تاريخ العلامة ابن خلدون المجلد الأول الجزء الخامس

الإخبار بالمغيبات:
ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه؛ وإنما تكون النفس متشوفة لذلك الشيء فيقع لها بتلك اللمحة في النوم لا أنها تقصد إلى ذلك فتراه. وقد وقع في كتاب الغاية وغيره من كتب أهل الرياضات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه، ويسمونها الحالومية. وذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سماها “حالومة الطباع التام “، وهو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر وصحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية وهي

“تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس ” ويذكر حاجته، فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم.وحكي أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره، فتمثل له شخص يقول له أنا طباعك التام، فسأله واخبره عما كان يتشوف إليه. وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة وأطلعت بها على أمور كنت أتشوف إليها من أحوالي. وليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها؛ وإنما هذه الحالومات تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا؛ فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعد له وللشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب ولا يكون دليلا على إيقاع المستعد له. فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء؛ فاعلم ذلك وتديره فيما تجد من أمثاله. والله الخبير.
فصل:
ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها، بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس، ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة، ولا يستدلون عليه بأثر من النجوم ولا غيرها؛ إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها؛ وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء، والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وأهل الزجر في الطير والسباع، وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى، وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها ولا إنكارها. وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها. وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب. وكذلك أهل الرياضات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة.ونحن الآن نتكلم على هذه الإدراكات كلها، ونبتدىء منها بالكهانة، ثم نأتي عليها واحدة واحدة إلى آخرها. ونقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الإنسانية كيف تستعد لإدراك الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها. وذلك أنها ذات روحانية موجودة بالقوة من بين سائر الروحانيات كما ذكرناه قبل؛ وإنما تخرج من القوة إلى الفعل

بالبدن وأحواله. وهذا أمر مدرك لكل أحد. وكل ما بالقوة فله مادة وصورة. وصورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك والتعقل. فهي توجد أوّلاً بالقوة مستعدة للإدراك وقبول الصور الكلية والجزئية. ثم يتم نشؤها ووجودها بالفعل بمصاحبة البدن وما يعودها بورود مدركاتها المحسوسة عليها، وما تنتزع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور، مرة بعد أخرى، حتى يحصل لها الإدراك والتعقل بالفعل، فتتم ذاتها، وتبقى النفس كالهيولى، والصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة. ولذلك نجد الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم ولا بكشف ولا بغيرهما. وذلك لأن صورتها التي هي عين ذاتها وهو الإدراك والتعقل لم يتم بعد، بل لم يتم لها انتزاع الكليات. ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك: إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها المدارك البدنية، وإدراك بذاتها من غير واسطة وهي محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وبشواغلها، لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه أوّلاً من الإدراك الجسماني. وربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن، فيرتفع حجاب البدن لحظة: إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم، أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة والطرق، أو بالرياضة مثل أهل الكشف من الصوفية. فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملإ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود كما قررناه قبل. وتلك الذوات روحانية وهي إدراك محض وعقول بالفعل، وفيها صور الموجودات وحقائقها كما مر. فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علوماً. وربما دفعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المعتادة، ثم يراجع الحسّ بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النفس لهذا الإدراك الغيبي. ولنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه: فأما الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها، وأهل الطرق بالحصى والنوى

فكلهم من قبيل الكفان، إلا أنهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم، لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحسّ إلى كثير معاناة؛ وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كفها في نوع واحد منها، وأشرفها البصر، فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه. وربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة وليس كذلك. بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر، ويبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنه غمام يتمثل فيه صور هي مداركهم، فيشيرون إليهم بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو إثبات، فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه. وأما المرآة وما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال، وإنما ينشأ لهم بها هذا النوع الآخر من الإدراك، وهو نفساني ليس من إدراك البصر، بل يتشكل به المدرك النفساني للحسّ كما هو معروف. ومثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها، وللناظرين في الماء والطساس وأمثال ذلك. وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد، ثم يخبر كما أدرك؛ ويزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة. وغيبة هؤلاء عن الحس أخف من الأولين. والعالم أبو الغرائب.وأما الزجر وهو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائراً، حيوان، والفكر فيه بعد مغيبه، وهي قوة في النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أو مسموع. وتكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية؛ فيبعثها في البحث مستعينا بما رآه أو سمعه؛ فيؤديه ذلك إلى إدراك ما، كما تفعله القوة المتخيلة في النوم وعند ركود الحواس إذ تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته وتجمعه مع ما عقلته فيكون عنها الرؤيا. وأما المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن، لفساد أمزجتهم غالبا وضعف الروح الحيواني فيها، فتكون نفسه غير مستغرقة في الحواس ولا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص ومرضه؛ وربما زاحمها على

التعلق به روحانية أخرى شيطانية تتشبث به وتضعف هذه عن ممانعتها، فيكون عنه التخبط. فإذ أصابه ذلك التخبط إما لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه، غاب عن حسه جملة، فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصور وصرفها الخيال. وربما نطق على لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق.وإدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل؛ لأنه لا يحصل لهم الاتصال وإن فقدوا الحسّ إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه. ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك. وأما العرافون فهم المتعلقون بهذا الإدراك وليس لهم ذلك الاتصال، فيسلطون الفكر على الأمر الذي يتوجهون إليه، ويأخذون فيه بالظن والتخمين بناء على ما يتوهمونه من مبادئ ذلك الاتصال والإدراك، ويدعون بذلك معرفة الغيب، وليس منه على الحقيقة.هذا تحصيل هذه الأمور. وقد تكلم عليها المسعودي في (مروج الذهب)، فما صادف تحقيقاً ولا إصابة. ويظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف، فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله.وهذه الإدراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر. فقد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم. وفي كتب أهل الأدب كثير من ذلك. واشتهر منهم في الجاهلية شق بن أنمار بن نزار، وسطيح بن مازن بن غسان، وكان يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة. ومن مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعة بن مضر، وما أخبراه به من ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم، وظهور النبوة المحمدية في قريش، ورؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النبوة وخراب ملك فارس. وهذه كلها مشهورة وكذلك العرافون كان في العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم، قال:
# فقلت لعراف اليمامة داوني فإنك إن داويتني لطبيـب
وقال الآخر:
# جعلت لعراف اليمامة حكمه وعراف نجد إن هما شفياني

# فقالا شفاك الله والله مالنا بما حملت منك الضلوع يدان
وعراف اليمامة هو رباح بن عجلة؛ وعراف نجد الأبلق الأسدي.ومن هذه المدارك الغبية، ما يصدر لبعض الناس، عند مفارقة اليقظة والتباسه بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه، بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد ولا يقع ذلك إلا في مبادئ النوم عند مفارقة اليقظة وذهاب الاختيار في الكلام؛ فيتكلم كأنه مجبور على النطق؛ وغايته أن يسمعه ويفهمه. وكذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رؤوسهم وأوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك. ولقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظالمين أنهم قتلوا من سجونهم أشخاصاً ليتعرفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع. وذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك، أن آدميا إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم ومكث فيه أربعين يوما يغذى بالتين والجوز حتى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلا العروق وشؤون رأسه؛ فيخرج من ذلك الدهن؛ فحين يجف عليه الهواء يجيب عن كل شي يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة والعامة. وهذا فعل من مناكير أفعال السحرة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنساني ومن الناس من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة؛ فيحاولون بالمجاهدة موتاً صناعياً بإماتة جميع القوى البدنية، ثم محو آثارها التي تلونت بها النفس، ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها. ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع. ومن المعلوم على القطع انه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس وحجابه واطلّعت النفس على ذاتها وعالمها. فيحاولون ذلك بالاكتساب، ليقع لهم قبل الموت ما يقع لهم بعده، وتطلع النفس على المغيبات. ومن هؤلاء أهل الرياضة السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات والتصرفات في العوالم. وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً خصوصاً بلاد الهند. ويسمون هنالك الحوكية ولهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة، والأخبار عنهم في ذلك غريبة وأما المتصوفة فرياضتهم دينية وعرية عن هذه المقاصد المذمومة

وإنما يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتوحيد، ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التغذية بالذكر، فبها تتم وجهتهم في هذه الرياضة. لأنه إذا نشأت النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله؛ وإذا عريت عن الذكر كانت شيطانية. وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض، ولا يكون مقصوداً من أول الأمر؛ لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله؛ وإنما هي لقصد التصرف والاطلاع على الغيب، وأخسر بها صفقة فإنها في الحقيقة شرك. قال بعضهم: “من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني “. فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه. وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالغرض وغير مقصود لهم. وكثير منهم يفر منه إذا عرض له ولا يحفل به؛ وإنما يريد الله لذاته لا لغيره. وحصول ذلك لهم معروف. ويسمون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفاً، وما يقع لهم من التصرف كرامة؛ وليس شيء من ذلك بنكير في حقهم. وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وأبو محمد بن أبي زيد المالكي في آخرين فراراً من التباس المعجزة بغيرها. والمعول عليه عند المتكلمين حصول التفرقة بالتحدي فهو كاف. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله  قال: <<إن فيكم محدثين وإن منهم عمر>>. وقد وقع للصحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه: “يا سارية الجبل “. وهو سارية بن زنيم، كان قائداً على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيام الفتوحات، وتورط مع المشركين في معترك وهم بالانهزام، وكان بقربه جبل يتجهز إليه، فرفع لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه: “يا سارية الجبل ” وسمعه سارية وهو بمكانه، ورأى شخصه هنالك؛ والقصة معروفة. ووقع مثله أيضاً لأبي بكر في وصيته

عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها من أوسق التمر من حديقته، ثم نبهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة. فقال في سياق كلامه: “وإنما هما أخواك وأختاك ” فقالت: “إنما هي أسماء فمن الأخرى؛ ” فقال: “إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية”، فكانت جارية. وقع في الموطأ في باب ما لا يجوز من النحل. ومثل هذه الوقائع كثيرة لهم ولمن بعدهم من الصالحين وأهل الاقتداء. إلا أن أهل التصوف يقولون إنه يقل في زمن النبوة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النبي؛ حتى إنهم يقولون إن المريد إذا جاء للمدينة النبوية يسلب حاله ما دام فيها حتى يفارقها. والله يرزقنا الهداية، ويرشدنا إلى الحق.
فصل
ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء، وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصديقين، وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق، مع أنهم غير مكلفين. ويقع لهم من الأخبار عن المغيبات عجائب؛ لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب. وربما ينكر الفقهاء انهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم؛ والولاية لا تحصل إلا بالعبادة، وهو غلط؛ فإن فضل الله يؤتيه من يشاء؛ ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها. وإذا كانت النفس الإنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه. وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين؛ وإنما فقد لهم العقل الذي يناط به التكليف، وهي صفة خاصة للنفس، وهي علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله وكأنه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله

لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده. وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته؛ فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش؛ ولا استحالة في ذلك؛ ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف. وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم. ولك في تمييزهم علامات: منها أن هؤلاء البهاليل تجد لهم وجهة ما، لا يخلون عنها أصلاً من ذكر وعبادة، لكن على غير الشروط الشرعية لما قلناه من عدم التكليف؛ والمجانين لا تجد لهم وجهة أصلاً. ومنها انهم يخلقون على البله من أول نشأتهم، والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية، فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة. ومنها كثرة تصرفهم في الناس بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم؛ والمجانين لا تصرف لهم.وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه؛ والله المرشد للصواب.
فصل
وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب، من دون غيبة عن الحسّ: فمنهم المنجمون القائلون بالدلالات النجومية ومقتضى أوضاعها في الفلك، وآثارها في العناصر، وما يحصل من الامتزاج بين طباعها بالتناظر، ويتأدى من ذلك المزاج إلى الهواء. وهؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شي؛ إنما هي ظنون حدسية وتخمينات مبنية على التآثير النجومية وحصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به الناظر على تفصيله في الشخصيات في العالم كما قاله بطليموس. ونحن نبين بطلان ذلك في محله إن شاء الله. وهو لوثبت فغايته حدس وتخمين وليس مما ذكرناه في شيء.ومن هؤلاء قوم من العامة استنبطوا لاستخراج الغيب وتعرف الكائنات صناعة سموها خط الرمل نسبة إلى المادة التي يضعون فيها عملهم. ومحصول هذه الصناعة أنهم صيروا من النقط أشكالا ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزوجية والفردية واستوائها فيهما، فكانت ستة عشر

شكلاً؛ لأنها إن كانت أزواجا كلها أو أفرادا كلها فشكلان؛ وإن كان الفرد فيهما في مرتبة واحد؛ فقط فأربعة أشكال؛ وإن كان الفرد في مرتبتين فستة أشكال؛ وإن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال. جاءت ستة عشر شكلاً ميزوها كلها بأسمائها وأنواعها إلى سعود ونحوس، شأن الكواكب، وجعلوا لها ستة عشر بيتاً طبيعية بزعمهم، وكأنها البروج الاثنا عشر التي للفلك والأوتاد الأربعة، وجعلوا لكل شكل منها بيتاً وخطوطاً ودلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختص به، واستنبطوا من ذلك فناً حاذوا به فن النجامة ونوع قضائه. إلا أن أحكام النجامة مستندة إلى أوضاع طبيعية كما زعم بطليموس، وهذه إنما مستندها أوضاع تحكمية وأهواء اتفاقية، ولا دليل يقوم على شيء منها. ويزعمون أن أصل ذلك من النبوات القديمة في العالم، وربما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما، شأن الصنائع كلها. وربما يدعون مشروعيتها ويحتجون بقوله : <<كان نبي يخط، فمن وافق خطه فذاك >>. وليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه، لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك الخط، ولا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء، فمن وافق خطه ذلك النبي فهو ذاك، أي فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخط. وأما إذا اخذ ذلك من الخط مجرداً من غير موافقة وحي فلا. وهذا معنى الحديث والله . فإذا أرادوا استخراج مغيب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النقط سطوراً على عدد المراتب الأربع، ثم كرروا ذلك أربع مرات فتجيء ستة عشر سطراَ. ثم يطرحون النقط أزواجاً ويضعون ما بقي من كل سطر زوجاً كان أو فرداً في مرتبته على الترتيب، فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية؛ ثم يولدون منها أربعة أشكال أخرى من جانب العرض باعتبار كل مرتبة

وما قابلها من الشكل الذي بإزائه؛ وما يجتمع منهما من زوج أو فرد، فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر؛ ثم يولدون من كل شكلين شكلاً تحتهما باعتبار ما يجتمع في كل مرتبة من مراتب الشكلين أيضاً من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها؛ ثم يولدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها؛ ثم من الشكلين شكلاً كذلك تحتهما؛ ثم من هذا الشكل الخامس عشر مع الشكل الأول شكلاً يكون آخر الستة عشر. ثم يحكمون على الخط كله بما اقتضته أشكاله من السعودة والنحوسة بالذات، والنظر والحلول والامتزاج والدلالة على أصناف الموجودات وسائر ذلك تحكماً غريباً. وكثرت هذه الصناعة في العمران ووضعت فيها التآليف واشتهر فيها الأعلام من المتقدمين والمتأخرين، وهي كما رأيت تحكم وهوى. والتحقيق الذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أن الغيوب لا تدرك بصناعة البتة ولا سبيل إلى تعرفها إلا للخواص من البشر المفطورين على الرجوع عن عالم الحسّ إلى عالم الروح. ولذلك يسمي المنجمون هذا الصنف كلهم بالزهريين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب. فالخط وغيره من هذه إن كان الناظر فيه من أهل هذه الخاصية وقصد بهذه الأمور التي ينظر فيها من النقط أو العظام أو غيرها إشغال الحسّ لترجع النفس إلى عالم الروحانيات لحظة ما، فهو من باب الطرق بالحصى والنظر في قلوب الحيوانات والمرايا الشفافة كما ذكرناه. وإن لم يكن كذلك، وإنما قصد معرفة الغيب بهذه الصناعة وأنها تفيده ذلك فهذر من القول والعمل. والله يهدي من يشاء. والعلامة لهذه الفطرة التي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبى انهم عند توجههم إلى تعرف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطبيعية كالتثاؤب والتمالك ومبادىء الغيبة عن الحسّ، ويختلف ذلك بالقوة والضعف على اختلاف وجودها فيهم. فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء وإنما هو ساع في تنفيق كذبه.

فصل
ومنهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول الذي هو
من مدارك النفس الروحانية، ولا من الحدس المبني على تأثيرات النجوم كما زعمه بطليموس، ولا من الظن والتخمين الذي يحاول عليه العرافون؛ وإنما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة. ولست أذكر من ذلك إلا ما ذكره المصنفون وولع به الخواص. فمن تلك القوانين الحساب الذي يسمونه حساب النيم وهو مذكور في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو، يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك. وهو أن تحسب الحروف التي في اسم أحدهما بحساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد من الواحد إلى

الألف آحادا وعشرات ومئين وألوفا. فإذا حسبت الاسم وتحصل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك. ثم اطرح من كل واحد منهما تسعة تسعة، واحفظ بقية هذا وبقية هذا. ثم انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين: فإن كان العددان مختلفين في الكلية وكانا معا زوجين أو فردين معا فصاحب الأقل منهما هو الغالب؛ وإن كان أحدهما زوجاً والآخر فرداً فصاحب الأكثر هو الغالب؛ وإن كانا متساويين في الكمية وهما معا زوجان فالمطلوب هو الغالب؛ وإن كانا معاً فردين فالطالب هو الغالب. ويقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين الناس وهما:
# أرى الزوج والأفراد يسمو أقلهــا وأكثرها عند التخالف غالبــــــــ
# ويغلب مطلوب إذا الزوج يستوي وعند استواء الفرد يغلب طالب
ثم وضعوا لمعرفة ما بقي من الحروف بعد طرحها بتسعة قانوناً معروفاً عندهم في
طرح تسعة، وذلك أنهم جمعوا الحروف الدالة على الواحد في المراتب الأربع وهي: (1) الدالة على الواحد و(ي) الدالة على العشرة وهي واحد في مرتبة العشرات و(ق) الدالة على المائة لأنها واحد في مرتبة المئين و(ش) الدالة على الألف لأنها واحد في مرتبة الآلاف. وليس بعد الألف عدد يدل عليه بالحروف، لأن الشين هي آخر حروف أبجد. ثم رتبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعية وهي (ايقش). ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على اثنين في المراتب الثلاث وأسقطوا مرتبة الآلاف منها لأنها كانت آخر حروف أبجد، فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثلاث ثلاثة حروف: وهي (ب) الدالة على اثنين في الآحاد و(ك) الدالة على اثنين في العشرات وهي عشرون و(ر) الدالة على اثنين في المئين وهي مائتان؛ وصيروها كلمة واحدة ثلاثية على نسق المراتب وهي (بكر). ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على ثلاثة

فنشأت عنها كلمة (جلس). وكذلك إلى آخر حروف أبجد. وصارت تسع كلمات نهاية عدد الآحاد (وهي: إيقش، بكر، جلس، دمت، هنث، وصخ، زعد، حفظ، طضغ). مرتبة على توالي الأعداد، ولكل كلمة منها عددها الذي هي في مرتبته، فالواحد لكلمة ايقش؛والاثنان لكلمة بكر؛ والثلاثة لكلمة جلس؛ وكذلك إلى التاسعة التي هي طضغ، فتكون لها التسعة. فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كل حرف منه في أي كلمة هو من هذه الكلمات؛ واخذوا عددها مكانه، ثم جمعوا الأعداد التي يأخذونها بدلا من حروف الاسم، فإن كانت زائدة على التسعة أخذوا ما فضل عنها، وإلا أخذوه كما هو، ثم يفعلون كذلك بالاسم الآخر وينظرون بين الخارجين بما قدمناه. والسر في هذا القانون بين. وذلك أن الباقي من كل عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنما هو واحد؛ فكأنه يجمع عدد العقود خاصة من كل مرتبة؛ فصارت أعداد العقود كأنها آحاد فلا فرق بين الاثنين والعشرين والمائتين والألفين وكلها اثنان؛ وكذلك الثلاثة والثلاثون والثلثمائة والثلاثة الآلاف كلها ثلاثة ثلاثة. فوضعت الأعداد على التوالي دالة على أعداد العقود لا غير؛ وجعلت الحروف الدالة على أصناف العقود في كل كلمة من الآحاد والعشرات والمئين والألوف، وصار عدد الكلمة الموضوع عليها نائباً عن كل حرف فيها سواء د ل على الآحاد أو العشرات أو المئين؛ فيوجد عدد كل كلمة عوضاً عن الحروف التي فيها وتجمع كلها إلى آخرها كما قلناه. هذا هو العمل المتداول بين الناس منذ الأمر القديم وكان بعض من لقيناه من شيوخنا يرى أن الصحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه ومتوالية كتواليها، ويفعلون بها في الطرح بتسعة مثل ما يفعلونه بالأخرى سواء؛ وهي هذه: ارب، يسقك، جزلط، مدوص، هف، تحذن، عش، خغ، ثضظ؛ تسع كلمات على توالي العدد، ولكل كلمة منها

عددها الذي في مرتبته؛ فيها الثلاثي والرباعى والثنائي. وليست جارية على أصل مطرد كما تراه. لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السيمياء وأسرار الحروف والنجامة وهو أبو العباس بن البناء، ويقولون عنه إن العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النيم أصح من العمل بكلمات أيقش. والله اعلم كيف ذلك.وهذه كلها مدارك للغيب غير مستندة إلى برهان ولا تحقيق. والكتاب الذي وجد فيه حساب النيم غير معزو إلى أرسطو عند المحققين لما فيه من الآراء البعيدة عن التحقيق والبرهان؛ يشهد لك بذلك تصفحه إن كنت من أهل الرسوخ 1ﻫ ومن هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزايرجة المسماة “بزايرجة العالم ” المعزوة إلى أبي العباس سيدي أحمد السبتي من أعلام المتصوفة بالمغرب، كان في آخر المائة السادسة بمراكش ولعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحدين. وهي غريبة العمل صناعة. وكثير من الخواص يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز؛ فيحرضون بذلك على حل رمزه وكشف غامضه. وصورتها التي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك والعناصر والمكونات والروحانيات وغير ذلك من أصناف الكائنات والعلوم. وكل دائرة مقسومة بأقسام فلكها: إما البروج وإما العناصر أو غيرهما. وخطوط كل قسم مارة إلى المركز ويسمونها الأوتار. وعلى كل وتر حروف متتابعة موضوعة، فمنها برشوم الزمام التي هي أشكال الأعداد عند أهل الدواوين والحساب بالمغرب لهذا العهد، ومنها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزايرجة. وبين الدوائر أسماء العلوم ومواضع الأكوان. وعلى ظاهر الدوائر جدول متكثر البيوت المتقاطعة طولاً وعرضاً يشتمل على خمسة وخمسين بيتاً في العرض، ومائة وواحد وثلاثين في الطول، جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد

وأخرى بالحروف، وجوانب خالية البيوت. ولا تعلم نسبة تلك الأعداد في أوضاعها ولا القسمة التي عينت البيوت العامرة من الخالية. وحافات الزايرجة أبيات من عروض الطويل على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزايرجة. إلا أنها من قبيل الألغاز في عدم الوضوح والجلاء. وفي بعض جوانب الزايرجة بيت من الشعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان بالمغرب، وهو مالك بن وهيب من علماء أشبيلية كان في الدولة اللمتونية ونص البيت:
# سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا
وهو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السؤال في هذه الزايرجة وغيرها. فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السؤال وقطعوه حروفاً، ثم أخذوا الطالع لذلك الوقت من بروج الفلك ودرجها، وعمدوا إلى الزايرجة ثم إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطالع من أولي ماراً إلى المركز، ثم إلى محيط الدائرة قبالة الطالع. فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوله إلى آخره، والأعداد المرسومة بينهما، ويصيرونها حروفاً بحساب الجمل. وقد ينقلون آحادها إلى العشرات وعشراتها إلى المئين وبالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم. ويضعونها مع حروف السؤال ويضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثالث من الطالع من الحروف والأعداد من أوله إلى المركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط. ويفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأول ويضيفونها إلى الحروف الأخرى. يقطعون حروف البيت الذي هو أصل العمل وقانونه عندهم، وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم، ويضعونها ناحية؛ ثم يضربون عدد درج الطالع في أس البرج. واسه عند هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأس عند أهل صناعة الحساب؛ فإنه عندهم البعد عن أول المراتب. ثم

يضربونه في عدد آخر يسمونه الأس الأكبر والدور الأصلي. ويدخلون بما تجمع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة، وأعمال مذكورة؛ وأدوار معدودة. ويستخرجون منها حروفاً ويسقطون أخرى. ويقابلون معهم في حروف البيت وينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السؤال، وما معها؛ يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمونها الأدوار؛ ويخرجون في كل دور الحرف الذي ينتهي عنده الدور، يعاودون ذلك بعدد الأدوار المعينة عندهم لذلك؛ فيخرج آخرها حروف متقطعة وتؤلف على التوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الذي يقابل به العمل ورويه وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم حسبما نذكر ذلك كله فصل العلوم عند كيفية العمل بهذه الزايرجة.وقد رأينا كثيراً من الخواص يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال ويحسبون أن ما وقع من مطابقة الجواب للسؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع. وليس ذلك بصحيح؛ لأنه قد مر لك أن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة؛ و المطابقة التي فيها بين الجواب والسؤال من حيث الأفهام والتوافق في الخطاب- يكون الجواب مستقيماً أو موافقاً للسؤال. ووقوع ذلك بهذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السؤال والأوتار. والدخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة واستخراج الحروف من الجدول بذلك وطرح أخرى ومعاودة ذلك الأدوار المعدودة، ومقابلة ذلك كله بحروف البيت على التوالي، غير مستنكر. وقد يقع الاطلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول.فالتناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس، وطريق لحصوله، ولا سيما من أهل الرياضة، فإنها تفيد العقل قوة على القياس وزيادة في الفكر. وقد مر تعليل ذلك غير مرة.ومن أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزايرجة في الغالب لأهل الرياضة؛ فهي منسوبة للسبتي. ولقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله. ولعمري إنها من الأعمال الغريبة

والمعاناة العجيبة، والجواب الذي يخرج منها فالسر في خروجه منظوماً يظهر لي إنما هو المقابلة بحروف ذلك البيت. ولهذا يكون النظم على وزنه ورويه. ويدل عليه أنا وجدنا أعمالاً أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوما كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه. وكثير من الناس تضيق مداركهم عن التصديق بهذا العمل ونفوذه إلى المطلوب، فينكر صحتها ويحسب أنها من التخيلات والإيهامات، وأن صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السؤال والأوتار، ويفعل تلك الصناعات على غير نسبة ولا قانون، ثم يجيء بالبيت ويوهم أن العمل جاء على طريقة منضبطة. وهذا الحسبان توهم فاسد حمل عليه القصور من فهم التناسب بين الموجودات والمعدومات، والتفاوت بين المدارك والعقول. ولكن من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه. ويكفينا في رد ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعة والحدس القطعي؛ فإنها جاءت بعمل مطرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذكاء وحدس. وإذا كان كثير من المعاياة في العدد الذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النسبة فيه و خفائها ، فما ظنك بمثل هذا مع خفاء النسبة فيه وغرابتها. فلنذكر مسئلة من المعاياة يتضح لك بها شيء مما ذكرنا. مثاله: لو قيل لك خذ عددا من الدراهم واجعل بإزاء كل درهم ثلاثة من الفلوس؛ ثم اجمع الفلوس التي أخذت واشتر بها طائراً؛ ثم اشتر بالدراهم كلها طيوراً بسعر ذلك الطائر؛ فكم الطيور المشتراة بالدراهم والفلوس؛ فجوابه أن تقول هي تسعة. لأنك تعلم أن فلوس الدراهم أربعة وعشرون؛ وأن الثلاثة ثمنها وأن عدة أثمان الواحد ثمانية، فإذا جمعت الثمن من الدراهم إلى الثمن الآخر فكان كله ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدة أثمان الواحد، وتزيد على الثمانية طائراً آخر وهو المشترى بالفلوس المأخوذة أولاً، وعلى سعره اشتريت بالدراهم؛ فتكون تسعة فأنت ترى

كيف خرج لك الجواب المضمر بسر التناسب الذي بين أعداد المسألة والوهم أول ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفته وظهر أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها. وهذا إنما فوق الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم. وأما الكائنات المستقبلة إذا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته. وإذا تبين لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزايرجة كلها إنما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السؤال لأنها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر وسر ذلك إنما هو من تناسب بينهما يطلع عليه بعض دون بعض. فمن عرف ذلك التناسب تيسر عليه استخراج ذلك الجواب بتلك القوانين. والجواب يدل في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على وقوع أحد طرفي السؤال من نفي أو إثبات وليس هذا من المقام الأول؛ بل إنما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج. ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه؛ وقد استأثره الله بعلمه {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.

ماذا تعرف عن الملك فاروق و مصر فى عهد الملك فاروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *