كيف كسر الاوروبيون انف و تاريخ الصين حرب الأفيون

أكثر مقولة عربية ذليلة انتشرت في ظل أزمة كورونا هي..أتمني أن يحكم الغرب العالم، ولا أن تصعد الصين كقوة عظمي..

عُد بالزمن إلي القرن ال 18..الصين كانت أمة متقدمة، تعتمد علي صناعة الفضة والشاي والخزف، ولديها اكتفاء بسوقها المحلي الضخم، ولم ترغب في فتح أراضيها أمام التجار الأجانب، إلا في حدود ضيّقة جدًا، فقط في مدينة كانتون الساحلية، حيث يأتي التاجر الأوروبي محملًا بالبضائع، ويبيعها للسوق الصينية، ويحصل في المقابل علي ما يحتاجه من سلع صينية، الأوروبيون والإنجليز تحديدًا كانوا مفتونين بالإختراع الجديد، الشاي، ومن ثمّ كان أكثر السلع طلبًا..أسرة تشنج الصينية الحاكمة كانت تضع قيودًا صارمة علي وجود الأجانب، ولا تسمح لهم بمخالطة الصينيين، ولا تعلم اللغة الصينية، ولا حتي بناء بيوت تحتوي علي حدائق، لأنها كانت تعتبرها رمزًا للإستيطان، حتي التجارة المباشرة مع الشعب الصيني كانت ممنوعة، إلا عبر مجموعة من 12 وسيطًا صينيًا تختارهم السلالة الحاكمة..‘‘عُد للتعليق الأول‘‘.

لكن بريطانيا العظمي أرادت كسر هذا النمط عام 1792، كما يذكر مارتن جاك في ص:ص 95-100 من كتابه ‘‘عندما تحكم الصين العالم‘‘..الملك جورج الثالث أرسل الدبلوماسي المخضرم اللورد جورج مكارتني علي رأس بعثة تجارية، علي متن باخرة حربية مجهّزة ب 66 مدفع، وتحمل علي متنها 700 تاجر ورسام وجندي، بهدف مقابلة إمبراطور الصين جيانجلونج، والحصول علي موافقته لفتح الأسواق أمام التجارة البريطانية..اللورد مكارتني حمل عينات من عصارة التقدم التكنولوجي البريطاني لإغراء الإمبراطور، من تلسكوبات وساعات وبارومترات وبنادق هواء، لكن رد الإمبراطور كان ساحقًا، في البداية أمر بترك الإنجليز لبضعة أيام عالقين في ماكاو، ثم عندما استقبلهم، أراد موظفو البلاط الملكي الصيني إجبار الإنجليز علي الركوع علي ركبتيهم أمام صورة الإمبراطور، وهو ما رفضه اللورد مكارتني، إلا إذا فعل الصينيون المثل مع صورة ملكه جورج الثالث..اللورد الإنجليزي كان يعتقد أنه ندّ للصينيين، لكنه لم يُدرك أن الصين كانت تحتقره كما تحتقر الأجانب في المطلق وتعتبرهم برابرة..في النهاية لم يردّ الإمبراطور علي اللورد لأنه أدني منه مرتبة، بل أرسل رسالة للمك الإنجليزي ‘‘ نحن لا نعير آلاتكم العبقرية أي إهتمام ولا حاجة لنا بمصنوعات بلادكم‘‘.

بعد سنوات ستواجه بريطانيا تحديًا وجوديًا..نابليون بونابرت الذي بدأ حملاته التوسعية في كل أنحاء أوروبا وهدفه الأول والأخير عبور المضيق وإحتلال لندن..الأدميرال هوارشيو نيلسون سينقل المعركة خارج الديار قبل أن يقترب الفرنسيون من شواطئه، سيكبّد نابليون خسارة قاسية أمام سواحل أبو قير المصرية، ثم يصعق قواته بهجوم تاريخي في معركة طرف الغار..سيلقي نيلسون حتفه في تلك المعركة، وسيُخلد في تاريخ بريطانيا إلي اليوم، كبطل قومي، غيّر استراتيجية نابليون من مهاجمة بريطانيا واحتلالها إلي محاولة حصارها وخنق تجارتها من العبيد والمنسوجات، وهو ما تحقّق بالفعل..هزم نابليون النمسا في معركة أولم، ثم هزم الجيش الروسي-النمساوي المشترك بقيادة الجنرال كوتزوف هزيمة منكرة في أوسترليتز، وبعد ذلك سحق بروسيا في معركة يينا وأورشتدت، ثم نكّل بالروس والبروسيين في معركة فريدلاند، وفي النهاية شكّل إئتلاف من 7 دول أوروبية هي روسيا والنمسا والبرتغال والسويد والولايات الإيطالية وبروسيا والدنمارك وإسبانيا، لمقاطعة التجارة الإنجليزية، وعندما بلغ ذروة مجده، بدأ الإنهيار المروّع، بإنسحاب البرتغال من قائمة المقاطعين لبريطانيا، ثم هزائمه المذلّة في إسبانيا في معارك بايلين وسالامنكا وفيتوريا، أما الضربة القاضية فقد أتت بسحقه في روسيا، بعد أن تهيأ له الإنتصار حينما وطأت أقدامه أرض الكريملن، قبل أن يعود أدراجه، غداة قيام الروس بحرق عاصمتهم موسكو لإخراجه منها، وبالطبع أتت النهاية الرمزية في معركة واترلو..وهنا يُمكن العودة لمجموعة ممتازة من الوثائقيات ‘‘ الجزيرة الوثائقية: معركة أوسترليتز..ثم فيلم معركة واترلو‘‘..قناة العربية: نابليون..الحملة الروسية علي جزئين‘‘..حلقة وثائقية من التلفزيون الكويتي من سلسلة رجال خالدون تحت عنوان ‘‘هوراشيو نيسلون: معركة الطرف الأغّر‘‘.

في عام 1815 انتهت الحروب النابلوينية بنصر بريطاني مظفّر..أصبحت بريطانيا فعليًا القوة الأوروبية العظمي الأولي بعد تضعضع فرنسا، وأكسبها القتال الأوروبي خبرة عسكرية والأهم كان العقدين الأخيرين فرصة لتطوير قواتها البحرية لتتسيد كل بحار العالم، وهذا ما ستعرف الصين كلفته المريرة بعد 3 عقود..واصل الإنجليز تجارتهم مع الصين، دون أن تغير الأخيرة موقفها..الأجانب مسموح لهم الوجود فقط في كانتون ولن يُفتح أمامهم بر الصين الرئيس..ومن رحم تلك التجارة حقّق الصينيون أرباحًا خرافية، إذ لم يبدوا اهتمام بمقايضة المنسوجات بالشاي والخزف..فإذا أراد التاجر الإنجليزي الحصول علي البضائع الصينية، فليكن الدفع بالفضة..وكانت النتيجة أن تراكمت ثروات هائلة في أيدي الوسطاء الصينيين ال 12 وبالأخص الوسيط ‘‘هو كوا‘‘ الذي سيصبح أغني أغنياء الأرض، بثروة من الفضّة قُدرت في عصرها بمليار $..لكن الأمر لن يعجب الإنجليز..لا بد أن يجدوا شيئًا يبيعوه للصين، شيء يثير اهتمام مواطني الإمبراطور..الحل أتي من شركة الهند الشرقية البريطانية..الأفيون..بدأ التجار الإسكتلنديون بيع الأفيون للصينيين بكميات هائلة وصلت في الأسبوع الواحد ل 20 ألف أوقية..والنتيجة كانت تدمير الشعب الصيني لسنوات..‘‘عُد للتعليق الأول‘‘.

شعب بأكمله تحوّل إلي ثلة من المدمنين الكسالي المتبطّلين، والأسوأ أن ما بنته الصين من احتياطي الفضة بدأ في التسرب لشراء الأفيون، فكانت الخسارة مزدوجة، إدمان الشعب وخسارة الغطاء النقدي..عند ذلك الحد تدخّل الإمبراطور وأصدر قرارًا بتعيين المفوّض ‘‘لين تسي هسو‘‘ بهدف منع تجارة الأفيون، وأرسل جنوده لمصادرة الغليونات وحرق المخزون لدي التجار المحليين، ثم حاصر مراكب التجار الإنجليز والأميركيين في كانتون، وصادر ما قيمته 10 ملايين $ من الأفيون، ثم ألقاها في المياه، ووقف يعتذر لروح البحر، في خطاب رصدته هيلد هوخام، في ص.287 من كتابها ‘‘تاريخ الصين: منذ ما قبل التاريخ وحتي القرن العشرين‘‘…‘‘أيتها الروح التي تجعل منك فضائلك زعيمة الآلهة، وتضاهي أفعالك فتح وإغلاق أبواب الطبيعة، أنت يا من تغسلين جميع الأوساخ وتطهرين من جميع النجاسات، أسألك ترويض الطبيعة الوحشية للأجانب، وأن تجعليهم يعرفون آلهتهم‘‘…لكن الأمر لم يعجب الإنجليز..كيف تمنع حكومة الصين نشر الأفيون الذي يدمّر شعبها؟..هنا بدأ رئيس الوزراء بالمرستون حملته العسكرية الشعواء علي الصين والتي عُرفت بإسم ‘‘حرب الأفيون الأولي‘‘..تراكم الخبرة الإنجليزية من الحروب النابلوينية أنتج أسطولًا بحريًا كاسحًا، صعق الصينيين بغتة، وأنزل بهم هزيمة ساحقة، وبعد أن كان الصينيون يرفضون مجرد دخول الأجانب لبكين، وجدوا المبعوث الإنجليزي يجلس وقدمه تعلو نظيرتها، ويُملي علي إمبراطورهم شروط معاهد ذليلة تفتح الأسواق الصينية بلا ضوابط، بل وتُجبر الصين علي التخلي عن هونج كونج كهدية أبدية للملكة فيكتوريا.

تلك المعاهدة الموقّعة عام 1842 والمعروفة بإسم ‘‘معاهد نانكينج‘‘ ستصبح لحظة فارقة في التاريخ الصيني إلي يومنا هذا، وستدشن ما سيُعرف ب ‘‘ قرن الذل‘‘..كل قوة أوروبية وغير أوروبية ستذيق الصين ل 100 عام لاحقة أبشع صنوف القهر..الهزيمة أمام الإنجليز فتحت الباب أمام التمرد المحلي..في غضون 9 أعوام فقط وقعت 4 تمردات كُبري..تمردان للمسلمين أولهما في إقليم يونان في الجنوب الغربي، وثانيهما في الشمال الغربي، ثم تمرد ناين، والأبشع تمرد التايبينج الذي قُتل فيه 20 مليون صيني..الإنجليز تسبّبوا في تقسيم أمة راسخة منذ ألوف السنين، ولن يتوقفوا..ستشن لندن وباريس حرب الأفيون الثانية 1857-1860 والنتيجة أكثر ترويعًا بنهب وحرق القصر الإمبراطوري الصيفي ثم توقيعي إتفاقيات تيانجين وبكين، والتي منحت الأجانب في الصين حصانة من الملاحقة، وسمحت للمبشرين بنشر المسيحية، ثم ألزمت الصين بقبول قواعد عسكرية علي أراضيها..ثم قامت فرنسا عام 1884 بسحق الصين في مناطق نفوذها التاريخي في فيتنام، وابتداءً من ذلك التاريخ سيطرت فرنسا علي الهند الصينية حتي هزيمتها الساحقة علي يد الفيتناميين في معركة ‘‘ديان بيان فو‘‘ عام 1954 وقتل وأسر 16 ألف جندي فرنسي..اليابان بدورها كانت أمة فتيّة بعد إصلاحات الميجي، ومع تقدمها الصناعي بدأت البحث عن إمتداد حيوي..أي دولة يُمكن أن تقتطع من أراضيها؟ بالطبع الصين..هزمت اليابان الصين في حرب 1894 وفرضت عليها معاهدة مذلّة تُعرف بإسم ‘‘شيمونيسكي‘‘ وانتزعت بموجبها السيادة علي كوريا ثم لاحقًا بسطيت سيطرتها علي تايوان وجنوب منشوريا وأجبرت بكين علي دفع تعويضات تُعادل 3 أضعاف ناتجها المحلي.

هل تعرف من سادس أكبر مُصدّر للبيرة في العالم؟..ألمانيا لم تعرف معني الدولة القومية الموحّدة سوي عام  1871 عندما هزم المستشار بسمارك خصومه الفرنسيين في موقعة سيدان الشهيرة، لكن ألمانيا الفتيّة الجديدة، وجدت نفسها كقوة أوروبية مُعترف بها، لكن بلا أي مستعمرات خارجية مثل فرنسا وبريطانيا، وبشق الأنفس حصلت في مؤتمر برلين 1885 علي بعض المستعمرات في إفريقيا (نامبيا، توجو، الكاميرون) لكنها أرادت ما هو أكبر..في عام 1896 أوصي قائد البحرية الألمانية ألفريد فون تيربتس القيصر فيلهلم الثاني بضرورة إيجاد موطأ قدم بحري في الصين بأسرع وقت..استجاب القيصر لرغبته وأوصي الأدميرال إدوراد فون كنور للبدء في تجهيز خطة عسكرية لاحتلال أجزاء من الصين، ولم يتأخر مبرر الغزو..في الأول من نوفمبر 1897 قُتل اثنين من المبشرين الكاثوليك الألمان، وبعد أسبوعين وصلت حملة ألمانية قوامها 500 جندي بقيادة الأدميرال أوتو فون ديتريش إلي خليج جياوزهو واحتلت مدينة تشينجداو الساحلية الواقعة في اقليم شاندونج ومعها قرابة 300 قرية بمساحة إجمالية تُقدر بحوالي 553 كم..وسرعان ما فرض قائد الحملة الألمانية إجراءات عقابية علي الصين من بينها تسليم القاتل، ومنع القائد الصيني للمدينة من تولي أي منصب رسمي طيلة حياته عقابًا علي تخاذله في حماية المبشرين الألمان، إضافة إلي إلزام الحكومة الصينية بتمويل بناء مجموعة من الكنائس..لكن الهدف الحقيقي للحملة سيظهر لاحقًا وبالتحديد في 6 مارس 1898 بتوقيع الحكومة الصينية إتفاق يمنح الغزاة الألمان حق امتياز مدته 99 عام للمناطق الواقعة تحت سيطرتهم..سًحقت الكرامة الصينية بشدة، فما كان من الشعب إلا أن انتفض ضد الأجانب، فيما عُرف باسم انتفاضة الملاكمين.

اسُتهدفت مقرات البعثات الأجنبية وممثليها ومواطنيها، وكان من ضمن ضحاياها القنصل الألماني..في 27 يوليو 1900 وقف القيصر فيلهلم الثاني في ميناء بريمن أمام حشد من قواته البحرية المتوجهة لتأديب الصينين، وألقي علي مسامعهم خطابًا دمويًا، عُرف بإسم الخطاب الهوني، وستجد إشارة له في مقدمة رواية أديب نوبل ‘‘جونتر جراس‘‘ Mein Jahhundert والتي ترجمتها جيزلا فالور حجّار إلي العربية تحت عنوان ‘‘مئويتي‘‘..‘‘لا تعطوهم أي عذر، لا تأخذوا منهم أسري، فقط اقتلوهم، كما خلد أتيلا الهوني ذكراه في الأساطير والخرافات بأعماله الدموية، يجب أن يُخلد اسم ألمانيا في مخيلة الصينيين، حتي لايكاد المرء منهم يجرؤ علي مجرد النظر إلي مواطن ألماني‘‘..وصلت القوات الألمانية ضمن قوات 8 دول هي بريطانيا، فرنسا، ايطاليا، اليابان، روسيا، الولايات المتحدة، الامبراطورية النمساوية-المجرية، ومارسوا قمعًا هائلًا أودي بحياة عشرات الألوف، ومكّنهم في نهاية المطاف، من قمع الانتفاضة، واستمر حكمهم للمحمية التي عُرفت بمحمية كياتشو إلي أن تمكنت اليابان من السيطرة علي الممتلكات الألمانية عام 1914..ورغم قصر مدة الإحتلال الألماني 1897-1914 إلا أنهم سحقوا هوية تشينجداو، فأزالوا التراث الثقافي للمدينة، وهدّموا العمائر  قديمة الطراز، وهجّروا الفقراء، وشرعوا في إقامة مباني علي الطراز المعماري الألماني، ومازالت المدينة حتي الآن محتقظة بطابعها الأوروبي بالكامل، ما تغيّر فقط أن مكتب الحاكم العام الألماني قد أصبح الآن مكتب للبرلمان المحلي للمقاطعة، وتحوّلت كنيسة يسوع لتصبح محطة القطار الرئيسية، وربما الحسنة الوحيدة أن الألمان قد نقلوا معهم أسرار صناعة البيرة، وأصبح لدي مدينة تشينجداو مصنعها الخاص بدءًا من عام 1903، وبعد عقود تحوّل ذاك المصنع الصغير ليصبح سادس أكبر مُصدر للبيرة عالميًا، وسنويًا تقيم المدينة مهرجانًا للبيرة، يحضره 6 ملايين شخص، ويضاهي نظيره الألماني، المقام سنويًا، في شهر أكتوبر في ميونخ..ولزاوية أخري عن إنتفاضة الملاكمين يُمكنك العودة إلي ص:ص 253-295 من فصل ‘‘ألمانيا وثورة الملاكمين 1899-1901‘‘، من الكتاب الموسوعي للدكتور عبد الرؤوف سنو ‘‘ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين‘‘.

الكل سحق الصين..بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، حتي أضحت تلك الأمة التي كانت قبل عقود رائدة في آسيا، أمة مفكّكة من 300 مليون مُدمن وشريد وعبد لآلة الصناعة الأوروبية..وسيأبي قرن الذل أن يُغادر الصين إلا بأبشع نهاية ممكّنة..الإحتلال الياباني في الحرب العالمية الثانية ومذبحة نانكينج الشهيرة التي راح ضحيتها 300 ألف صيني في 6 أسابيع فقط من العام 1937 بعد أن ارتكب جنود الإمبراطور شتي أنواع المجازر من قطع الرؤوس وسلخ فرواتها، واغتصاب الحوامل وقتلهن، وإلقاء الأطفال من فوق التلال بغرض اللهو، فضلًا عن هتك عرض ربع مليون صينية، انضموا لقوافل نساء المتعة اليابانية، ولا أنسب  هنا من مشاهدة وثائقي مروّع من جزئين من إنتاج ال BBC تحت عنوان ‘‘رعب في الشرق‘‘، ليشرح لك تفصيلًا وعلي لسان جنود الإمبراطور الياباني، كيفية تلذذهم بقتل الصينيين..قرن من الذل انتهي مع هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية وتمكّن الشيوعيين بقيادة ماو من هزيمة القوميين الكومنتانج وبسط سيطرتهم علي بر الصين الرئيس باستثناء تايوان، لأول مرة منذ حرب الأفيون الأولي..وحتي مع صعود جمهورية الصين الشعبية عام 1949، رفض الغرب الإعتراف بها، سوي دول الكتلة الشرقية الخاضعة للهيمنة السوفياتية، ولم تُطبع الولايات المتحدة العلاقات معها سوي بزيارة نيسكسون الشهيرة لبكين عام 1971.

ثم يأتي مواطن عربي ليقول بأن هيمنة العالم الغربي عليه أفضل من الصعود الصيني، الذي سيعامله كعبد..الغرب الأوروبي-الأميركي بجذوره المسيحية واليهودية هو الذي أذاق العالم الأمرين طيلة قرون..هو الذي سحق السكان الأصليين في أميركا، هو من استعمر الهند ونهبها لأربع قرون، وهو من نهب حتي محاصيلها في الأربعينات من القرن العشرين لتوريدها للجنود البريطانيين في اليونان، لأن السيد تشرشل كان يري الهنود كأرانب وهمج، لا يستحقون الغذاء، فقتل منهم 4 ملايين بمجاعة 1943..الغرب هو من استعمر إفريقيا وأطلق أكبر حركة لتجارة العبيد في التاريخ، فيما عُرف بالتجارة الثلاثية/ Triangular trade،التي تبدأ من لندن محمّلة بالبضائع لمقايضتها بالعبيد الأفارقة قبل نقلهم للعمل في مستعمرات الكاريبي..15 – 35 مليون إفريقي جري نقلهم في السفن البريطانية لقرنين من الزمن، ومليون إلي مليونين منهم قتلوا وألقيت جثثهم في المحيط الأطلسي..الغرب ممثلًا في الملك البلجيكي ليوبولد الثاني هو من قتل 10 ملايين كونجولي، وهو الذي سحق أرواح مليون جزائري واستخدم أراضيهم كمعمل تجارب نووية فرنسية في رقّان، وهو الذي أشعل حربين كونينتين في 30 عام راح ضحيتها 100 مليون إنسان، وهو الذي قصف فيتنام ولاوس واحتل العراق وسحق أفغانستان..قرون من السرقة والقتل والنهب مارستها آلة الحضارة الغربية والتي طالت فيما طالت الصين، وأنتجت في ذاكرتها الجمعية، قرنًا من الذل، ما زال يرسم ملامح سياساتها حتي اللحظة..ثم يشتكي الغربيون من سرقة الصين للتكنولوجيا، وهم الذين سرقوا خيراتها وموانئها بالقوة لمدة 100 عام..ويتذمّرون من نمو قوة الصين المُهدّدة لقيمهم الحرّة، وهم الذين لم يقبلوا بسيادة الصين علي أراضيها، فأغرقوها بالأفيون، في أكبر جريمة شهدها القرن ال 19.

في عام 2008 علّقت الممثلة الأميركية شارون ستون علي الزلزال الذي ضرب إقليم سيشوان الصيني، قائلة بأنه ‘‘انتقام سماوي من الصين علي الطريقة التي تُعامل بها التبت‘‘..شركة مستحضرات التجميل كريستيان ديور كانت تستخدم صورة الممثلة في إعلانات منتجاتها، وعلي الفور، وخشية من غضب بكين، سحبت الشركة الإعلان وأوقفت استخدام صورة ستون..في نفس العام سرت شائعات بأن مجموعة LMVH أحد مزودي كارفور بالسلع وأحد حملة أسهمه تُموّل حكومة الدلاي لاما في المنفي، فتظاهر الصينيون ضد 12 فرعًا لكارفور في أنحاء البلاد، وسارعت سلسلة التجزئة للإعتذار ولنفي صلتها بالأمر..الأمور لم تقف عند ذلك الحد..بعد بأسابيع تعرّضت البطلة الأوليميبية الصينية جين جانج، لإعتداء في باريس أثناء حمل الشعلة الأوليمبية، فاستعر الغضب الصيني، وتجدّدت الدعوات لمقاطعة البضائع الفرنسية، لكن العلاقات الفرنسية-الصينية لم تكن لتتحمل ضربة أخري، وكان الإعتذار محتمًا، ليس من أي مواطن فرنسي، بل من رأس الدولة، ساركوزي الذي أرسل كبير مبعوثيه لتهدئة المشاعر الصينية..لم يرق الأمر للصين، فقدّم ساركوزي بنفسه رسالة إعتذار للرياضية الصينية عندما ذهب في زيارة رسمية إلي شنجهاي، وستحملها الفتاة مبتسمة أمام عدسات الكاميرات..كما يذكر مارتن جاك، في ص.ص 363-366 من الفصل العاشر ‘‘الصين كقوة كوكبية صاعدة‘‘ من كتابه سابق الذكر ‘‘حينما تحكم الصين العالم‘‘..هكذا اختلف الحال من حرب الأفيون عام 1842 إلي الألفية الثالثة.

أتعرف ما الذي يثير الإعجاب حقًا في صعود الصين؟ أنها استطاعت أن تنتقم لنفسها من قرن الذل الغربي..أنها تحوّلت من أمة مستباحة إلي قوة عظمي نووية، تمتلك ثاني أكبر اقتصاد كوكبي، أنها حوّلت قوتها السكانية العملاقة لأداة ضغط علي الغرب لو انتهك ثوابتها، فستعاقبه بفقدان أكبر سوق استهلاكي..وأنها ترّد الصاع صاعين لأوروبا التي استباحت موانئها، فعادت هي بمشروع الحزام والطريق لتبسط سيطرتها، لا بالقوة العسكرية، بل بالإحتياطي النقدي الهائل، علي مرافيء يونانية وفي الطريق الإيطالية..انظر لذلك ثم لحال العرب..هل عانوا مثل الصين؟ يستحيل..بكل مآسيهم وذاكرتهم المليئة بجرائم الفرنسيين والبريطانيين، لم تبلغ خسائرهم البشرية ولا المادية واحد علي ألف ما كبّده الأوروبيون للصين..لكن شتان بين أمة استجمعت شتاتها وستصبح عما قريب القوة العظمي الأولي، وبين العرب الذين ما يزالون في ركب التبعية والتخلف..الكل من حولهم يغيّر أوضاعه حتي في النطاق الإقليمي..الأتراك سواء كرهت أردوجان أو أحببته، نجحوا في صياغة أنموذج وقاعدة شعبية ممتدة لقلب العالم العربي، وتمكّنوا من ولوج نادي العشرين..الإيرانيون، لعنتهم أو مدحتهم، نجحوا في صياغة مشروع سياسي مكّنهم من رقاب 4 دول عربية..بينما العربي بكل موارده الهائلة ليس أكثر من ساحة تنافس دولية، ما زالت تحصل منه الجزية، ويدفعها صاغرًا ومهللًا، وتنقسم شعوبه بين موالي لإيران وموالي لتركيا وموال لأوروبا ورابع لأميركا وخامس حتي لإسرائيل..وبعد عجزه وخنوعه..يجلس ليفاضل بين صعود صيني أم هيمنة أميركية علي مصائره..وتلك درجة من العبودية لن تجدها في أصقاع الأرض سوي عند العرب.

ختامًا..الصين لا تُعامل كخير مطلق أوشر مطلق..الصين تعرّضت لذل غربي مروّع صاغ عقيدتها لليوم..الصين نجحت في إستعادة مكانتها بعد قرن الذل وصنعت مكانة عالمية بتجربة في التنمية، بحيث تمكّنت خلال 40 عام من معادلة دخل بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان مجتمعين..الصين المعجزة تلك هي نفسها التي يحكمها الحزب الشيوعي وهو أكبر آلة ديكتاتورية باطشة تسحق حريات مليار إنسان، مقابل التنمية الإقتصادية والإجتماعية المطرّدة..وذات الصين التي تعرضت للذل الغربي هي من تمارس إذلال المسلمين الإيجور..الصين صورة مركّبة جدًا..فيها ما يمتدح وما ينبغي التشهير به وتجنبه..لكن بحق السماء وأنت تفعل ذلك..لا تخبرنا أبدًا عن السيادة الغربية التي تتمنّي استمرارها بدلًا من الصين، التي تمتلك بشأن هيمنتها المفترضة نموذج تخيلي فقط، عما ستفعله بالعالم..لم تعرف البشرية، عبر كل الحضارات من الإسلامية-العربية، للإندينية، للصينية، معني الذل سوي علي يد الشقر البيض ذوي الدماء الزرقاء.

ماذا تعرف عن الملك فاروق و مصر فى عهد الملك فاروق

اخبار النادي الأهلي المصري اضغط هنا

معلومات طبية و دليل الأدوية اضغط هنا

اخبار المجتمع و معلومات طريفة اضغط هنا

FLASH MEDICAL INFO PRESS HERE

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *