تاريخ العلامة ابن خلدون المجلد الأول الجزء الثالث عشر

الفصل الخامس
فصل في علوم القرآن من التفسير والقراءات
القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين دفتى المصحف وهو متواتر بين الأمة إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على طرق مختلفة في

بعض ألفاظه وكيفيات الحروف في أدائها وتنوقل ذلك واشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة تواتر نقلها أيضاً بأدائها واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير فصارت هذه القراءات السبع أصولاً للقراءة وربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع إلا أنها عند أئمة القراءة لا تقوى قوتها في النقل وهذه القراءات السبع معروفة في كتبها وقد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء وهو غير منضبط وليس ذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن ، وأباه الأكثر وقالوا بتواترها وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد والتسهيل لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع وهو الصحيح .ولم يزل القراء يتداولون هذه القراءات وروايتها إلى أن كتبت العلوم ودونت فكتبت فيما كتب من العلوم وصارت صناعة مخصوصة وعلماً مفرد ، وتناقله الناس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالى العامريين وكان معتنياً بهذا الفن من بين فنون القرآن لما أخذه به مولاه المنصور بن أبى عامر واجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمة القراء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافراً واختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشرقية فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أنمتها وبما كان له من العناية بسائر العلوم عموماً وبالقراءات خصوصاً فظهر لعهده أبو عمرو الدانى وبلغ الغاية فيها ووقفت عليه معرفتها وانتهت إلى روايته أسانيدها وتعددت تآليفه فيها .وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها واعتمدوا من بينها كتاب التيسير له .ثم ظهر بعد ذلك فيما يليه من العصور والأجيال أبو القاسم بن فيرة من أهل شاطبة فعمد إلى تهذيب ما دونه أبو عمرو وتلخيصه فنظم ذلك كله في قصيدة لغز فيها أسماء القراء بحروف ( أ ب ج د ) ترتيبا أحكمه ليتيسر

عليه ما قصده من الاختصار ، وليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها فاستوعب فيها الفن استيعاباً حسناً وعنى الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلمين وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والأندلس .وربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضاً وهى أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية ؛ لأن فيه حروفاً كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط كزيادة الياء في باييد وزيادة الألف في لا أذبحنه ولا أوضعوا والواو في جزاؤ الظالمين ، وحذف الألفات في مواضع دون أخرى وما رسم فيه من التاءات ممدوداً ، والأصل فيه مربوط على شكل الهاء وغير ذلك . وقد مر تعليل هذا الرسم المصحفى عند الكلام في الخط فلما جاءت هذه مخالفة لأوضاع الخط وقانونه احتيج إلى حصرها فكتب الناس فيها أيضاً عند كتبهم في العلوم وانتهت بالمغرب إلى أبى عمرو الدانى المذكور فكتب فيها كتباً من أشهرها كتاب المقنع وأخذ به الناس وعولوا عليه ونظمه أبو القاسم الشاطبى في قصيدته المشهورة على روى الراء وولع الناس بحفظها ثم كثر الخلاف في الرسم في كلمات وحروف أخرى ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالى مجاهد في كتبه وهو من تلاميذ أبى عمر الدانى والمشتهر بحمل علومه ورواية كتبه ثم نقل بعده خلاف آخر ؛ فنظم الخراز من المتأخرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافاً كثيراً ، وعزاه لناقليه واشتهرت بالمغرب واقتصر الناس على حفظها وهجروا بها كتب أبى داود وأبى عمرو الشاطبى في الرسم .
التفسير
وأما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه وكان ينزل جملاً جملاً وآياتٍ آياتٍ لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع ومنها ما هو

في العقائد الإيمانية ومنها ما هو في أحكام الجوارح ومنها ما يتقدم ومنها ما يتأخر ويكون ناسخاً له وكان النبى صلى الله عليه وسلم يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتض الحال منها منقولاً عنه كما علم من قوله تعالى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، أنها نعى النبى صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك ونُقل ذلك عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وتداول ذلك التابعون من بعدهم، ونقل ذلك عنهم. ولم يزل ذلك متناقلاً بين الصدر الأول والسلف، حتى صارت المعارف علوماً، ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين. وأنتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثالهم من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار.ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب، فوضعت الدواوين في ذلك، بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب، فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن، لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم. وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مستند إلى الآثار المنقولة عن السلف، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي. وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين. وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا، إلا أن كتبهم ومنقولاً تهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. فإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيد ونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم

من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم، مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم، في أمثال هذه الأغراض، أخباراً موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهده المنقولات. وأصلها كما قلناه عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ. فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص، وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب، فلخص تلك التفاسير كلها، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى. وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق.
والصنف الآخر من التفسير، وهو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب. وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول، إذ الأول هو المقصود بالذات. وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعات. نعم قد يكون في بعض التفاسير غالباً. ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفسير، كتاب الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق، إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد، فيأتي بالحجاج على

مذاهبهم الفاسدة، حيث تعرض له في أي القرآن من طرق البلاغة. فصار بدلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه، مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة. وإذا كان الناظر فيه واقفاً مع ذلك على المذاهب السنية، محسناً للحجاج عنها، فلا جرم أنه مأمون من غوائله، فليغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان.ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين، وهو شرف الدين الطيبي، من أهل توريز من عراق العجم، شرح فيه كتاب الزمخشري هذا، وتتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها. ويبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة، لا علي ما يراه المعتزلة، فأحسن في ذلك ما شاء، مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة. وفوق كل ذي علم عليم.
الفصل السادس
علوم الحديث
وأما علوم الحديث فهي كثيرة ومتنوعة، لأن منها ما ينظر في ناسخه ومنسوخه،وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ ووقوعه لطفاً من الله بعباده وتخفيفاً عنهم، باعتبار مصالحهم التي تكفل الله لهم بها. قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].[ ومعرفة الناسخ والمنسوخ وأن كان عاماً للقرآن والحديث، إلا أن الذي في القرآن منه أندرج في تفاسيره، وبقي ما كان خاصاً بالحديث راجعاً إلى علومه، فإذا تعارض الخبر أن بالنفي والإثبات، وتعذر الجمع بينهما ببعض التأويل، وعلم تقدم أحدهما، تعين أن المتأخر ناسخ]. وهو من أهم علوم الحديث وأصعبها. قال الزهري: “أعيا

الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله  من منسوخه “. وكان للشافعي رضي الله عنه فيه قدم راسخة. أومن علوم الحديث النظر في الأسانيد ، ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط، لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخبار رسول الله ، فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن، وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضبط. وإنما يثبت ذلك بالنقل عن أعلام الدين بتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة، ويكون لنا ذلك دليلاً على القبول أو الترك وكذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين، وتفاوتهم في ذلك وتميزهم فيه واحداً واحداً. وكذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها وانقطاعها، بأن يكون الراوي لم يلق الراوي الذي نقل عنه، وبسلامتها من العلل الموهنة لها، وتنتهي بالتفاوت إلى طرفين فحكم بقبول الأعلى ورد الأسفل. ويختلف في المتوسط بحسب المنقول عن أئمة الشأن. ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتبة، مثل الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والغريب، وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم. وبوبوا على كل واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لائمة اللسان أو الوفاق. ثم النظر في كيفية أخذ الرواة بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة، وتفاوت رتبها، وما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول والرد.ثم اتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مختلف، وما يناسب ذلك. هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبه. وكانت أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة والتابعين معروفة عند أهل بلده، فمنهم بالحجاز ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق، ومنهم بالشام ومصر. والجميع معروفون مشهورون في

أعصارهم. وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممن سواهم وأمتن في الصحة، لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط، وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك،. وسيد الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المدينة رضي الله تعالى عنه، ثم أصحابه مثل الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وابن وهب وابن بكير والقصنبي ومحمد بن الحسن ومن بعدهم الإمام احمد بن حنبل في آخرين من أمثالهم.وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلاً صرفاً، شمر لها السلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها. وكتب مالك رحمه الله كتاب الموطأ، أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه، ثم عني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث

وأسانيدها المختلفة. وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين، وقد يقع الحديث أيضاً في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. وجاء محمد بن إسماعيل البخاري أمام المحدثين في عصره، فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين. واعتمد منها ما اجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب، بمعنى ذلك الباب الذي تضفنه الحديث، فتكررت لذلك أحاديثه، حتى يقال: أنه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين، منها ثلاثة آلاف متكررة، وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب.ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله تعالى، فألف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه، وحذف المتكرر منها. وجمع الطرق والأسانيد، وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه. ومع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله. وقد استدرك الناس عليهما في ذلك. ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي، في السنن بأوسع من الصحيح، وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل، أما من الرتبة العالية في الأسانيد، وهو الصحيح، كما هو معروف، وأما من الذي دونه من الحسن وغيره، ليكون ذلك إماماً للسنة والعمل. وهذه هي المسانيد المشهورة في الملة، وهي أمهات كتب الحديث في السنة، فأنها وأن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب. ومعرفة هذه الشروط والاصطلاحات كلها هي علم الحديث، وربما يفرد عنها الناسخ والمنسوخ، فيجعل فنا برأسه وكذا الغريب. وللناس فيه تآليف مشهورة، ثم المؤتلف والمختلف. وقد ألف الناس في علوم الحديث وأكثروا. ومن فحول علمائه وأئمتهم أبو عبد الله الحاكم، وتآليفه فيه مشهورة، وهو الذي هذبه وأظهر محاسنه. وأشهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح، كان لعهد أوائل المائة السابعة، وتلاه

محيي الدين النووي بمثل ذلك. والفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما تحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة. وقد أنقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على المتقدمين، إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة، على تعددهم وتلاحق عصورهم وكفايتهم واجتهادهم، لم يكونوا ليغفلوا شيئاً من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المتأخر، هذا بعيد عنهم. وإنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى تصحيح الأمهات المكتوبة، وضبطها بالرواية عن مصنفيها، والنظر في أسانيدها إلى مؤلفها، وعرض ذلك على ما تقرر في علم الحديث من الشروط والأحكام، لتتصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها. ولم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمهات الخمس إلا في القليل.فأما البخاري، وهو أعلاها رتبة، فاستصعب الناس شرحه واستغلقوا منحاه، من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق، ومعرفة أحوالهم واختلاف الناس فيهم. ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه، لأنه يترجم الترجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق، ثم يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب. وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرر الحديث، في أبواب كثيرة، بحسب معانيه واخلافها. ومن شرحه، ولم يستوف هذا فيه، فلم يوف حق الشرح: كابن بطال وابن المهلب وابن التين ونحوهم. ولقد سمعت كثيراً من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة، يعنون أن أحداً من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من الشرح بهذا الاعتبار.وأما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به، واكبوا عليه واجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري، من غير الصحيح، مما لم يكن على شرطه، وأكثر ما وقع له في التراجم. وأملى الإمام المارزي من فقهاء المالكية عليه شرحاً، وسماه (المعلم بفوائد مسلم). اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من الفقه. ثم أكمله القاضي عياض من بعده وتممه ، وسماه إكمال المعلم. وتلاهما محيي

الدين النووي، بشرح استوفي ما في الكتابين، وزاد عليهما، فجاء شرحاً وافياً.
وأما كتب السنن الأخرى وفيها معظم مأخذ الفقهاء، فأكثر شرحها في كتب الفقه،
إلا ما يختص بعلم الحديث، فكتب الناس عليها، واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث وموضوعاتها، والأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها في السنة.واعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد، بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها، تنزلها أئمة الحديث وجهابذته وعرفوها. ولم يبق طريق في تصحيح ما يصح من قبل، ولقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها، بحيث لوروي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه. ولقد وقع مثل ذلك للأمام محمد بن إسماعيل البخاري، حين ورد على بغداد، وقصد المحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قبلوا أسانيدها فقال: “لا اعرف هذه، ولكن حدثني فلان “. ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح، ورد كل متن إلى سنده، وأقروا له بالإمامة.واعلم أيضا أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة والإقلال،فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثاً أو نحوها، ومالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها، وأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده خمسون ألف حديث، ولكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك. وقد تقول بعض المبغضين المتعسفين، إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث، فلهذا قلت روايته. ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة. ومن كان قليل البضاعة من الحديث، فيتعين عليه طلبه وروايته والجد والتشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول صحيحة، ويتلقىالأحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنما قلل منهم من قلل

الرواية، لأجل المطاعن التي نعترضه فيها والعلل التي تعرض في طرقها، سيما والجرح مقدم عند الأكثر، فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد. ويكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق.هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق، لأن المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة، ومن أنتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر. والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل، وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي. وقلت من أجلها روايته فقل حديثة. لا أنه ترك رواية الحديث متعمداً، فحاشاه من ذلك. ويدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم، والتعويل عليه واعتباره رداً وقبولاً. وأما غيره من المحدثين وهم الجمهور، فتوسعوا في الشروط وكثر حديثهم، والكل عن اجتهاد. وقد توسع أصحابه من بعده في الشروط وكثرت روايتهم.وروى الطحطاوي فأكثر وكتب مسنده، وهو جليل القدر، إلا أنه لا يعدل الصحيحين، لأن الشروط التي اعتمدها البخاري ومسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه. وشروط الطحطاوي غير متفق عليها، كالرواية عن المستور الحال وغيره، فلهذا قدم الصحيحان، بل وكتب السنن المعروفة قدمت عليه لتأخر شروطه عن شروطهم. ومن أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المتفق عليها. فلا تأخذك ريبة في ذلك، فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم، والتماس المخارج الصحيحة لهم. والله سبحانه وتعالى اعلم بما في حقائق الأمور.

الفصل السابع
علم الفقه وما يتبعه من الفرائض
الفقه هو معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه. وكان السلف يستخرجونها من تلك الأدلة على اختلاف فيها بينهم. ولا بد من وقوعه ضرورة. فأن الأدلة من النصوص وهي بلغة العرب، وفي اقتضاءات ألفاظها بكثير من معانيها وخصوصاً الأحكام الشرعية اختلاف بينهم معروف. وأيضا فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها، فتحتاج إلى الترجيح وهو مختلف أيضاً. فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها، وأيضا فالوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص. وما كان منها غير ظاهر في النصوص فيحمل على منصوص لمشابهة بينهما، وهذه كلها مثارات للخلاف ضرورية الوقوع. ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم.ثم أن الصحابة لم يكونوا كفهم أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالاته بما تلقوه من النبي  أو ممن سمعه منهم مع عليتهم ، وكانوا يسمون لذلك القراء، أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية، فأختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. وبقي الأمر كذلك صدر الملة. ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب، وتمكن الاستنباط

وكمل الفقه واصبح صناعة وعلماً فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء. وأنقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرأي والقياس، وهم أهل العراق، وطريقة أهل الحديث، وهم أهل الحجاز. وكان الحديث قليلاً في أهل العراق كما قدمناه، فاستكثروا من القياس ومهروا فيه، فلذلك قيل أهل الرأي. ومقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة، وأمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشافعي من بعده.ثم أنكر القياس طائفة من العلماء وأبطلوا العمل به. وهم الظاهرية. وجعلوا مدارك الشرع كلها منحصرة في النصوص والإجماع وردوا القياس الجلي والعلة المنصوصة إلى النص، لأن النص على العفة نص على الحكم في جميع محالها. وكان أمام هذا المذهب داود بن علي وابنه وأصحابهما. وكانت هذه المذاهب الثلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمة. وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلها أصول واهية. وشذ بمثل ذلك الخوارج. ولم يحفل الجمهور بمذاهبهم بلى أوسعوها جانب الإنكار والقدح. فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها إلا في مواطنهم. فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن، والخوارج كذلك. ولكل منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة. ثم درس مذهب أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته وإنكار الجمهور على منتحله، ولم يبق إلا في الكتب المجلدة. وربما يعكف كثير من الطالبين، ممن تكفف بانتحال مذهبهم، على تلك الكتب، يروم أخذ فقههم منها ومذهبهم، فلا يحلو بطائل، ويصير إلى مخالفة الجمهور وإنكارهم عليه. وربما عد بهذه النحلة من أهل

الباع بتلقيه العلم من الكتب، من غير مفتاح المعلمين.وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس، على علو رتبته في حفظ الحديث، وصار إلى مذهب أهل الظاهر، ومهر فيه، باجتهاد زعمه في أقوالهم. وخالف أمامهم داود وتعرض للكثير من أئمة المسلمين، فنقم الناس ذلك عليه، وأوسعوا مذهبه استهجاناً وإنكاراً، وتلقوا كتبه بالإغفال والترك، حتى أنها يحظر بيعها بالأسواق، وربما تمزق في بعض الأحيان. ولم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق وأهل الحديث من الحجاز.فأما أهل العراق فأمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت،ومقامة في الفقه لا يلحق، شهد له بدلك أهل جلدته وخصوصاً مالك والشافعي.وأما أهل الحجاز فكان إمامهم مالك بن أنس الأصبحي أمام دار الهجرة رحمه الله تعالى. واختص بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره، وهو عمل أهل المدينة. لأنه رأى أنهم، فيما يتفقون عليه، من فعل أو ترك، متابعون لمن قبلهم، ضرورة لدينهم واقتدائهم ، وهكذا إلى الجيل المباشرين لفعل النبي  الآخذين ذلك عنه. وصار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية. وظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره، لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم، بل هو شامل للأمة.واعلم أن الإجماع إنما هو الإنفاق على الأمر الديني عن اجتهاد. ومالك رحمه الله تعالى لم يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى، وإنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله وسلامه عليه. وضرورة اقتدائهم [بعين ذلك يعم الملة] . ذكرت في باب الإجماع لأنها أليق الأبواب بها، من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها وبين الإجماع. إلا أن اتفاق أهل

الإجماع عن نظر واجتهاد في الأدلة، واتفاق هؤلاء في فعل أو ترفي مستندين إلى مشاهدة من قبلهم. ولو ذكرت المسألة في باب فعل النبي  وتقريره، أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق بها.ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رحمهما الله تعالى. رحل إلى العراق من بعد مالك ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق، واختص بمذهب. وخالف مالكاً رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه. وجاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله. وكان من علية المحدثين. وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث، فاختصوا بمذهب آخر. ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلدون لمن سواهم. وسد الناس باب الخلاف وطرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم. ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومن لا يوثق برأيه ولا يدينه، فصرحوا بالعجز والإعواز ، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء، كل من اختص به من المقلدين. وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب. ولم يبق إلا نقل مذاهبهم. وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية، لا محصول اليوم للفقه غير هذا.ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليده. وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة. فأما أحمد بن حنبل، فمقلدوه قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية، وللأخبار بعضها ببعض. وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها، وهم أكثر الناس حفظاً للسنة ورواية الحديث وميلاً بالاستنباط إليه عن القياس ما أمكن، وكان لهم ببغداد صولة وكثرة، حتى كانوا يتواقعون مع الشيعة في نواحيها. وعظمت الفتنة من أجل ذلك، ثم أنقطع ذلك عند استيلاء التتر عليها. ولم يراجع وصارت كثرتهم بالشام. وأما أبو حنيفة فقلده

اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصين، وما وراء النهر وبلاد العجم كلها. ولما كان مذهبه أخص بالعراق ودار السلام، وكان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العباس، فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشافعية وحسنت مباحثهم في الخلافيات، وجاءوا منها بعلم مستظرف وأنظار غريبة وهي بين أيدي الناس. وبالمغرب منها شئ قليل نقله إليه القاضي ابن العربي وأبو الوليد الباجي في رحلتهما.وأما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها، وقد كان أنتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار. وعظمت مجالس المناظرات بينهم وشحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم. ثم درس ذلك كله بدروس المشرق وأقطاره. وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعي لما نزل على بني عبد الحكم بمصر، أخذ عنه جماعة منهم. وكان من تلميذه بها: البويطي والمزني وغيرهم، وكان بها من المالكية جماعة من بني عبد الحكم وأشهب وابن القاسم وابن المواز وغيرهم. ثم الحارث بن مسكين وبنوه، ثم القاضي أبو إسحق بن شعبان وأصحابه.ثم أنقرض فقه أهل السنة والجماعة من مصر بظهور دولة الرافضة، وتداول بها فقه أهل البيت وكان من سواهم يتلاشوا ويذهبوا. وارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد، آخر المائة الرابعة، على ما أعلم، من الحاجة والتقليب في المعاش. فتأذن خلفاء العبيديين بإكرامه، وإظهار فضله نعياً على بني العباس في إطراح مثل هذا الإمام، والاغتباط به. فنفقت سوق المالكية بمصر قليلاً، إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب، فذهب منها فقه أهل البيت وعاد فقه الجماعة إلى الظهور بينهم ورجع إليهم فقه الشافعي وأصحابه من أهل العراق والشام، فعاد إلى أحسن ما كان ونفقت سوقه. واشتهر فيهم محيي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام وعز الدين بن عبد السلام أيضا، ثم ابن

الرقعة بمصر وتقي الدين بن دقيق العبد، ثم تقي الدين السبكي بعدهما. إلى أن أنتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد، وهو سراج الدين البلقيني ، فهو اليوم كبير الشافعية بمصر، لا بل كبير العلماء من أهل العصر.وأما مالك رحمة الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس. وأن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل، لما أن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم. والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة. وشيخهم يومئذ وأمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه دون غيره، ممن لم تصل إليهم طريقته. وأيضا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة. ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضاً عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب. ولما صار مذهب كل أمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس، فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه، بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب أمامهم. وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة، يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة، واتباع مذهب أمامهم فيهما ما استطاعوا.وهذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد. وأهل المغرب جميعا مقلدون لمالك رحمه الله. وقد كان تلاميذه افترقوا بمصر والعراق، فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل وطبقته مثل ابن خويزمنداد وابن اللبان والقاضي أبو بكر الأبهري، والقاضي أبو الحسين بن القصار والقاضي عبد الوهاب ومن بعدهم. وكان بمصر ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم

والحارث بن مسكين وطبقتهم. ورحل من الأندلس يحيى بن يحيى الليثي، ولقي مالكا. وروى عنه كتاب الموطأ، وكان من جملة أصحابه. ورحل بعده عبد الملك بن حبيب، فأخذ عن ابن القاسم وطبقته، وبث مذهب مالك في الأندلس ودون فيه كتاب الواضحة. ثم دون العتبي من تلامذته كتاب العتبية. ورحل من إفريقية أسد بن الفرات، فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً، ثم أنتقل إلى مذهب مالك. وكتب علي بن القاسم في سائر أبواب الفقه، وجاء إلى القيروان بكتابه وسمي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد ثم ارتحل إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه، وعارضه بمسائل الأسدية، فرجع عن كثير منها. وكتب سحنون مسائلها ودونها وأثبت ما رجع عنه منها، وكتب معه ابن القاسم إلى أسد أن يمحو من أسديته ما رجع عنه، وأن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك، فترك الناس كتابه واتبعوا مدونة سحنون، على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمي المدونة والمختلطة. وعكف أهل القيروان على هذه المدونة وأهل الأندلس على الواضحة والعتبية. ثم أختصر ابن أبي زيد المدونة والمختلطة في كتابه المسمى بالمختصر ولخصه أيضاً أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب، واعتمده المشيخة من أهل إفريقية وأخذوا به، وتركوا ما سواه. وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبية وهجروا الواضحة وما سواها. ولم يزل علماء المذهب يتعاهدون هذه ا أمهات بالشرح والإيضاح والجمع، فكتب أهل إفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز والتونسي وابن بشير وأمثالهم. وكتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا، مثل ابن رشد وأمثاله. وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر،. فاشتمل عين جميع أقوال المذاهب، وفرع الأمهات كلها في

هذا الكتاب. ونقل ابن يونس فعظمه في كتابه على المدونة، وزخرت بحار المذهب المالكي في الأ فقين إلى انقراض دولة قرطبة والقيروان. ثم تمسك بهما أهل المغرب بعد ذلك، [ إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب، لخص فيه طرق أهل المذهب في كل باب، وتعديد أقوالهم في كل مسألة ، فجاء كالبرنامج للمذهب. وكانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين، وابن المبشر وابن اللهيث وابن رشيق وابن شاش. وكانت بالإسكندرية في بني عوف وبني سند وابن عطاء الله. ولم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب، لكنه جاء بعد انقراض دولة العبيديين، وذهاب فقه أهل البيت وظهور فقهاء السنة من الشافعية والمالكية. ولما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة ] عكف عليه الكثير من طلبة المغرب، وخصوصاً أهل بجاية، لما كان

كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب. فأنه كان قرا على أصحابه بمصر ونسخ مختصره ذلك، فجاء به وأنتشر بقطر بجاية في تلميذه، ومنهم أنتقل إلى سائر الأمصار المغربية. وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه، لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه. وقد شرحه جماعة من شيوخهم كابن عبد السلام وابن رشد وابن هارون، وكلهم من مشيخة أهل تونس، وسابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السلام، وهم مع ذلك يتعاهدون كتاب التهذيب في دروسهم. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثامن
علم الفرائض
وأما علم الفرائض، وهو معرفة فروض الوراثة وتصحيح سهام الفريضة، من كم تصخ، باعتبار فروضها الأصول أو مناسختها. وذلك إذا هلك أحد الورثة وأنكرت سهامه على فروض ورثته، فأنه حينئذ يحتاج إلى حسبان يصحح الفريضة الأولى حتى يصل أهل الفروض جميعاً في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزئة. وقد تكون هذه المناسخات أكثر من واحدٍ واثنين، وتتعدد كذلك بعدد أكثر. وبقدر ما تتعدد تحتاج إلى الحسبان، وكذلك إذا كانت فريضة ذات وجهين، مثل أن يقر بعض الورثة بوارث وينكره الآخر فتصحح على الوجهين حينئذ. وينظر مبلغ السهام، ثم تقسم التركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة. وكل ذلك يحتاج إلى الحسبان

فأفردوا هذا الباب من أبواب الفقه، لما اجتمع فيه إلى الفقه من الحسبان. وكان غالباً فيه، وجعلوه فناً مفرداً. وللناس فيه تآليف كثيرة، أشهرها عند المالكية من متأخري الأندلس كتاب ابن ثابت، ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي ثم الجعدي ، ومن متأخري إفريقية ابن النمر الطرابلسي وأمثالهم.وأما الشافعية والحنفية والحنابلة، فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظيمة صعبة، شاهدة لهم باتساع الباع في الفقه والحساب، وخصوصاً أبا المعالي رضي الله تعالى عنه وأمثاله من أهل المذهب. وهو فن شريف لجمعه بين المعقول والمنقول، والوصول به إلى الحقوق في الوراثات، بوجوه صحيحة يقينية، عندما تجهل الحظوظ وتشكل على القاسمين. وللعلماء من أهل الأمصار بها عناية. ومن المصنفين من يحتاج فيها إلى الغلو في الحساب، وفرض المسائل التي تحتاج إلى استخراج المجهولات من فنون الحساب: كالجبر والمقابلة والتصرف في الجذور وأمثال ذلك، فيملأون بها تآليفهم. وهو وأن لم يكن متداولاً بين الناس، ولا يفيد فيما يتداولونه من وراثتهم لغرابته وقلة وقوعه، فهو يفيد المران وتحصيل الملكة في المتداول على أكمل الوجوه.وقد يحتج الأكثر من أهل هذا الفن على فضله، بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الفرائض ثلث العلم وأنها أول ما ينسى، وفي رواية: نصف العلم، خرجه أبو نعيم الحافظ. واحتج به أهل الفرائض، بناء على أن المراد بالفرائض فروض الوراثة. والذي يظهر أن هذا المحمل بعبد، وأن المراد بالفرائض إنما هي الفرائض التكليفية في العبادات والعادات والمواريث وغيرها. وبهذا المعنى يصح فيها النصفية والثلثية.وأما فروض الوراثة فهي أقل من ذلك كله بالنسبة إلى علوم الشريعة كلها. ويعني هذا المراد أن حمل لفظ الفرائض على هذا الفن المخصوص، أو تخصيصه بفروض الوراثة، إنما هو اصطلاح ناشئ للفقهاء

عند حدوث الفنون والاصطلاحات. ولم يكن، صدر الإسلام، يطلق هذا اللفظ إلا على عمومه مشتقاً من الفرض الذي هو، لغة، التقدير أو القطع. وما كان المراد به في إطلاقه إلا جميع الفروض كما قلناه، وهي حقيقته الشرعية، فلا ينبغي أن يحمل إلا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم منه. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل التاسع
أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات
إعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدراً وأكثرها فائدةً، وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف. وأصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن، ثم السنة المبينة له. فعلى عهد النبي صلي الله عليه وسلم كانت الأحكام تتلقى منه، بما يوحى إليه من القرآن ويبينه بقوله وفعله، بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس. ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذر الخطاب الشفاهي وانحفظ القرآن بالتواتر. وأما السنة فأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها، قولاً أو فعلاً، بالنقل الصحيح، الذي يغلب على الظن صدقه. وتعينت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار، ثم تنزل الإجماع منزلتهما لإجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم. ولا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت، مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة، فصار الإجماع دليلاً ثابتاً في الشرعيات.ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة، فإذا هم يقيسون الأشباه منها بالأشباه. ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم،

وتسليم بعضهم لبعض في ذلك. فأن كثيراً من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه، لم تندرج في النصوص الثابتة، فقاسموها بما ثبت، وألحقوها بما نص عليه، بشروط في ذلك الإلحاق، تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين. حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد، وصار ذلك دليلاً شرعياً بإجماعهم عليه، وهو القياس، وهو رابع الأدلة واتفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة، وأن خالف بعضهم في الإجماع والقياس، إلا أنه شذوذ.وألحق بعضهم بهذه الأدلة الأربعة أدلة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها، لضعف مداركها وشذوذ القول فيها. فكان من أول مباحث هذا الفن النظر في كون هذه أدلة. فأما الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه، والتواتر في نقله، فلم يبق فيه مجال للاحتمال. وأما السنة وما نقل إلينا منها، فالإجماع على وجوب العمل بما يصح منها كما قلناه، معتضداً بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله وسلامه عليه، من إنفاذ الكتب والرسل إلى النواحي بالأحكام والشرائع أمراً وناهياً. وأما الإجماع فلاتفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثابتة للأمة. وأما القياس فبإجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه كما قدمناه. هذه أصول الأدلة. ثم أن المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر، بالنظر في طرق النقل وعدالة الناقلين، لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه، الذي هو مناط وجوب العمل بالخبر. وهذه أيضاً من قواعد الفن.ويلحق بذلك، عند التعارض بين الخبرين، وطلب المتقدم منهما، معرفة الناسخ والمنسوخ، وهي من فصوله أيضاً وأبوابه. ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالات الألفاظ، وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق، من تراكيب الكلام على الإطلاق، يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة ومركبة. والقوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو والتصريف والبيان. وحين

كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علوماً ولا قوانين، ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها، لأنها جبلة وملكة. فلما فسدت الملكة في لسان العرب، قيدها الجهابذة المتجردون لذلك، بنقل صحيح ومقاييس مستنبطة صحيحة، وصارت علوماً يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام، وهي استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة بين تراكيب الكلام وهو الفقه.ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق، بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة، وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أضل أهل الشرع وجهابذة العلم من ذلك، وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أن اللغة لا تثبت قياساً، والمشترك لا يراد به معنياه معاً، والواو لا تقتضي الترتيب، والعام إذا أخرجت أفراد الخاص منه هل يبقى حجة فيما عداها، والأمر للوجوب أو الندب وللفور أو التراخي، والنهي يقتضي الفساد أو الصحة، والمطلق هل يحمل على المقيد؟ والنص على العلة كاف في التعدد أم لا ؟ وأمثال هذه. فكانت كلها من قواعد هذا الفن. ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية. ثم أن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن، لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويماثل من الأحكام وتنقيح الوصف الذي يغلب على الظن أن الحكم علق به في الأصل، من تبين أوصاف ذلك المحل، أو وجود ذلك الوصف في الفرع، من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه إلى مسائل أخرى من توابع ذلك، كلها قواعد لهذا الفن.واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً، فعنهم أخذ معظمها. وأما الأسانيد فلم يكونوا

يحتاجون إلى النظر فيها، لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم. فلما أنقرض السلف، وذهب الصدر الأولى وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل، احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيلى هذه القوانين والقواعد، لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه. وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العفة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلمون أيضاً كذلك، إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع، لكثرة الأمثلة منها والشواهد، وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية. والمتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن، لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم، فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية، والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن.وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم، فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده، وعني الناس بطريقة المتكلمين فيه. وكان من احسن ما كتب فيه المتكلمون، كتاب البرهان لإمام الحرمين، والمستصفي للغزالي، وهما من الأشعرية. وكتاب العهد لعبد الجبار، وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة. وكانت الأربعة، قواعد هذا الفن وأركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين، المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول، وسيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام. واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل. وأما كتاب

المحصول، فأختصره تلميذ الإمام مثل سراج الدين الأموي في كتاب التحصيل، وتاج الدين الأرموي في كتاب الحاصل. واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات. وكذلك فعل البيضاوي في كتاب المنهاج. وعني المبتدئون بهذين الكتابين، وشرحهما كثير من الناس. وأما كتاب الأحكام للآمدي وهو أكثر تحقيقاً في المسائل، فلخصه أبو عمرو بن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير. ثم أختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه. وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات.وأما طريقة الحنفية فكتبوا فيها كثيراً، وكان من أحسن كتابة المتقدمين فيها تأليف أبي زيد الدبوسي، وأحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم، وهو مستوعب. وجاء ابن الساعاتي من فقهاء الحنفية فجمع بين كتاب الأحكام وكتاب البزدوي في الطريقتين، وسمى كتابه بالبدائع، فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها، وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءةً وبحثاً. وأولع كثير من علماء العجم بشرحه. والحال على ذلك لهذا العهد.هذه حقيقة هذا الفن وتعيين موضوعاته وتعديد التآليف المشهورة لهذا العهد فيه.والله ينفعنا بالعلم، ويجعلنا من أهله، بمنه وكرمه، أنه على كل شيء قدير.
ا لخلافات:
وأما الخلافيات فاعلم أن هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين، باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافاً لا بد من وقوعه لما قدمناه. واتسع ذلك في الملة اتساعاً عظيماً، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاؤوا منهم. ثم لما أنتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار، وكانوا بمكان من حسن الظن بهم، اقتصر الناس على تقليدهم، ومنعوا من تقليد سواهم، لذهاب الاجتهاد، لصعوبته وتشعب العلوم التي هي مواده، باتصال الزمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة. فأقيمت هذه المذاهب الأربعة على أصول الملة

وأجري الخلاف بين المتمسكين بها، والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية.وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب أمامه، تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة، يحتج بها كل على صحة مذهبه الذي قلده وتمسك به.و أجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من أبواب الفقه: فتارة يكون الخلاف بين الشافعي ومالك، وأبو حنيفة يوافق أحدهما، وتارة يكون مالك وأبي حنيفة، والشافعي يوافق أحدهما، وتارة بين الشافعي وأبي حنيفة، ومالك يوافق أحدهما. وكان في هذه المناظرات بيان مأخذ هؤلاء الأئمة، ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم. كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات. ولا بد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد، إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط، وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته.وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مأخذ الأئمة وأدلتهم، ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه. وتآليف الحنفية والشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية، لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت، فهم لذلك أهل النظر والبحث. وأما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر. وأيضاً فأكثرهم أهل المغرب، وهم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل. وللغزالي رحمه الله تعالى فيه كتاب المأخذ، ولأبي بكر العربي من المالكية كتاب التلخيص جلبه من المشرق، ولأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة، ولابن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدلة، وقد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليها من الفقه الخلافي، مدرجاً في كل مسألة منه ما ينبني عليها من الخلافيات.
الجدل:
وأما الجدل وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب

الفقهية وغيرهم، فأنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج. ومنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأً، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آداباً وأحكاماً يقف المتناظر أن عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلاً، وكيف يكون مخصوصاً منقطعاً، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت لخصمه الكلام والاستدلال. ولذلك قيل فيه أنه معرفة بالقواعد، من الحدود والآداب، في الاستدلال، التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه، كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره. وهي طريقتان: طريقة البزدوي، وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والاستدلال، وطريقة العميدي ، وهي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان، وأكثره استدلالاً. وهو من المناحي الحسنة، والمغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. وإذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي والسوفسطائي. إلا أن صور الأدلة والأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. وهذا العميدي هو أول من كتب فيها وبسبت الطريقة إليه. وضع الكتاب المسمي بالإرشاد مختصراً، وتبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي وغيره، جاؤوا على أثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطريقة التآليف. وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتعليم في الأمصار الإسلامية. وهي مع ذلك كمالية وليست ضرورية. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.

الفصل العاشر
علم الكلام
وهو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية، بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة. وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد. فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق والمأخذ، ثم نرجع إلى تحقيق علم الكلام وفيما ينظر ونشير إلى حدوثه في الملة، وما دعا إلى وضعه فنقول: إعلم أن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة، وعنها يتم كونه. وكل واحد من تلك الأسباب حادث أيضاً، فلا بد له من أسباب أخرى. ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها، لا إله إلا هو سبحانه.وتلك الأسباب في ارتقائها تتضاعف فتنفسح طولاً وعرضاً، ويحار العقل في إدراكها وتعديدها. فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط، سيما الأفعال البشرية والحيوانية، فأن من جملة أسبابها في الشاهد القصود والادارات، إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته والقصد إليه. والقصودات والإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة، يتلو بعضها بعضاً. وتلك التصورات هي أسباب قصد الفعل. وقد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى، وكل ما يقع في النفس من التصورات فمجهول سببه، إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية، ولا على ترتيبها. إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر، يتبع بعضها بعضاً، والإنسان عاجز عن معرفة مبادئها وغاياتها. وإنما يحيط علماُ في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة

وتقع في مداركها على نظام وترتيب، لأن الطبيعة محصورة للنفس وتحت طورها. وأما التصورات فنطاقها أوسع من النفس، لأنها للعقل الذي هو فوق طور النفس، فلا تكاد النفس تدرك الكثير منها فضلاً عن الإحاطة. وتأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب والوقوف معها، فأنة واد يهيم فيه الفكر ولا يخلو منه بطائل، ولا يظفر بحقيقة. {قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. وربما أنقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمه، وأصبح من الضالين الهالكين. نعوذ بالله من الحرمان والخسران المبين.ولا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنه فم قدرتك أو اختيارك، بل هو لون يحصل للنفس وصبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها. إذ لو علمناها لتحرزنا منها، فلنتحرز من ذلك بقطع النظر عنها جملة. وأيضاً فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول، لأنها إنما يوقف عليها بالعادة، وقضية الاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر. وحقيقة التأثير وكيفيته مجهولة، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها وإلغائها جملة، والتوجه إلى مسبب الأسباب كلها وفاعلها وموجدها، لترسخ صبغة التوحيد في النفس، على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا، وطرق سعادتنا، لاطلاعه على ما وراء الحس.قال : <<من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة>>. فأن وقف عند تلك الأسباب، فقد أنقطع وحقت عليه كلمة الكفر، وأن سبح في بحر النظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحداً بعد واحد، فأنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة فلذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب وأمرنا بالتوحيد المطلق. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4]. ولا تثقن بما يزعم لك الفكر مع أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها، والوقوف على تفصيل الوجود كله

وسفه رأيه في ذلك. واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه أنه منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك، والحق من ورائه. إلا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. وكذلك الأعمى أيضاً يسقط من الوجود عنده صنف المرعيات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة، لما اقروا به. لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم، ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق، لوجدناه منكراً للمعقولات وساقطة لديه بالكلية. فإذا علمت هذا فلعل هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا، لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس. والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقاً من ذلك، والله من ورائهم محيط. فانهم إدراكك ومدركاتك في الحصر، واتبع ما أمرك الشارع به في اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بما ينفعك، لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك. وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فأن ذلك طمع في محال.ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدرك. على أن الميزان في أحكامه غير صادق، لكن للعقل حد يقف عنده ولا يتعدى طوره، حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته، فأنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه. وتفطن من هذا الغلط من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا، وقصور فهمه واضمحلال رأيه، فقد تبين لك الحق من ذلك. وإذا تبين ذلك، فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا، خرجت عن أن تكون مدركة، فيضل العقل في بيداء الأوهام، ويحار وينقطع. فإذا: التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيراتها، وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها

إذ لا فاعل غيره. وكلها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته، وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنة لا غير.وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين: “العجز عن الإدراك إدراك “. ثم أن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط، الذي هو تصديق حكمي، فأن ذلك من حديث النفس. وإنما الكمال فيه حصول صفة منه، تتكيف بها النفس. كما أن المطلوب من الأعمال والعبادات أيضاً حصول ملكة الطاعة والانقياد، وتفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود، حتى ينقلب المريد السالك ربانياً. والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتصاف. وشرحه أن كثيراً من الناس يعلم أن رحمة اليتيم والمسكين، قربة إلى الله تعالى، مندوب إليها، ويقول بدلك ويعترف به وبذكر مأخذه من الشريعة، وهو لو رأى يتيماً أو مسكيناً من أبناء المستضعفين، لفر عنه، واستنكف أن يباشره، فضلاً عن التمسيح عليه للرحمة، وما بعد ذاك من مقامات العطف والحنو والصدقة. فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم، ولم يحصل له مقام الحال والاتصاف. ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول، وهو الاتصاف بالرحمة وحصول ملكتها. فمتى رأى يتيماً أو مسكيناً بادر إليه ومسح عليه والتمس الثواب في الشفقة عليه، لا يكاد يصبر عن ذلك، ولو دفع عنه. ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده. وكذا علمك بالتوحيد مع اتصافك به، والعلم الحاصل عن الاتصاف ضرورة، هو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتصاف. وليس الاتصاف بحاصل عبئ مجرد العلم، حتى يقع العمل ويتكرر مراراً غير منحصرة، فترسخ الملكة ويحصل الاتصاف والتحقيق، ويجيء العلم الثاني النافع في الآخرة. فأن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى والنفع، وهذا علم أكثر النظار، والمطلوب إنما هو العلم الحالي الناشئ عن العادة. واعلم أن الكمال عند الشارع في كلى ما كلف به إنما هو في هذا: فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف، وما طلب عمله من

العبادات، فالكمال فيها في حصول الاتصاف والتحقيق بها. ثم أن الإقبال على العبادات والمواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة. قال : <<في رأس العبادات جعلت قرة عيني في الصلاة>>، فأن الصلاة صارت له صفة وحالاً يجد فيها منتهى لذته وقرة عينه، وأين هذا من صلاة الناس ومن لهم بها، { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون: 4، 5]. اللهم وفقنا، و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7].فقد تبين لك من جميع ما قررناه، أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس، ينشأ عنها علم اضطرارى للنفس، هو التوحيد، وهو العقيدة الإيمانية، وهو الذي تحصل به السعادة، وأن ذلك سواء في التكاليف القلبية والبدنية. ويتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف كلها وينبوعها، هو بهذه المثابة وأنه ذو مراتب: أولها التصديق القلبي الموافق للسان، وأعلاها حصول كيفية، من ذلك الاعتقاد القلبي، وما يتبعه من العمل، مستولية على القلب، فيستتبع الجوارح. وتندرج في طاعتها جميع التصرفات، حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني. وهذا أرفع مراتب الإيمان، وهو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة ولا كبيرة. إذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين. قال صلى الله عليه وسلم:<<لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن >>. وفي حديث هرقل، لما سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي  وأحواله، فقال في أصحابه، هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، قال: لا! قال وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. ومعناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها، شأن الملكات إذا استقرت، فأنها تحصل بمثابة الجبلة والفطرة. وهذه هي المرتبة العالية من الإيمان، وهي في المرتبة الثانية من العصمة.

لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوباً سابقاً، وهذه حاصلة للمؤمنين حصولاً تابعاً لأعمالهم وتصديقهم. فبهذه الملكة ورسوخها، يقع التفاوت في الإيمان، كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف.وفي تراجم البخاري رضي الله عنه، في باب الإيمان، كثير منه، مثل: أن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص، وأن الصلاة والصيام من الإيمان، وأن تطوع رمضان من الإيمان، والحياء من الإيمان. والمراد بهذا كله الإيمان الكامل، الذي أشرنا إليه وإلى ملكته، وهو فعلي. وأما التصديق الذي هو أول مراتبه فلا تفاوت فيه. فمن اعتبر أوائل الأسماء، وحمله على التصديق منع من التفاوت، كما قال أئمة المتكلمين، ومن اعتبر أو آخر الأسماء، وحمله على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له التفاوت. وليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق، إذ التصديق موجود في جميع رتبه، لأنه أول ما يطلق عليه اسم الإيمان، وهو المخلص من عهدة الكفر، والفيصل بين الكافر والمؤمن، فلا يجزي أقل منه. وهو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت، وإنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه، فافهم وإعلم أن الشارع وصف لنا هذا الإيمان، الذي في المرتبة الأولى، الذي هو تصديق، وعين أموراً مخصوصة، كلفنا التصديق بها بقلوبنا، واعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا، وهي العقائد التي تقررت في الدين. قال ، حين سئل عن الإيمان فقال: <<أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر: خيره وشره>>.وهذه هي العقائد الإيمانية المقررة في علم الكلام. ولنشر إليها مجملة لتتبين لك حقيقة هذا الفن وكيفية حدوثه، فنقول: إعلم أن الشارع لما أمرنا بالإيمان بهذا الخالق، الذي رد الأفعال كلها إليه، وأفرده بها كما قدمناه، وعرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا، لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود، إذ ذلك متعذر على إدراكنا ومن فوق طورنا. فكلفنا: أولاً، اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة

المخلوقين، وإلا لما صح أنه خالق لهم، لعدم الفارق على هذا التقدير، ثم تنزيهه عن صفات النقص، وإلا لشابه المخلوقين، ثم توحيده بالاتحاد، وإلا لم يتم الخلق للتمانع، ثم اعتقاد أنه عالم، قادر، فبدلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الإيجاد والخلق، ومريد وإلا لم يخصص شئ من المخلوقات، ومقدر لكل كائن، وإلا فالإرادة حادثة. وأنه يعبدنا بعد الموت تكميلاً لعنايته بالإيجاد، ولو كان للغناء الصرف كان عبثاً، فهو للبقاء السرمدي بعد الموت. ثم اعتقاد بعثة الرسل للنجاة من شقاء هذا المعاد، لاختلاف أحواله بالشقاء والسعادة، وعدم معرفتنا بذلك، وتمام لطفه بنا في الأنباء بدلك، وبيان الطريقين. وأن الجنة للنعيم وجهنم للعذاب. هذه أمهات العقائد الإيمانية، معللة بادلتها العقلية، وأدلتها من الكتاب وألسنة كثيرة. وعن تلك الأدلة أخذها السلف وأرشد إليها العلماء وحققها الأئمة، إلا أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد، أكثر مثارها من الآي المتشابهة، فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل. فحدث بدلك علم الكلام.ولنبين لك تفصيل هذا المجمل. وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود، بالتنزيه المطلق، الظاهر الدلالة من غير تأويل في أي كثيرة، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها، فوجب الإيمان بها. ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها. ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه، مرة في الذات وأخرى في الصفات. فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه. وقضوا بأن الآيات من كلام الله، فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها، ببحث ولا تأويل. وهذا معنى قول

الكثير منهم: إقرأوها كما جاءت، أي آمنوا بأنها من عند الله. ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها، لجواز أن يكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له. وشذ لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات، وتوغلوا في التشبيه: ففريق شبهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه، عملاً بظواهر وردت بدلك، فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة أي التنزيه المطلق، لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والافتقار. وتغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق، التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة، أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية، وجمع بين الدليلين بتأويلها. ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. وليس ذلك يدافع عنهم، لأنه قول متناقض، وجمع بين نفي وإثبات: أن كانا لمعقولية واحدة من الجسم، وأن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة، فقد وافقونا في التنزيه، ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسماً من أسمائه. ويتوقف مثله على الإذن. وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات، كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك. وآل قولهم إلى التجسيم، فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات، جهة لا كالجهات، نزول لا كالنزول، يعنون من الأجسام.وأندفع ذلك بما أندفع به الأول، ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي، لئلا يكّر النفي على معانيها بنفيها، مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن. ولهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لابن أبي زيد وكتاب المختصر له، وفي كتاب الحافظ بن عبد البر وغيرهم، فأنهم يحومون على هذا المعنى. ولا تغمض عينك عن القرائن الدالة على ذلك في غضون كلامهم. ثم لما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الإنحاء، وألف المتكلمون في التنزيه، حدثت بدعة المعتزلة، في

تعميم هذا التنزيه في أي السلوب، فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة، زائدة على أحكامها، لما يلزم ذلك من تعدد القديم بزعمهم، وهو مردود بأن الصفات ليست عين الذات ولا غيرها، وقضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأن معناه سبق الإرادة للكائنات وقضوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام. وهو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ، وإنما هو إدراك للمسموع أو المبصر. وقضوا بنفي الكلام لشبه ما فتي السمع والبصر، ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس، فقضوا بأن القرآن مخلوق، وذلك بدعة صرح السلف بخلافها وعظم ضرر هذه البدعة، ولقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم، فحمل الناس عليها. وخالفهم أئمة السلف، فاستحل لخلافهم أيسار كثير منهم ودماؤهم.وكان ذلك سبباً لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد، دفعاً في صدور هذه البدع. وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين، فتوسط بين الطرق ونفي التشبيه. وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف. وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق العقل والنقل. ورد على المبتدعة في ذلك كله، وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح، وكمل العقائد في البعثة وأحوال المعاد والجنة والنار والثواب والعقاب. والحق بدلك الكلام في الإمامة، لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامة، في قولهم أنها من عقائد الإيمان. وأنها يجب على النبي تعيينها والخروج

عن العهدة فيها لمن هي له، وكذلك على الأمة. وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية، ولا تلحق بالعقائد، فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعة علم الكلام: أما لما فيه من المناظرة على البدع، وهي كلام صرف، وليست براجعة إلى عمل، وأما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو ننازعهم في إثبات الكلام النفسي. وكثر اتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، واقتفي طريقته من بعده تلميذه، كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم، وهذبها ووضع المقدمات العقلية، التي تتوقف عليها الأدلة، والأنظار، وذلك مثل: إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين. وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها، لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. فكملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان، على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة، لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء، فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك.ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية أمام الحرمين أبو المعالي، فأملى في الطريقة كتاب الشامل وأوسع القول فيه. ثم لخصه في كتاب الإرشاد واتخذه الناس إماماً لعقائدهم. ثم انتشر من بعد ذلك

علم المنطق في الملة. وقرأه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية، بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط، يسبر به الأدلة منها كما يسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين، فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلت إلى ذلك. وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها، ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله، كما صار إليه القاضي، فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى، وتسمى طريقة المتأخرين. وربما ادخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية، وجعلوهم من خصوم العقائد، لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله، وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم. ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحداً، من اشتباه المسائل فيهما.واعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته، وهو نوع استدلالهم غالباً. فالجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات، هو بعض من هذه الكائنات. إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم، وهو ينظر في الجسم من حيث يتحرك ويسكن، والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الوجود من حيث أنه يدل على الموجد. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فروضها صحيحة من الشرع، من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية، فترفع البدع وتزال الشكوك والشبه عن تلك العقائد. وإذا تأملت

حال الفن في حدوثه، وكيف تدرج كلام الناس فيه صدراً بعد صدر، وكفهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض الحجج والأدلة، علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن، وأنه لا يعدوه.ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين، والتبست مسائل الكلام، بمسائل الفلسفة، بحيث لا يتميز أحد الفنين عن الآخر. ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع، ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تآليفهم. إلا أن هذه الطريقة، قد يعنى بها بعض طلبة العلم، للاطلاع على المذاهب والإغراق في معرفة الحجاج، لوفور ذلك فيها. وأما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام، فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين، وأصلها كتاب الإرشاد، وما حذا حذوه.ومن أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده، فعليه بكتب الغزالي والإمام ابن الخطيب، فأنها وأن وقع فيها مخالفة للاصطلاح القديم، فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع، ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم. وعلى الجملة، فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم، إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأما الآن، فلم يبق منها إلا كلام تنزه البارئ عن الكثير من إيهاماته وإطلاقاته. ولقد سئل الجنيد رحمه الله، عن قوم مر بهم من المتكلمين يفيضون فيه، فقال: ما هؤلاء، فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص، فقال: “نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب”. لكن فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة، إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها. والله ولي المؤمنين.

الفصل الحادي عشر
في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر
إعلم أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة، كالعناصر وآثارها والمكونات الثلاثة عنها، التي هي المعدن والنبات والحيوان. وهذه كلها متعلقات القدرة الإلهية وعلى أفعال صادرة عن الحيوانات، واقعة بمقصودها، متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مرتب، وهي الأفعال البشرية، ومنها غير منتظم ولا مرتب، وهي أفعال الحيوانات غير البشر. وذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع أو بالوضع، فإذا قصد أيجاد شيء من الأشياء، فلأجل الترتيب بين الحوادث لا بد من التفطن بسببه أو عفته أو شرطه، وهي جملى الجملة مبادئه، إذ لا يوجد إلا ثانياً عنها ولا يمكن ايقاع المتقدم متأخراً ولا المتأخر متقدماً. وذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلا متأخراً عنه، وقد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا أنتهى إلى آخر المبادئ في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد، وشرع في العمل الذي يوجد به ذلك الشيء بدأ بالمبدأ الأخير الذي أنتهى إليه الفكر، فكان أول عمله. ثم تابع ما بعده إلى آخر المسببات التي كانت أول فكرته مثلا، لو فكر في أيجاد سقف يكنه انتقل بدهنه إلى الحائط الذي يدعمه، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر ثم يبدأ في العمل بالأساس، ثم بالحائط، ثم بالسقف، وهو آخر العمل.
وهذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل، فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على

بعض. ثم يشرع في فعلها. وأول هذا الفكر هو المسبب الأخير، وهو آخرها في العمل. وأولها في العمل هو المسبب الأول وهو آخرها في الفكر. ولأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الإنتظام في الأفعال البشرية.
وأما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل على الترتيب فيما يفعل، إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنه لا يكون إلا بالفكر. ولما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة، وغير المنتظمة إنما هي تبع لها، اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها، فكانت مسخرة للبشر. واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث، بما فيه، فكان كله في طاعته وتسخره. وهذا معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته. فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم من لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى. واعتبر ذلك بلاعب الشطرنج: فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات والخمس الذي ترتيبها وضعي، ومنهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه. وإن كان هذا المثال غير مطابق، لأن لعب الشطرنج بالملكة، ومعرفة الأسباب والمسببات بالطبع، لكنه مثال يحتذي به الناظر في تعقل ما يورد عليه من القواعد. والله خلق الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً.

ماذا تعرف عن الملك فاروق و مصر فى عهد الملك فاروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *