم دولة يستجدها لقومه وما يستقر في نصابه، يرثه عنه أبناؤه أو مواليه، ويستفحل لهم الملك بالتدريج، وربما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه، ويتنازعون في الاستئثار به، ويغلب منهم من يكون له فضل قوةٍ على صاحبه، وينتزع ما في يده؛ كما وقع في دولة بني العباس حين أخذت دولتهم في الهرم، وتقلص ظلها عن القاصية، واستبد بنو ساسان بما وراء النهر، وبنو حمدان بالموصل والشام، وبنو طولون بمصر؛ وكما وقع بالدولة الأموية بالأندلس وافترق ملكها في الطوائف الذين كانوا ولاتها في الأعمال، وانقسمت دولاً وملوكاً أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم. وهذا النوع لا يكون بينهم وبين الدولة المستقرة حرب لأنهم مستقرون في رئاستهم، ولا يطمعون في الاستيلاء على الدولة المستقرة بحرب؛ وإنما الدولة أدركها الهرم وتقلص ظلها عن القاصية، وعجزت عن الوصول إليها.
والنوع الثاني بأن يخرج على الدولة خارج ممن يجاورها من الأمم والقبائل إما بدعوة يحمل الناس عليها كما أشرنا إليه، أو يكون صاحب شوكةٍ وعصبية كبيراً في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك، وقد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزاز على الدولة المستقرة، وما نزل بها من الهرم فيتعين له ولقومه الاستيلاء عليها، ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها ويزنون أمرها كما يتبين. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الفصل الخمسون
في أن الدولة المستجدة إنما تستولي علي الدولة المستقرة
بالمطاولة لا بالمناجزة
قد ذكرنا أن الدول الحادثة المتجددة نوعان: نوع من ولاية الأطراف إذا تقلص فئ الدولة عنهم وانحسر تيارها، وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة للدولة في الأكثر كما قدمناه، لان قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوتهم؛ والنوع الثاني نوع الدعاة والخوارج على الدولة، وهؤلاء لا بد لهم من المطالبة، لان قوتهم وافية بها، فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك وواف به؛ فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال تتكور وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب. ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة. والسبب في ذلك أن الظفر في الحروب إنما يقع كما قدمناه بأمور نفسانية وهمية، وإن كان العدد والسلاح وصدق القتال كفيلاً به لكنه قاصر مع تلك الأمور الوهمية كما مر؛ ولذلك كان الخداع من انفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظفر به؛ وفي الحديث: <<الحرب خدعة>>.والدولة المستقرة قد صيرت العوائد المألوفة طاعتها ضرورية واجبة كما تقدم في غير موضع؛ فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة المستجدة ويكسر من همم أتباعه وأهل شوكته، وإن كان الأقربون

من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته، إلا أن الآخرين أكثر، وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التسليم للدولة المستقرة، فيحصل بعض الفتور منهم، ولا يكاد صاحب الدولة المستجدة يقاوم صاحب الدولة المستقرة. فيرجع إلى الصبر والمطاولة، حتى يتضح هرم الدولة المستقرة، فتضمحل عقائد التسليم لها من قومه، وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه، فيقع الظفر والاستيلاء.وأيضاً فالدولة المستقرة كثيرة الرزق بما استحكم لهم من الملك وتوسع من النعيم واللذات، واختصوا به دون غيرهم من أموال الجباية، فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الأسلحة، وتعظم فيهم الأبهة الملكية، ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختياراً واضطراراً فيرهبون بذلك كله عدوهم. وأهل الدولة المستجدة بمعزل عن ذلك؛ لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرعب، بما يبلغهم من أحوال الدولة المستقرة، ويحجمون عن قتالهم من أجل ذلك؛ فيصير أمرهم إلى المطاولة، حتى تأخذ المستقرة مأخذها من الهرم، ويستحكم الخلل فيها في العصبية والجباية، فينتهز حينئذٍ صاحب الدولة المستجدة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة. سنة الله في عباده. وأيضاً فأهل الدولة المستجدة كلهم مباينون للدولة المستقرة بأنسابهم وعوا ئدهم وفي سائر مناحيهم، ثم هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليها، فتتمكن المباعدة بين أهل الدولتين سراً وجهراً، ولا يصل إلى أهل الدولة المستجدة خبر عن أهل الدولة المستقرة، يصيبون منه غرة باطناً وظاهراً، لانقطاع المداخلة بين الدولتين، فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام، وينكلون عن المناجزة حتى يأذن الله بزوال الدولة المستقرة وفناء عمرها، ووفور الخلل في جميع جهاتها، ويتضح لأهل الدولة المستجدة مع الأيام ما كان يخفى منها، من هرمها وتلاشيها، وقد عظمت قوتهم بما اقتطعوه من

أعمالها ونقصوه من أطرافها، فتنبعث هممهم يداً واحدةً للمناجزة، ويذهب ما كان يفت في عزائمهم من التوهمات، وتنتهي المطاولة إلى حدها، ويقع الاستيلاء آخراً بالمعاجلة.واعتبر ذلك في دولة بني العباس حين ظهورها، حين قام الشيعة بخراسان بعد انعقاد الدعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد. وحينئذٍ تم لهم الظفر واستولوا على الدولة الأموية.وكذا العلوية بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الديلم، كيف كانت مطاولتهم حتى استولوا على تلك الناحية. ثم لما انقضى أمر العلوية وسما الديلم إلى ملك فارس والعراقين، فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتى اقتطعوا أصبهان، ثم استولوا على الخليفة ببغداد.وكذا العبيديون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشيعي ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين، وبزيد يطاول بني الأغلب بأفريقية حتى ظفر بهم، واستولوا على المغرب كله، وسموا إلى ملك مصر؛ فمكثوا ثلاثين سنة أو نحوها في طلبها يجهزون إليها العساكر والأساطيل في كل وقت، ويجيء المدد لمدافعتهم براً وبحراً من بغداد والشام، وملكوا الإسكندرية والفيوم والصعيد، وتخطت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين. ثم نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها، واقتلع دولة بني طغج من أصولها، واختط القاهرة، فجاء الخليفة بعد، المعز لدين الله، فنزلها لستين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندرية.وكذا السلجوقية ملوك الترك لما استولوا على بني ساسان، وأجازوا من وراء النهر مكثوا نحواً من ثلاثين سنة، يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتى استولوا على دولته. ثم زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيام من الدهر.وكذا التتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبع عشرة وستمائة فلم يتم لهم الاستيلاء إلا بعد أربعين سنة.وكذا أهل المغرب، خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة، فطاولوهم سنين، ثم استولوا عليه. ثم خرج الموحدون بدعوتهم

على لمتونة، فمكثوا نحوا من ثلاثين سنة يحاربونهم، حتى استولوا على كرسيهم بمراكش.وكذا بنو مرين من زناتة خرجوا على الموحدين فمكثوا يطاولونهم نحوا من ثلاثين سنة، واستولوا على فاس واقتطعوها وأعمالها من ملكهم. ثم أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى، حتى استولوا على كرسيهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كله في تواريخ هذه الدول. فهكذا حال الدول المستجدة مع المستقرة في المطالبة والمطاولة. سنة الله في عباده؛ ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية وكيف كان استيلاؤهم على فارس والروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي . واعلم أن ذلك إنما كان معجزة من معجزات نبينا؛ سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم استبعاداً بالإيمان، وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرعب والتخاذل. فكان ذلك كله خارقاً للعادة المقررة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة. وإذا كان ذلك خارقاً فهو من معجزات نبينا صلوات الله عليه، المتعارف ظهورها في الملة الإسلامية. والمعجزات لا يقاس عليها ا أمور العادية، ولا يعترض بها. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.

ماذا تعرف عن الملك فاروق و مصر فى عهد الملك فاروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *