كتاب الدر المنثور فى طبقات ربات الخدور قصص اشهر نساء العالم على مدى التاريخ حرف العين الجزء الاول

حرف العين

عائشة بنت أبي بكر الصديق

ابن أبي قحافة القريشية تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهي بنت ست سنين. وقيل سبع ودخل بها فيا لمدينة وهي بنت تسع. وقيل عشر وكان مولدها سنة أربع من النبوة وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر وكان صداقها أربعمائة درهم وكانت أحب نسائه إليه وكنيتها أم عبد الله كنيت بابن أختها أسماء، وروت عائشة ألفي حديث ومائتي حديث وعشرة أحاديث.

ولها خطب ووقائع وكانت هي السبب في وقعة الجمل المشهورة في الإسلام وذلك أن عائشة خرجت إلى مكة وعثمان محصور، ثم رجعت من مكة تريد المدينة.

فلما كانت برف لقيها رجل من أخوالها من ليث يقال له: عبيد بن أبي سلمة. فقالت له مهيم. قال: قتل عثمان وبقوا ثمانيا. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي. فقالت: هذه انطبقت على هذه إن تم المر لصاحبك ردوني، فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما والله لأطلبن بدمه فقال لها: ولم إن أول من أمال حرفه لأنت ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول فقال لها ابن أبي سلمة:

فمنك البداء ومـنـك الـغـير

ومنك الرياح ومنك المطـر

وأنت أمرت بـقـتـل الإمـام

وقلت لنا إنـه قـد كـفـر

فهبنا أطعنـاك فـي قـتـلـه

وقاتله عنـدنـا مـن أمـر

ولم يسقط السف من فـوقـنـا

ولم ينكسف شمسنا والقـمـر

وقد بايع النـاس ذاك اقـتـدار

يزيل الشبا ويقيم الـصـغـر

ويلبس للـحـرب أثـوابـهـا

وما من وفى مثل من قد غدر

فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فنزلت فيه فاجتمع الناس حولها فقالت: أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس ونقموا عليه استعماله من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم قبله مواضع من الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزع لهم عنها، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام، والله لأصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، أو الثوب من درنه أماصوه كما يماص الثوب بالماء (أي يغسل). فقال عبد الله بن عامر الحضرمي: وكان عامل عثمان على مكة ها أنا أول طالب فكان أول مجيب وتبعه بنو أمية على ذلك وبذا صارت الحرب بخبر طويل يخرجنا عن الموضوع وروده.

ومما قالت عائشة عند دخولهم المربد واجتمع القوم وخرج أهل البصرة وعثمان بن حنيف وكان عاملا على البصرة فتكلمت وكانت جمهورية الصوت فحمدت الله وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزورون على عماله بالمدينة فيستشفعرننا فيما يخبرونا عنهم فننظر في ذلك فنجده بريا تقيا وفيا ونجدهم فجرة غدرة كذبة، وهم يحاولون غير ما يظهرون، فلما قووا كاثروه فتحوا عليه داره واستحل الدم الحرام والشهر الحارم والبلد الحارم بلا شره ولا غدر ألا إن مما ينبغي ولا ينبغي لكم غير أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله وقرأت (أم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب) [آل عمران: 23] الآية وكانت فصيحة الكلام صحيحة المنطق فهاجت السامعين.

وقالت: أيضا يوم الجمل: أيها الناس، صه صه إن لي عليكم حق الأمومة وحرمة الموعظة لا يتهمني إلا من عصى ربه. مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري وأنا إحدى نسائه في الجنة له إدخرني ربي وسلمني من كل بضاعة وبي ميز بين منافقكم ومؤمنكم، وبي رخص الله لكم في صعيد الأبواء ثم أبى ثالث ثلاثة من المؤمنين وثاني اثنين الله ثالثهما. وأول من سمي صديقا مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم راضيا عنه وطوقه طوق الإمامة، ثم اضطرب حبل الدين فمسك أبي بطرفيه ورتق لكم فتق النفاق، وأغاض نبع الردة وأطفأ ما حش يهود وانتم يومئذ جحظ العيون تنظرون الغدرة وتسمعون الصيحة فرأب الثأى، وأوذم العطلة، وانتاش من المهواة، واحتجى دفين الداء حتى أعطن الوارد وأورد الصادر، وعل الناهل فقبضه الله واطئا على هامات النفاق مذكيا نار الحرب للمشركين، وانتظمت بضاعتكم بحبله، ثم ولي أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه بعيد ما بين اللايتين عروكه للأذن بجنسه صفوحا عن أذاة الجاهلين يقظان الليل في نصرة الإسلام فسلك مسلك السابقة ففرق شمل الفتنة وجمع أعضادها جمع القران، وأنا نصب المسألة عن مسيري هذا الم ألتمس إثما ولم أدلس فتنة أوطئكموها أقول قولي هذا صدقا وعدلا وإعذاراً وإنذاراً، وأسأل الله أن يصلي على محمد وأن يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين.

وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر لما قتل أبي محمد بن أبي بكر بمصر جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني أنا وأختا لي من مصر، فقدم بنا المدينة فبعث إلينا عائشة، فاحتملتنا من منزل عبد الرحمن إليها، فما رأيت والدة قط ولا والدا أبر منها، فلم نزل في حجرها ثم بعثت إلى عمي عبد الرحمن.

فلما دخل عليهما تكلمت فحمدت الله عز وجل وأثنت عليه فما رأيت متكلما ولا متكلمة قبلها ولا بعدها أبلغ منها، ثم قالت: يا أخي، إني لأم أزل أراك معرضا عني منذ قبضت هذين البنيين منك ووالله ما قبضتهما تطاولا عليك ولا تهمة لك فيهما ولا شيء تكره ولكنك كنت رجلا ذا نساء وكانا صبيين لا يكفيان من أنفسهما شيئا فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرن به من قبيح أمر الصبيان، فكنت ألطف لذلك وأحق لولايته، فقد قويا على أنفسهما وشبا وعرفا ما يأتيان فها هما هذان، فضمهما إليك وكن لهما كحجية بن المضرب أخي كندة فإنه كان له أخ يقال له: معدان، فمات وترك صبية صغارا في حجر أخي، فكان أبر الناس بهم وأعطفهم عليهم، وكان يؤثرهم على صبيانه فمكث بذلك ما شاء الله.

ثم إنه عرض له سفر لم يجد بدا من الخروج فيه فخرج وأوصى بهم امرأته وكانت إحدى بنات عمه وكان يقال لها: زينب، فقال اصنعي بيني أخي ما كنت أصنع بهم، ثم مضى لوجهه فغاب شهرا ثم رجع وقد ساءت حال الصبيان وتغيرت فقال: ويلك مالي أرى بني معدان مهازيل، وأرى بني سمانا؟ قالت: قد كنت أواسي بينهم، ولكنهم كانوا يعبثون ويلعبون فخلا بالصبيان، فقال: كيف كانت زينب تصنع بكم؟ قالوا: سيئة ما كانت تعطينا من القوت إلا ملء هذا القدح من لبن وأروه قدحا صغيرا، فغضب على امرأته غضبا شديدا وتركها حتى إذا راح راعيا إبله قال لهما: اذهبا فأنتما وإبلكما لبني معدان فغضبت من ذلك زينب وهجرته وضربت بينه وبينها حجابا فقال: والله لا تذوقين منها صبوحا ولا غبوقاً أبداً وقال في ذلك:

لججنا ولجت هذه فـي الـتـغـضـب

ولط الحجاب بينـنـا والـتـجـنـب

وخطت بفردي إثمد جفـن عـينـهـا

لتقتلـنـي وشـد مـا حـب زينـب

تلوم على مال شـفـانـي مـكـانـه

فلومي حياتي ما بدا لك واغضـبـي

رحمت بني معدان إذ قـل مـا لـهـم

وحق لهم مني ورب المـحـصـب

وكان اليتامى لا يسـد اخـتـلالـهـم

هدايا لهم مني في كل قعب مشعـب

فقلت لـعـبـدينـا أريحـا عـلـيهـم

سأجعل بيتي وبيت آخـر مـغـرب

وقلت خذوها واعلمـوا أن عـمـكـم

هو اليوم أولى منكم بـالـتـكـسـب

عيالي أحـق أن ينـالـوا خـصـاصة

وإن يشربوا رنقاً إلى حين مكـسـب

أحابي بها من لو قـصـدت لـمـالـه

حريباً لآساني علـى كـل مـوكـب

أخـي والـذي إن أدعـه لـعـظـيمة

يجبني وإن أغضب إلى السيف يغضب

قالت عائشة: فلما بلغ زينب هذا الشعر خرجت حتى أتت المدينة فأسلمت، وذلك في ولاية عمر بن الخطاب، فقدم حجية المدينة، فطلب زينب أن ترد عليه وكان نصرانيا فنزل بالزبير بن العوام فأخبره بقصته فقال له: إياك وأن يبلغ هذا عنك عمر فتلقي منه أذى وانتشر خبر حجية بالمدينة وعلم فيم كان مقدمه فبلغ ذلك عمر فقال للزبير: قد بلغني قصة ضيفك ولقد هممت به لولا تحرمه بالنزول عليك فرجع الزبير إلى حجية فأعلمه قول عمر فمدحه بأبياته الآتي أولها: (إن الزبير بن عوام تداركني) ثم انصرف من عنده متوجها إلى بلده آيسا من زينب كئيبا حزينا، فقال في ذلك:

تصابيت أم هاجت لك الشوق زينـب

وكيف تصابي المرء والرأس أشيب

إذا قربت زادتك شوقـا بـقـربـهـا

وإن جانبت لم يغن عنها التجـنـب

فلا اليأس إن ألممت يبدو فتـرعـوي

ولا أنت مردود بما جئت تطـلـب

وفي اليأس لو يبدو لك اليأس رحـمة

وفي الأرض عمن لا يواسيك مذهب

وأنا والله يا أخي خشيت عليك من مثل ذلك لئلا يصيبك مع نسائك ما أصاب حجية وزينب وأما الآن فقد كبرا وصارا يمكنهما أن يدفعا عن أنفسهما تعديات غيرهما فأخذهما عبد الرحمن إليه وهو يثني على عائشة.

وكانت – رضي الله عنها – أفصح أهل زمانها وأحفظهم للحديث روت عنها الرواة من الرجال والنساء وكان مسروق إذا روى عنها يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق البريئة المبرأة وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض.

وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة من أفقه الناس وأحسن الناس رأيا في العامة. وقال عروة: ما رأيت أحد أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة، ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلا وعلو مجد فإنها نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة، ولولا خوف التطويل لذكرنا القصة بتمامها، وهي أشهر من أن تذكر، وكان حسان بن ثابت عند عائشة يوما فقال يرثي ابنته:

حصان رزان مـا تـزن بـرية

وتصبح غرثي من لحوم الغوافل

فقالت له عائشة لكن لست أنت كذلك. فقال لها مسروق: أيدخل عليك هذا وقد قال الله عز وجل: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) [النور: 11] قالت: أما تراه في عذاب عظيم قد ذهب بصره وباقي الأبيات:

فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتموا

فلا رفعت سوطي إلي أناملـي

وكيف وودي من قديم ونصرتـي

لآل رسول الله زين المحـافـل

فإن الذي قد قـيل لـيس بـلائط

ولكنه قول امرئ بي مـا حـل

وتوفيت عائشة سنة سبع وخمسين. وقيل: سنة ثمان وخمسين للهجرة ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وأمرت أن تدفن بالبقيع ليلا، فدفنت وصلى عليها أبو هريرة ونزل قبرها خمسة عبد الله وعروة ابنا الزبير والقاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبي بكر وعبد الله بن عبد الرحمن، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها ثمان عشرة سنة.

عائشة بنت طلحة

عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن معد بن تيم.

وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وخالتها عائشة أم المؤمنين. كانت عائشة بنت طلحة أشبه الناس بعائشة أم المؤمنين خالتها فزوجها بابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان ابن خال عائشة بنت طلحة، فلم تلد من أحد من أزواجها سواه. فولدت له عمران – وبه كانت تكنى- وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفسية التي تزوجها الوليد بن عبد الملك ولكل من هؤلاء عقب وكان ابنها طلحة من أجود قريش، وتوفي بعد الله عنها ثم تزوجها بعده مصعب بن الزبير فأمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك.

وكانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد فعاتبها مصعب في ذلك فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم فما كنت لأستره والله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد وطالت مراجعة مصعب إياها في ذلك، وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء تميم هن أشرس خلق الله وأحظى عند أزواجهن وكانت عند الحسين بن علي أم إسحاق بنت طلحة فكان يقول: والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني، ونالت عائشة من مصعب وقالت: لا تكلمني أبدا وقعدت في غرفة وهيأت فيها ما يصلحها فجهد مصعب أن تكلمه، فأبت، فبعث إليها ابن قيس الرقيات فسألها كلامه.

فقالت: كيف يميني؟ فقال: ههنا الشعبي فقيه أهل العراق فاستفتيه، فدخل عليها فأخبرته فقال: ليس هذا بشيء. فقالت: أيحلني ويخرج خائبا فأمرت له بأربعة آلاف درهم وقال ابن قيس الرقيات لما رآها:

إن الخليط قد أزمعوا تركي

فوقفت في عرصاتهم أبكي

خبيئة برزت لتقـتـلـنـي

مطلية الأصداغ بالمسـك

عجبا لمثلـك لا يكـون لـه

خرج العراق ومنبر الملك

وكانت عزة الميلاء من أظرف الناس وأعلمهم بأمور الناس، وكان يألفها الأشراف وأرباب المروءات وغيرهم فأتاها مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر أو سعيد بن العاص فقالوا: إن خطبنا فانظري لنا. فقالت لمصعب: ومن خطبت يا ابن أبي عبد الله؟ فقال: عائشة بنت طلحة. فقالت: فأنت يا ابن أبي أحيحة. قال: عائشة بنت عثمان. قالت: فأنت يا ابن الصديق. قال أم القاسم بنت زكريا بن طلحة. قالت: يا جارية، هاتي منقلي – تعني خفيها – فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها ومضت فبدأت بعائشة بنت طلحة فقالت: فديتك كنا في مأدبة لقريش فتذاكروا جمال النساء وخلقهن وذكروك فلم أدر كيف أصفك فديتك فألقي ثيابك ففعلت وأقبلت وأدبرت فارتج كل شيء منها فقالت لها عزة: خذي ثوبك فديتك من كل سوء. فقالت عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتي. فقالت عزة: وما هي بنفسي أنت. قالت: تغنيني صوتاً. فاندفعت تغني:

خليلي عوجا بالمحلة من جـمـل

وأترابها بين الأصفير والخبـل

نقف بمغان قد محا رسما البـلا

تعاقبها الأيام بالريح والـوبـل

فلو درج النمل الصغار بجلدهـا

لأندب أعلى جلدها مدرج النمل

وأحسن خلق الله جـيدا ومـقـلة

تشبه في النسوان بالشادن الطفل

فقامت عائشة فقبلت ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وبطرائف من أنواع الفضة وغير ذلك ودفعته إلى جاريتها، فحملته وأتت النسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهن حتى أتت القوم في السقيفة فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يا ابن أبي عبيد الله.

أما عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلة ومدبرة محطوطة المتين عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقية الثغر، وصفحة الوجه فرعاء الشعر، لفاء الفخذين، ممتلئة الصدر، خميصة البطن ذات عكن ضخمة السرة مسرولة الساقة يرتج ما بين أعلاها إلى قدميها، وفيها عيبان:

أما أحدهما فيواريه الخمار وأما الآخر فيواريه الخف عظم القدم والأذن وكانت عائشة كذلك. ثم قالت عزة: وأما أنت يا ابن أبي أحيحة فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط ليس فيها عيب، والله لكأنما أفرغت إفراغا ولكن في الوجه ردة وإن استشرتني أشرت عليك بوجه تستأنس به.

وأما أنت يا ابن الصديق فوالله ما رأيت مثل أم القاسم كأنها خوط بانة تنثني وكأنها خدل عنان، أو كأنها خشف ينثني وكأنها خدل عنان، أو كأنها خشف ينثني على رمل لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت ولكنها شحنة الصدر وأنت عريض الصدر فإذا كان ذلك قبيحا لا والله حتى يملأ كل شيء مثله فوصلها الرجال والنساء وتزوجوهن.

وكان مصعب لا يقدر عليها إلا بتلاح ينالها منه، وبكل مشقة، فشكا ذلك إلى ابن فروة كاتبه فقال له: أنا أكفيك هذا إن أذنت لي. قال: نعم. افعل ما شئت فإنها أفضل شيء نلته من الدنيا فأتاها ليلا ومعه أسودان فاستأذن عليها فقالت له: أفي مثل هذه الساعة يا ابن أبي فروة قال: نعم. فأدخلته. فقال للأسودين: احفر ههنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك، أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفك خلق الله لدم حرام. فقالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه. قال: هيهات، لا سبيل إلى ذلك. وقال للأسودين: احفر ههنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك، أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفك خلق الله لدم حرام. فقالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه. قال: هيهات، لا سبيل إلى ذلك. وقال للأسودين: احفرا.

فلما رأت الجد منه بكت. ثم قالت: يا ابن أبي فروة، إنك لقاتلي ما منه بد. قال: نعم، وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك ولكنه قد غضب وهو كافر الغضب. قالت: وفي أي شيء غضبه؟ قال: في امتناعك عنه وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره فقد جن. فقالت: أنشدك الله إلا عاودته. قال: إني أخاف أن يقتلني. فبكت وبكى جواريها فقال: قد رققت لك وحلف أنه يغرر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن عني أني لا أعود أبدا. قال: فما لي عندك؟ قالت: قيام بحقك ما عشت. قال: فأعطني المواثيق. فأعطته، فقال للأسودين: مكانكما، وأتى مصعبا فأخبره فقال له: استوثق منها بالأيمان ففعلت وصلحت بعد ذلك لمصعب.

ودخل عليها مصعب يوما وهي نائمة متصبحة ومعه ثمان لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها. فقال له: نومتي كانت أحب إلي من هذا اللؤلؤ. قال: وصارمت مصعبا مرة فطالت مصارمتها له وشق ذلك عليها وعليه وكانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد وقد ظفر فشكت عائشة مصارمته إلى مولاة لها فقالت: الآن يصلح أن تخرجي إليه، فخرجت فهنأته بالفتح وجعلت تمسح التراب عن وجهه فقال لها مصعب إني أشفق عليك من رائحة الحديد. فقالت: لهو والله عندي أطيب من ريح المسك.

وقال ابن يحيى: كان مصعب من أشد الناس، إعجابا بعائشة بنت طلحة ولم يكن لها شبيه في زمانها حسنا ودماثة وجمالا وهيئة ومتانة وعفة وإنها دعت يوما نسوة من قريش، فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب والمجمر وخلعت على كل امرأة منهن خلعة تامة من الوشي والخز ونحوهما ودعت عزة الميلاء، ففعلت بها مثل ذلك، وأضعفت ثم قالت لعزة هاتي يا عزة فغنينا فغنت:

وثغر أغر شنيب البـنـات

لذيذ المقبل والمبـتـسـم

وما ذقته غـير ظـن بـه

وبالظن يقضي عليك الحكم

وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهن والستور مسبلة فصاح: يا هذه إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت فبارك الله فيك يا عزة، ثم أرسل إلى عائشة أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك، وأما عزة فتأذنين لها أن تغنينا هذا الصوت، ثم تعود إليك، ففعلت وغنته مرارا وكاد أن مصعب يذهب عقله فرحا وسرورا، وأمرها بالعود إلى مجلسها وقضوا يوما على أحسن حال.

ولما قتل مصعب عن عائشة تزوجها عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي فحمل إليها ألف ألف درهم وقال لمولاتها: لك علي ألف دينار إن دخلت بها الليلة، وأمر بالمال فحمل فألقي في الدار وغطي بالثياب، وخرجت عائشة. فقالت لمولاتها: أهذا فرش أم ثياب؟ قالت لها انظري إليه فنظرت فإذا هو مال فتبسمت فقالت لها مولاتها أجزاء من حمل هذا أن يبيت عزباً؟ قالت: لا والله ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزين له وأستعد قالت: فيم ذا فوجهك والله أحسن من كل زينة، وما تمدين يديك إلى طيب أو ثياب أو حلي أو فرش إلا وهو عندك وقد عزمت عليك أن تأذني له. قالت: افعلي فذهبت إليه. فقالت: قم بنا فقد قبلت فجاءهم عند العشاء الأخيرة، وقالت حين دخل بها:

قد رأيناك فلم تحل لـنـا

وبلوناك فلم نرض الخبر

وكانت رملة بنت عبد الله بن خلف زوجة لعمر بن عبيد الله بن معمر، ولما تزوج عائشة قالت: فإني لمولاة لعائشة، أريني عائشة متجرة ولك ألف درهم، فأخبرت عائشة بذلك فأشرفت عليها مقبلة ومدبرة، فأعطت رملة مولاتها ألفي درهم وقالت: لوددت أني أعطيتك أربعة آلاف درهم ولم أرها.

فمكثت عائشة عند عبيد الله بن معمر ثمان سنين ثم مات عنها سنة اثنتين وثمانين فتأيمت بعده فخطبها جماعة فردتهم ولم تتزوج بعده أبدا.

وكانت عائشة من أشد الناس مغالظة لزواجها وكانت تكون لكل من يجيء يحدثها في رقيق الثياب فإذا قالوا قد جاء الأمير ضمت عليها مطرفها وقطبت وكانت كثيرا ما تصف لعمر بن عبيد الله مصعبا وجماله وتغيظه بذلك فيكاد أن يموت، وكان شديد الغيرة فدخل يوما على عائشة وقد ناله حر شديد وغبار فقال لها: انفضي التراب عني فأخذت منديلا تنفض عنه التراب، ثم قالت له: ما رأيت الغبار على وجه أحد قط أحسن منه على وجه مصعب قال: فكاد يموت غيظا.

ودخلت عائشة على الوليد بن عبد الملك وهو بمكة فقالت: يا أمير المؤمنين، مر لي بأعوان، فضم إليها قوما يكونون معها فحجت ومعها ستون بغلا عليها الهوادج والرحائل، وكانت سكينة بنت الحسين – رضي الله عنهما – في تلك السنة فقال حادي عائشة:

عائش يا ذات البغال الستـين

لا زلت ما عشت كذا تحجين

فشق ذلك على سكينة ونزل حاديها. فقال:

عائش هذه ضرة تشكـوك

لولا أبوها ما اهتدى أبوك

فأمرت عائشة حاديها أن يكف فكف واستأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحج فأذن لها وقال: ارفعي حوائجك واستظهري فإن عائشة بنت طلحة تحج هذه السنة، ففعلت، فجاءت بهيئة جهدت فيها فلما كانت بين مكة والمدينة إذا بموكب قد جاء فضغطها وفرق جماعتها فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة فسألت عنها فقالوا: هذه خازنتها، ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك الموكب فقالوا: عائشة عائشة فضغطهم. فسألت عنه فقالوا: هذه ماشطتها، ثم جاء مواكب على هذا المنوال، ثم أقبلت كوكبة فيها ثلثمائة راحلة عليها القباب والهوادج فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى.

ووفدت عائشة بنت طلحة على هشام فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء المطر ومنع السلطان الحق قال: إنس سأعرفه حقك، ثم بعثت إلى مشايخ بني أمية. فقال: إن عائشة عندي فأسمروا عند الليلة فحضروا فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه وما طلع نجم ولا غار إلا سمته فقال لها هشام: أما الأول فلا نكره، وأما النجوم فمن أين لك؟ قالت: أخذتها عن خالتي عائشة فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة.

ولما تأيمت عائشة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة وتخرج إلى ما لها بالطائف وقصر لها فتتنزه وتجلس بالعشيات فتتناضل بين الرماة، فمر بها النميري الشاعر فسألت عنه فنسب فقالت له لما أتوها به: أنشدني مما قلت في زينب فامتنع وقال: ابنة عمي وقد صارت عظاما بالية. قالت: أقسمت عليك، فأنشدها قوله:

نزلن بفـخ ثـم رحـن عـشـية

يلبين للرحمن مـعـتـمـرات

يخبئن أطراف الكف من التـقـى

ويخرجن شطرا لليل معتجزات

ولما رأت ركب النميري أعرضت

وكن من أن يلقـينـه حـذرات

تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت

به زينب في نسـوة خـفـرات

فقالت: والله ما قلت إلا جميلا ولا وصفت إلا كرما وطيبا وتقى ودينا، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها فقالت: علي به. فجاء، فقالت: أنشدني من شعرك في زينب. فقال: أو أنشدك من قول الحارث فيك؟ فوثب مواليها. فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستفيد لابنة عمه هات، فانشدها:

ظعن الأمير بأحسن الخـلـق

وغدوا بلبك مطلع الشـرق

وتنوء تثقلها عـجـيزتـهـا

نهض الضعيف ينوء بالوسق

ما صبحت زوجا بطلعتـهـا

إلا غدا بكواكب الـطـلـق

قرشية عبق العـبـير بـهـا

عبق الدهان بجانب الحـق

بيضاء من تيم كلفـت بـهـا

هذا الجنون وليس بالعشـق

فقالت: والله ما ذكر إلا جميلا ذكر أني إذا صبحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطلق، وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق. أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين ولا تعد لإتياننا يا نميري.

وقال أبو هريرة لعائشة يوما: ما رأيت شيئا أحسن منك إلا معاوية أول يوم خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: والله لنا أحسن من النار في الليلة القرة في عين المقرور.

وكتب أبان بن سعيد إلى أخيه يحيى يخطب عليه عائشة بنت طلحة ففعل، فقالت: ليحيى: ما انزل أخاك أيلة قال: أراد العزلة. قالت: اكتب إلى أخيك.

حللت محل الضب لا أنت ضائر

عدوا ولا مستنقعا بك نـافـع

وقال عبد الله بن عبد الرحمن – وقد قيل له طلقها:

يقولون طلقها لأصـبـح ثـاويا

مقيما علي الهم أحـلام نـائم

وإن فراقي أهل بيت أحبـهـم

لهم زلفة عندي لإحدى العظائم

قال بعضهم: أذن المؤذن يوما وخرج الحارث بن خالد إلى الصلاة، فأرسلت إليه عائشة ابنة طلحة أنه بقي علي شيء من طوافي لم أتمه، فقعد وأمر المؤذنين، فكفوا عن الإقامة، وجعل الناس يصيحون حتى فرغت من طوافها، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فعزله وولى عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكتب إلى الحارث: ويلك أتركت الصلاة لعائشة بنت طلحة فقال: والله لو لم تقض طوافها إلى الفجر لما كبرت. وقال في ذلك:

لم أحب بأن سخطت ولكـنـه

مرحباً إن رضيت عنا وأهلا

إن وجهـاً رأيت لـيلة الـبـد

ر عليه أثنى الجمال وحـلا

وجهها الوجه لو يسيل به المز

ن من الحسن والجمال استهلا

إن عند الطواف حـين أتـتـه

لجمالا فعماً وخلـقـاً رفـلا

وكسين الجمال إن غبن عنهـا

فإذا ما بدت لهن اضمـحـلا

ولما قدمت عائشة إلى مكة أرسل إليها الحارث بن خالد – وهو أمير على مكة -: إني أريد السلام عليك، فإذا خف عليك أذنت وكان الرسول الغريض فقالت له: إنا حرم فإذا أحللنا أذناك، فلما حلت سرت على بغلاتها ولحقها الغريض بعسفان ومعه كتاب الحارث إليها وفيه قوله:

ما ضركم لو قلتم سـددا

إن المطايا عاجل غدها

لها علينا نعمة سلـفـت

لسنا على الأيام نجحدها

لو تممت أسباب نعمتهـا

تمت بذاك عندنا يدهـا

فل ما قرأت الكتاب قالت ما يدع الحارث باطله، ثم قالت للغريض هل أحدثت شيئا؟ قال: نعم، فاسمعي، ثم اندفع في هذا الشعر. فقال عائشة: والله ما قلنا إلا سددا، ولا أردنا إلا أن نشتري لسانه، وأتى على الشعر كله فاستحسنه وأمرت له بخمسة آلاف درهم وأثواب. وقالت زدني فغناها في قول الحارث بن خالد أيضا:

زعموا بأن البين بعد غـد

فالقلب مما أحدثوا يجف

والعين منذ أجد بـينـهـم

مثل الجمان دموعها تكف

ومقالها ودموعها سـجـم

أقلل حنينك حين تنصرف

تشكو ونشكو ما أشت بنـا

كل بوشك البين معترف

فقالت له عائشة: يا عريض بحقي عليك أهو أمرك أن تغنين في هذا الشعر؟ فقال: لا وحياتك يا سيدتي. فأمرت له بخمسة آلاف درهم ثم قالت له: غنني في شعر غيره، فغناها في قول ابن أبي ربيعة:

أجمعت خلتي مع الضجر بينا

جلل الله ذلك الوجه زينـا

أجمعت بينها ولم تك منـهـا

لذة العيش والشباب قضينـا

فتلوت حمولها واستـقـلـت

لم تنل طائلا ولم تقض دينا

ولقد قلت يوم مـكة لـمـا

أرسلت تقرأ السلام علينـا

أنعم الله بالرسـول الـذي أر

سل والمرسل الرسالة عينا

فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض فأنعم الله بك عينا، وأنعم بابن أبي ربيعة عينا لقد تلطفت حتى أديت إلينا الرسالة وإن وفاءك له لما يزيدنا رغبة فيك وثقة بك، وقد كان عمر سأل من الغريض أن يغنيها هذا الصوت وقال له عمران: أبلغتها هذه في غناء، فلك خمسة آلاف درهم فوفى له بذلك وأمرت عائشة بخمسة آلاف درهم أخرى.

قم انصرف الغريض من عندها فلقي عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان وكانت قد حجت في تلك السنة فقال لها جواريها: هذا الغريض. قالت لهن: علي به. فجيء به إليها. قال الغريض: فلما سلمت دخلت فردت علي وسألتني عن الخبر، فأقصصته عليها قالت: غنني به ففعلت فلم أرها تهش لذلك فغنيتها معترضا ولها مذكرا بنفسي في شعر مرة بن محكان السعدي يخاطب امرأته، وقد نزل به أضياف:

أقول والضيف مخشي ذمـامـتـه

على الكريم وحق الضيف قد وجبا

يا ربة البيت قومي غير صاغـرة

ضمي إليك رحال القوم والضربا

في ليلة في جـمـادى ذات أنـدية

لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا

لا ينبح الكلب فيهـا غـير واحـدة

حتى تلف على خيشومه الذنـبـا

قال: فقالت وهي مبتسمة قد وجب حقك يا غريض فغنني فغنيتها:

يا دهر قد أكثرت فجـعـتـنـا

بسراتنا ووقرت في العـظـم

وسلبتنا ما لسـت مـخـلـفـه

يا دهر ما أنصفت في الحكـم

لو كان لـي قـرن أنـاضـلـه

ما طاش عند حفيظة سهـمـي

لو كان يعطي النصف قلت لـه

أحرزت سهمك فاله عن سهمي

فقالت: نعطيك النصف ولا نضيع سهمك عندنا ونجزل لك قسمك وأمرت له بخمسة آلاف درهم، وثياب عدنية وغير ذلك من الألطاف قال: وأتيت الحارث بن خالد فأخبرته وقصصت عليه القصة فأمر لي بمثل ما أمرتا لي به جميعا، فأتيت ابن أبي ربيعة وأعلمته بما جرى فأمر لي بمثل ذلك، فما انصرف أحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت بنظرة من عائشة ونظرة من عاتكة بنت يزيد وهما أجمل نساء عالمهما وبما أمرتا لي وبالمنزلة عند الحارث وهو أمير مكة وابن ربيعة وما أجازاني به جميعا من المال.

وقد قدم قادم غلى المدينة من مكة، فدخل على عائشة بنت طلحة فقالت له: من أين أقبل الرجل؟ قال: من مكة. فقالت: فما فعل الأعرابي فلم يفهم ما أرادت، فلما عاد إلى مكة دخل على الحارث فقال له: من أين؟ قال: من المدينة. قال: فهل دخلت على عائشة بنت طلحة؟ قال: نعم، قال: ففي ماذا سألتك؟ قال: قالت لي: ما فعل الأعرابي قال له الحارث: فعد إليها ولك هذه الرحلة والحلة، ونفقتك لطريقك وادفع إليها هذه الرقعة وكتب إليها فيها:

من كان يسأل عنا أين مـنـزلـنـا

فالأقحوانة منا مـنـزل قـمـن

إذ نلبس العيش صفوا مـا يكـدره

طعن الوشاة ولا ينبو بنا الـزمـن

ليت الهوى لم يقربنـي إلـيك ولـم

أعرفك إذا كان حظي منكم الحزن

ولقي عمر بن أبي ربيعة عائشة بمكة وعي تسير على بغلة لها فقال لها: قفي حتى أسمعك ما قلت فيك. قالت: أوقد قلت يا فاسق؟ قال: نعم، فوقفت، فأنشدها:

يا ربة البغلة الشهباء هل لك فـي

أن تشتري ميتا لا ترهبي حرجا

قالت بدائك مت أو عش تعالجـه

فما ترى لك فيما عندنا خرجـا

قد كنت حملتنا غيظا نعـالـجـه

فإن بعدنا فقد عنيتنا حـجـجـا

حتى لو أستطيع مما قد فعلت بنـا

أكلت لحمك من غي وما نضجا

فقلت لا والذي حج الحجـيج لـه

ما مج حبك من قلبي ولا نهجـا

ولا رأى القلب من شيء يسر بـه

مذ بان منزلكم منا ولا ثـلـجـا

ضنت بنائلها عنه فقـد تـركـت

في غير ذنب أبا الخطاب مختلجا

فقالت: لا ورب الكعبة ما عنينا طرفة عين قط، ثم أطلقت عنان بغلتها وسارت ولم تزل تداريه وترفق به خوفا من أن يتعرض لها حتى قضت حجها وانصرفت إلى المدينة فقال في ذلك:

إن من تهوى مع الفجر ظعن

للهوى والقلب متباع الوطن

بانت الشمس وكانت كلـمـا

ذكرت للقلب عادوت الدرن

يا أبا الحارث قلبـي طـائر

فأتمر أمر رشيد مؤتـمـن

نظرت عيني إليها نـظـرة

تركت قلبي إليها مرتهـن

ليس حب فوق ما أحببتـهـا

غير أن أقتل نفسي أو أجن

ومن أشعاره أيضاً فيها قصيدته التيأولها:

من لقلب أمسى رهينا مـعـنـى

مستكينا قد شـفـه مـا أجـنـا

إثر شخص نفسي فدت ذاك شخصا

نازج الدار بـالـمـدينة عـنـا

ليت حظي كطرفة العين منـهـا

وكثير منها القليل الـمـهـنـا

ونقل صاحب الأغاني قال: بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت إذ رأى عائشة بنت طلحة وكانت أجمل أهل دهرها، وهي تريد الركن تستلمه، فهبت لها رآها ورأته، وعلمت أنها قد وقعت في نفسه. فبعثت إليه بجارية لها وقالت: قولي له اتق الله، ولا تقل هجرا فإن هذا مقام لا بد فيه مما رأيت. فقال للجاري: أقرئيها السلام وقولي لها: ابن عمك لا يقول إلا خيرا، وقال فيها:

لعائشة ابنة التمـيمـي عـنـدي

حمى في القلب ما يرعى حماها

يذكرني ابنة الـتـيمـي ظـبـي

يرود بروضة سهـل ربـاهـا

فقلت لـه وكـاد يراع قـلـبـي

فلم أرقط كاليوم اشـتـبـاهـا

سوى خمش بساقك مـسـتـبـين

وأن شواك لم يشبـه شـواهـا

وأنك عـاطـل عـار ولـيسـت

بعـارية ولا عـطـل يداهــا

وأنك غير أقزع وهـي تـدنـي

على المتنين أسحم قد كسـاهـا

ولو قعدت ولـم تـكـلـف بـود

سوى ما قد كلفت به كفـاهـا

أظـل إذا أكـلـمـهـا كـأنـي

أكلم حية غـلـبـت رقـاهـا

تبيت إلي بعد الـنـوم تـسـري

وقد أمسيت لا أخشى سـواهـا

وقال فيها أشعارا كثيرة، فبلغ ذلك فتيان بني تيم أبلغهم إياه فتى منهم وقال لهم: يا بني تيم بن مرة ها والله ليقذفن بنو مخزوم بناتنا بالعظائم وتغفلون، فمشى ولد أبي بكر وولد طلحة بن عبيد الله إلى عمر بن أبي ربيعة، فأعلموه بذلك وأخبروه بما بلغهم فقال لهم: والله لا أذكرها في شعر أبدا، ثم قال بعد ذلك فيها وكنى عن اسمها قصيدته التي أولها:

يا أم طلحة إن البـين قـد أفـدا

قل الثواء لئن كان الرحيل غـدا

أمسى العراقي لا يدري إذا برزت

من ذا تطوف بالأركان أو سجدا

ولم يزل عمر يتشبب بعائشة أيام الحج ويطوف حولها ويتعرض لها وهي تكره أن يرى وجهها حتى وافقها وهي ترمي الجمار سافرة فنظر إليها فقالت: أما والله لقد كنت لهذا منك كارهة يا فاسق. فقال:

إني واوا ما كلـفـت بـذكـرهـا

عجب وهل في الحي من متعجب

نعت النساء فقلت لست بمبـصـر

شبها لها أبـدا ولا بـمـقـرب

فمكثن حينا ثم قلـن تـوجـهـت

للحج موعدها لقـاء الأخـشـب

أقبلت أنظر ما زعمن وقلـن لـي

والقلب بين مصـدق ومـكـذب

فلقيتها تمشي تهـادي مـوهـنـا

ترمي الجمار عشية في موكـب

غراء يغشي الناظرين بـياضـهـا

حوراء في غلواء عيش معجـب

إن التي من أرضها وسـمـائهـا

جلبت لحينك ليتها لم تـجـلـب

ولما حجت عائشة بنت طلحة جاءتها الثريا وأخواتها، ونساء أهل مكة القرشيات وغيرهن، وكان الغريض فيمن جاء فدخل النسوة عليها فأمرت لهن بكسوة وألطاف كانت قد أعدتها لمن يجيئها، فجعلت تخرج كل واحدة ومعها جاريتها ومعها ما أمرت به لها عائشة والغريض بالباب حتى خرج مولياته مع جواريهن الخلع والألطاف فقال الغريض: فأين نصيبي من عائشة؟ فقلن له: أغفلناك، وذهبت عن قلوبنا. فقال: ما أنا ببارح من بابها أو آخذ بحظي منها فإنها كريمة بنت كرام واندفع يغني بشعر جميل:

تذكرت ليلى فالفؤاد عمـيد

وشطت نواها فالمزار بعيد

فقالت: ويلكم هذا مولى العيلات بالباب يذكر نفسه هاتوه، فدخل، فلما رأته ضحكت وقالت: لم أعلم مكانك ثم دعت له بأشياء أمرت له بها، ثم قالت له: إن أنت غنيتني صوتا في نفسي فلك كذا وكذا شيء سمته له فغناها في شعر كثير:

وما زلت من ليلى دلن طر شاربي

إلى اليوم أخفي حبهـا وأداجـن

وأحمل في ليلى لقـوم ضـغـينة

وتحمل في ليلى علي الضغـائن

فقالت له: ما عدوت ما في نفسي ووصلته فأجزل. قال: إسحاق: فقلت لأبي عبد الله: وهل علمت حديث هذين البيتين ولم سألت الغريض ذلك؟ قال: نعم.

نقل عن الشعبي أنه قال: دخلت مسجدا فإذا أنا بمصعب بن الزبير على السرير جالس، والناس عنده، فسلمت ثم ذهبت لأنصرف فقال لي ادن مني يا شعبي فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، ثم قال: إذا قمت فاتبعني فجلس قليلا، ثم نهض فتوجه نحو دار موسى بن طلحة فتبعته، فلما دخل في الدار التفت إلي فقال: ادخل، فدخلت معه فإذا حجلة رأيتها لبعض الأمراء فقمت ودخل الحجلة فسمعت حركة، فكرهت الجلوس ولم يأمرني بالانصراف فإذا بجارية قد خرجت، فقالت: يا شعبي، إن الأمير يأمرك أن تجلس، فجلست على وسادة ورفع سجف الحجلة فإذا أنا بمصعب بن الزبير ورفع السجف الآخر فإذا أنا بعائشة بنت طلحة قال: فلم أر زوجا قط كان أجمل منهما مصعب وعائشة فقال مصعب: يا شعبي، هلت عرف هذه؟ فقلت: نعم، أصلح الله الأمير. قال: ومن هي؟ قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة قال: لا، ولكن هذه ليلى التي يقول فيه الشاعر: (وما زلت من ليلى لدن طر شاربي) – البيتين المتقدم ذكرهما -ثم قال: إذا شئت فقم، فقمت.

فلما كان العشي رحت وإذا هو جالس على سريره في المسجد، فسلمت، فلما رآني قال لي ادن مني فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه فأصغى إلي فقال: هل رأيت مثل ذلك الإنسان قط قلت: لا والله قال: أفتدري لم أدخلناك قلت: لا، قال: لتحدث بما رأيت.

فيظهر من هذه الرواية أن طباعهم في ذاك العصر كانت كطباع الغربيين في عصرنا هذا من قبل النساء لا كرجالنا الذين يخافون أن يظهروا للنساء أدنى شيء من الفضل غيرة عليهن ويزعموا أن هذا العز الكبر. رجعنا إلى بقية الحديث، قال: ثم التفت إلى عبيد الله بن أبي فروة فقال: أعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا قال: فما انصرف يومئذ أحد بمثل ما انصرف به بعشرة آلاف درهم وبمثل كارة القصار ثياباً وبنظرة من عائشة بنت طلحة.

عائشة النبوية ابنة جعفر الصادق

عائشة النبوية ابنة جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين وأخت موسى الكاظم.

قال المناوي: كانت من العابدات الجاهدات، وكانت تقول – رضي الله عنها – وعزتك وجلالك لئن أدخلتني النار لآخذن توحيدي وأطوف به على أهل النار وأقول وحدته فعذبني.

ماتت رضي الله عنها سنة هجري ودفنت فيا لمسجد المعروف باسمها الآن بناحية قراميدان بمصر وقبرها يزار وأهل مصر يعتقدون بها ويتبركون بزيارتها ومسجدها مقام الشعائر، وكان أبوها جعفر الصادق -رضي الله عنه – إماما نبيلا أخذ الحديث عن أبيه وجده لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه وعروة وعطاء ونافع والزهري وهو إمام مذهب الشيعة الإمامية.

عائشة بنت أحمد القرطبية

قال ابن حبان: لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعادلها علما وفهما، وأدبا وفصاحة وشعرا وكانت تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة، وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف وماتت عذراء لم تتزوج، وكانت وفاتها سنة 400 هجرية.

وقال صاحب المقرب: إنها من عجائب زمانها وغرائب أوانها وأبو عبد الله الطبيب عمها ولو قيل: إنها أشعر منه لجاز ودخلت يوما على المظفر بن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولد فارتجلت:

أراك الله فـيه مـا تـريد

ولا برحت معاليه تـزيد

فقد دلت مخايله على مـا

تؤمله وطالعه سـعـيد

تشوقت الجياد له وهز ال

حسام له وأشرقت البنود

وكيف يخيب شبل قد نمته

إلى العليا ضراغمة أسود

فسوف نراه بدار في سماء

من العليا كواكبه الجنود

فأنتم آل عامـر خـير آل

زكا الأبناء منكم والجدود

وليدكم لدى رأي كـشـيخ

وشيخكم لدى حرب وليد

وخطبها بعض الشعراء ممن لم ترضه فكتبت إليه:

إنا لبوة لكـنـنـي لا أرتـضـي

نفسي مناخا طول دهري من أحد

ولو أنني أختار ذلـك لـم أجـب

كلباً ولا أغلقت سمعي عن أسـد

عائشة بنت علي بن محمد بن عبد الغني بن المنصور الدمشقية كانت عالمة عاملة كاملة، تعلمت النحو، والصرف، والبيان، والعروض، والحديث، وفتحت حلقة للتدريس سمعت عن زوجها الحافظ نجم الدين الحسني، وعن الإمام ابن الخباز والمرداوي. ومن بعدهما حدثت وانتفع الناس بمعارفها وعلومها حتى أنها فاقت أهل زمانها علما وأدبا ومعاشرة وعفة.

عائشة بنت محمد بن عبد الهادي

عائشة بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد المجيد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي.

الصالحية الحنبلية سيدة المحدثين بدمشق، سمعت صحيح البخاري على حافظ العصر المعروف بالحجار. وروى عنها الحافظ ابن حجر وقرأ عليها كتبا عديدة، وانفردت في آخر عمرها بعلم الحديث، وكانت سهلة في تعليم العلوم، لينة الجانب للتعليم، ومن العجائب أن ست الوزراء كانت آخر من حدث عن الزبيدي بالسماع، ثم كانت عائشة آخر من حدث عن صاحبه ابن الحجار بالسماع أيضا وبين وفاتهما مائة سنة، وتوفيت عائشة هذه بدمشق سنة 816 هجرية ودفنت بالصالحية رحمة الله عليها.

عائشة بنت يوسف بن أحمد بن نصر الباعوني

كانت شاعرة مطبوعة، فاضلة أديبة، لبيبة عاقلة، وكان على وجهها من الجمال لمحة جملها الدب وحلتها بلاغة العرب، فجعلتها بغية ومنية الراغبين، والذي أجمع عليه العارفون أن عائشة هذه بين المولدين تزيد عن الخنساء بين الجاهلين، وقد وصفها عبد الغني النابلسي بأنها فاضلة الزمان، وحليفة الأدب في كل مكان، ووصفها غيره من العلماء والأعلام بأنها ربة الفضل والأدب، وصاحبة الشرف والنسب، وقد حضرت الفقه والنحو والعروض على جملة من مشايخ عصرها مثل جمال الحق والدين إسماعيل الحوراني والعلامة محيي الدين الأموري، وقد أخذ عنها جملة من العلماء والأعلام، وقد انتفع بها خلق كثير من الطالبين ولها ديوان شعر بديع في المدائح النبوية كله لطائف، ومن تآليفها: (مولد جليل للنبي صلى الله عليه وسلم) اشتمل على فرائد النظم والنثر، ومن شعرها قولها في جسر الشريعة لما بناه الملك الظاهر برقوق بيتان هدما كثيرا مما شيده فحول الشعراء من البيوت وهما:

بنى سلطاننا برقوق جـسـرا

بأمر والأنام لـه مـطـيعة

مجازا في الحقيقة لـلـبـرايا

وأمرا بالمرور على الشريعة

وبالحقيقة أن من رأى سحر بلاغتها فكأنما رأى هاروت وماروت، ومن شعرها البديع في الغزل قولها:

كأنما الخال القرط فـي عـنـق

بدا لنا من محيا مـن خـلـقـا

نجم غدا بعمود الصبح مستـتـرا

خلف الثريا قبيل الشمس فاحترقا

ومن نظمها قصيدتها البديعية التي سارت بذكرها الركبان، وفاقت بمعانيها على الصفي وابن حجة وسائر أهل البديع وذوي العرفان، ولها عليها شرح بديع سمته بالفتح المبين في مدح الأمين نظمتها على منوال بديعية تقي الدين بن حجة مع عدم تسمية النوع تمسكا بطلاقة الألفاظ، وانسجام الكلمات، وشرحتها بشرح مختصر أسفرت فيه عن لسان البيان بقدر الطاقة والإمكان، ونحن نورد مقدمة هذا الشرح بحروفها لما فيها من حسن المعاني البديعة وتأتي على إيراد القصيدة بأكملها بدون شرح وذلك إظهارا لفضل المترجمة وعلو همتها. قالت رحمها الله تعالى:

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله محلي جياد الأفهام بعقود مدح الشفيع، ومجلي سلامة الأذواق بمكرر ذكره الرفيع ومرصع تيجان البيان بجواهر سيرته الحسنا، ومزين سماء البلاغة بزواهر معجزه الأسنى، ومعجز العقول عن إدراك كنه صفاته، ومؤيس الأفكار من إحصاء خصائصه وآياته، وباعث الرسل مقررين لعظيم قدره، ومنزل الكتب مبنية لرفيع ذكره، ومعطر أرجاء الوجود بالثناء على خلقه العظيم، ومشرع ألوية التخصيص له بكرائم التسجيل وجلائل التكريم، ومطلق ألسنة الأطناب في شرفه المطلق المفرد ومفرده بكمال الاصطفاء فما لكماله مثل ولأحد حمدا يجمع لي بين الأماني والأمان، ويقتضي المزيد من المبرات الشهود والعيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة شافعة باتصال المدد، كافلة بالخلود في جنات العرفان إلى الأبد. وأشهد أن سيد أعيان الكونين، وعين حياة الدارين محمد عبده ورسوله، وحبيبه وخليله صلى الله عليه وسلم صلاة تصلني وذريتي وأحبائي في كل نفس بنفائس صلاته، وتقتضي دوام البسط بتوالي إمداداته، وتشفع لنا بمراحم القبول، وتسعفنا بكرائم الوصول صلاة لا ينقطع لها مدد، ولا ينقضي لها أمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى آل كل وصحب كل وسائر الصالحين وسلك تسليما وكرم تكريما.

وبعد، فهذه قصيدة صادرة عن ذات قناع، شاهدة بسلامة الطباع، ومنقحة بحسن البيان، مبنية على أساس تقوى من الله ورضوان، سافرة عن وجوه البديع، سامية بمدح الحبيب الشفيع، مطلقة من قيود تسمية الأنواع، مشرقة الطوالع في أفق الإبداع، موسومة بين القصائد النبويات بمقتضى الإلهام الذي هو عمدة أهل الإشارات بالفتح المبين في مدح الأمين، استخرت الله تعالى بعد تمام نظمها وثبوت اسمها في شيء يروق الطالب موارده، وتعظم عند المستفيد فوائده، وهو أن أذكر بعد كل بيت حد النوع الذي بنيت عليه وافر شاهده فإن ذلك مما يفتقر إليه وأنحو في ذلك سبيل الاختصار ولا أخل بواجب، وأنبه على ما لا بد منه قصد النفع الطالب، والمسؤول من الفتاح بتأسيسها على قواعد أذن الله أن ترفع ومن مثبت رفعها بوجاهة مدح الوجيه المشفع أن يصلي ويسلم عليه، ويجعلها خاصة لوجهه الكريم ووسيلة لي ولوالدي ولذريتي ولأحبائي ولمن والاني خيرا وفور الحظ من فضله العظيم، وأن ينيلنا بوجاهة الممدوح لديه وبحقه عليه نهاية الآمال، وشمول العفو والرضوان إنه جواد كريم رؤوف رحيم، ومن الله أستمد وعليه أعتمد وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

براعة المطلع

في حسن مطلع أقمار بذي سـلـم

أصبحت في زمرة العشاق كالعلم

الـجـنـاس الـمـذيل والـتـام

أقول والدمع جار جارح مقلي

والجار جار بعذل فيه مـتـهـم

الجناس المحرف

يا للهوى في الهوى روح سمحت بها

ولم أجد روح بشرى منهم بـهـم

الجناس المشوش

وفي بكائي لحال حال مـن عـدم

لفقت صبرا فلم يجدي لمنع دمي

الجناس المركب

يا سعد إن أبصرت عيناك كاظمة

وجئت سلعا فسل عن أهلها القدم

الجناس المصحف والمطلق

فثم أقمار تم طالعين علـى

طويلع حيهم وأنزل بحيهم

الجناس المخالف

أحبة لم يزالوا منتهـى أمـلـي

وإن هممو بالتنائي أوجبوا ألمي

الجناس اللاحق

علوا كمالا جلوا حسنا سبوا أمـمـا

زادوا دلالا فنى صبري فيا سقمي

الجناس اللفظي

أحسنت ظني وإن هم حاولوا تلفي

وثم سر وضنى فيه من شيمـي

الجناس المعنوي

أليحمدي وأبو تمام كـل شـج

عانى الغرام إلى قلبي لأجلهم

المناقضة

قيل اسلهم قلت إن هبت صبا شجرا وأشرق البدر تما سلخ شهرهم

الرجوع

ما لي رجوع عن الأشجان في ولهي بل عن سلوى رجوعي صار من لزمي

الاستدراك

رجوتهم يعطفوا فضلا وقد عطفوا

لكن على تلفي من فرط عشقهم

المطابقة

هان السهاد غراما فيه أقلقنـي

شوقا وعز الكرى وجدا فلم أنم

التمثيل

وعاذل رام سلواني فـقـلـت لـه

من المحال وجود الصيد في الأجم

الإبهام

عذلتني وادعيت النصح فيه فلا

برحت أسعى بلا حد إلى النعم

الاستعارة

كيف السلو ونار الحب مـوقـدة

وسط الحشا وعيون الدمع كالديم

الأرداف

ولي جفون بغير السهد ما اكتحلت

ولي رسوم بغير السقم لم تسـم

الافتتان

تهابني الأسد في إجامها وظبا

تلك الظبا قد أذلتني لعزهم

مراعاة النظير

أزروا بشمس الضحى والبدر حين بدوا وأومض البرق من تلقاء مبتسم

عتاب المرء نفسه

يا نفس ماذا الوني جدي فإن يصلوا

فالقصد أو لا فموتي موت محتشم

المغايرة

لذكرهم صار سمع العذل يطربني

من اللواحي ويلجيني أشكرهـم

سلامة الاختراع

بلغت من العشق مرمى ليس يدركه

إلا خليع صبا مثلي إلى الـعـدم

التوشيع

كتمت حالي ويأبى كتمه شجنـي

بحكمي الفاضحين الدمع والسقم

المراجعة

قالوا ارعوي قلت قلبي ما يطاوعني

قالوا انثني قلت عهدي غير منفصم

القول بالموجب

قالوا سلوت فقلت الصبر في كلفي

قالوا يئست فقلت البرء في سقمي

التهكم

يا عاذلي أنت معذور فسوف تـرى

إذا بدا الصبح ما غطى غشا الظلم

المواربة

أبرمت عذلا ويخشى أن تجـربـه

إلى السلو وما السلوان من شيمي

ضرب المثل

أجر الأمور على أذلالها فعـسـى

ترى بعينك وجه النصح في كلمي

النزاهة

عن ذم مثلك تبياني أنـزهـه

إذ أنت عندي معدود من النعم

تجاهل العارف

الجهل أغواك أم في الطرف منك عمى أغاب رشدك أو ضرب من اللمم

الهزل الذي يراد به الجد

أتعبت نفسك في عذلي ومعـذرة

مني إليك فسمعي عنك في صمم

البسط

اعذل وعنف وقل ما اسطعت لا ترني

إلا كما شاء وجدي حافظا ذمـمـي

التورية

تسومني الصبر عمن لي حلابهم

جميع ما مر من حالات عشقهم

التصدير

لم يا عذولي وشاهد حسنهم فإذا

شاهدته واستطعت اللوم بعد لم

ما لا يستحيل بالانعكاس

أني أنا عرفن فرع لنا نبـأ

من الملام وحشيه بوصفهم

تألف اللفظ والمعنى

وامزج ملامك بالذكرى فإن بها

تعللا لعليل الشوق مـن ألـم

التفويف

كرر أعد أطرب ابسط ثن غن أجب

قل سل جد ترنـم بـر مـن أدم

الإدماج

أعد حديث أحبائي فهـم عـرب

قد أعرب الدمع فيهم كل منعجم

الاستخدام

واستوطنوا السر مني فهو منزلهم

ولم أفوه به يوما لـغـيرهـم

المقابلة

بدا الصدود ببعدي عن جوارهم

فعاد وصل بقربي من محلهم

تآلف اللفظ والوزن

أحبة ما لقلبي غيرهـم أرب

وحبهم لم يزل يربو من القدم

تآلف المعنى والوزن

لزمت صدق ولاهم والتزمت به

فسلت أسلوه إلا عن سلوهـم

الإبداع

حلوا بقلبي وحلى جود مـنـتـهـم

جيدي وشكر الأيادي مسمعي وفمي

التفريع

ما بهجة الشمس في الآفاق مشرقة

يوما بأبهج من لألأء حسـنـهـم

القسم وجوابه

لا مكنتني المعالي من سيادتهـا

إن لم أكن لهم من جملة الخدم

حسن البيان

بفضلهم غمروني من فواضلهـم

بما عجزت به عن حق شكرهم

التوشيح

وألبسونـي مـذ آنـسـت نـارهـم

من طور حضرتهم نورا جلا ظلمي

المجاز

وألبسوني ثياب الوصل معـلـمة

بقربهم وأقروا في القرى علمي

الاستطراد

وخولوني ملكا فيه فزت بـهـم

فوز العفاة بوافي فيض فضلهم

التهذيب والتأديب

لهم شمائل بالإحسان قد شملت

وعلمت كرم الخلاق والشيم

الانسجام

ولي عوائد منهم بالجميل لها

بمنهم اتصال غير منحسم

التشريع

قالوا فقد راق عيش المستهام بهم

فلا جفا بعد ما جادوا بوصلهـم

الالتفات

حلوا بقلبي فيا قلبي تهن بـهـم

وافرح ولا تلتفت عنهم لغيرهم

الاحتراس

قد طال شوقي وقلبي منزل لهم

إلى الطلول التي تسموا باسمهم

تأليف اللفظ باللفظ

فليت شعري هل حالي بمنتظم

قبل الوفاة وهل شملي بملتئم

التكرار

نعم نعم حدثتني وهي صادقة

ظنون سري حديثا غير متهم

المناسبة

عن جودهم عن نداهم عن فواضلهم

عن منهم عن وفاهم نيل برهـم

حسن النسق

سادوا فجودهم جم وبـذلـهـم

حتم وموردهم غنم لكل ظمي

الإيجاز

يا سعد إن ساعد الأسعاد واجتمعت

لك الأماني وجئت الحي عن ألم

التتميم

عرج على قاعة الوعساء منعطـفـا

على العقيق على الجرعاء من أضم

التجريد

واقصد مصلى به باب السلام وقف

لدى المقام وقبل موطئ الـقـدم

التمكين

فلي فؤاد بذاك الحي مرتهن

سلا السلو وعانى وجده بهم

الحذف

ناشدته الله والنوار مـشـرقة

تعلو المعالم من سكانها القدم

الاقتباس

ائت الكريم وهذا طور حضرتهم

أقبل ولا تخف الواشين بالكلـم

النوادر

وشاهد الحسن والإحسان جزؤهم

ولا تدع منك جزأ غير مقتسم

الكناية

ولا يصدك عن بذل الوجوه لـهـم

نصح اللواحي وما صاغوا بنطقهم

المخلص

هم المفاليس ما ذاقوا الغرام ولا

أموا حمى خير خلق الله كلهم

الإطراء

محمد المصطفى ابن للذبيح أبو ال

زهراء جد أميري فتية الكـرم

التكرار

الوافر العظم ابن الوافر العظم اب

ن الوافر العظم ابن الوافر العظم

التكميل

المرتضى المجتبى المخصوص أحمد

من اختاره الله قبل اللوح والقـلـم

الترتيب

خير النبيين والبرهان متضـح

عقلا ونقلا فلم نرتب ولم نهم

التمسيك

أسناهم نسبا أزكاهم حسـبـا

أعلاهم قربا من بارئ النسم

السهولة

طه المنادى بألقاب العلا شرفا

وغيره بالأسامي ضمن كتبهم

المماثلة

عزت جلالته جلت مكانته

عمت هدايته للخلق بالنعم

الاعتراض

أعظم به من نبي مرسل نزلـت

في مدحه محكم الآيات من حكم

الإيداع

ينبي مفصلها عن عـز مـرتـبة

من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم

الإشارة

تبارك الله من أوحى إلـيه بـمـا

أوحى وخصصه بالمنتهى العظم

التفسير

برتبة ألقاب بالأدنى بحظوته

برؤية الله بالإيناس بالكلم

التوشيح

دنا ونـال فـلا ثـان يشـاركـه

فيما حواه من التخصيص والكرم

العنوان

أتى وكان نبيا عند خالقـه

قدما وآدم طينا بعد لم يقم

التسهيم

ذو الجاه حيث يضم الخلق محشرهم

ولا يرى غيره في الكشف للغمم

حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي

ذو المجد حيث أهيل المجد قاطبة

تسير تحت لواه يوم حشرهـم

الاكتفاء

ذو المعجزات التي منها الكتاب فيا

بشرى لمقتبس منه بكـل جـم

التوليد

يتلى ويحلو ولا يبلى وليس له

مبدل وهو حبل الله فاعتصم

التفصيل

قل للذي ينتهـي هـمـا يحـاولـه

من حصر معجز طه الطاهر الشيم

الموارد

كم أعقبت راحة باللمس راحته

وكم محا محنة ريق له بفـم

التقسيم

والنيران أطاعاه فتـلـك بـدت

بعد الأفول وهذا شق في الظلم

الجمع مع التقسيم

والماء من إصبعيه فاض فيض ندى

كيفه مردود هذا معـدم الـعـدم

الجمع

فريد حسن تسامى عن ممـاثـلـه

في الخلق والخلق والإحكام والحكم

القلب

بدر الكمال البدر مكتسب=من نوره وضياء الشمس فاعتلم

تنسيق الصفات

أعظم به من نبي سيد سـنـد

هاد سراج منير صفوة القدم

التشطير

بالحق مشتغل في الخلق مكتمل

بالبر معتصم بالبر ملـتـزم

السجع

للبذل مغتنم بالبشر متسـم

يسمو بمبتسم كالدر منتظم

الترصيع

ممجد الذكر في الفرقان بالحكـم

محمد الأمر في التبيان من حكم

اللف والنشر

جمال صورته عنوان سيرته

هذا بديع وهذي آية المـم

الإغراق

ولو غدا البحر حبرا والفضا ورقـا

في حصر أوصافه ضاقا ببعضهم

الغلو

وذكره كاد لولا سنة سبقت

إذا تكرر يحي بالي الرمم

المبالغة

علا من المثل فالتشبيه ممتـنـع

في وصفه وقصور العقل كالعلم

الاتساع

إذ كل حسن مفاض من محاسنه

وكل حسنى فمن إحسانه العمم

الاتفاق

محمد اسمه نعـت لـجـمـلة مـا

في الذكر من مدحه في نون والقلم

الجمع مع التفريق

علاه كالشمس لا يخفى على بصر

والوجه كالبدر يجلو حالك الظلم

التشبيه

لو كان ثم منيل قلت طلـعـتـه

كالبدر حاشا تعالى كامل العظم

التفريق

قالوا في الغيث قلت الغيث آونة

يهمي وغيث نداه لا زال همي

صحة الإقسام

يعطى العفاة أمانيهم فلست ترى

في حبه غير ممنوح ومغتنـم

الإشراك

في النور لاح علاه لا نظير لـه

نور القرآن وقرآنا من لدن حكم

التلمح

حاز الجمال في حسن متصف

بشطره بعض ما في سيد المم

المذهب الكلامي

هو الحبيب من الرحمـن

للعالمين بإيجاد من العدم

الالتزام

غوث الورى كعبة الآمال متلزمي

في حبه بالتفاني صار من لزمي

التوجيه

جردت حجي له من كل مفسـدة

ولم تزل بالصفا تسعى له قدمي

الترديد

بحر الوفاء دعاني بالوفاء إلى

نيل الوفاء ورواني من النعم

التجزئة

بلغت ما رمته منهم فـلـم أرم

عمن جلا غممي بالعزم والهمم

الإيضاح

وإفرده بالمدح واستثني بمدحك مـن

حازوا علا الفضل من فازوا بسبقهم

الاستتباع

الباذلو النفس بذل المال مـن يدهـم

والحافظو الجار حفظ العهد والذمم

السلب والإيجاب

لا يسلبون بفضل الله ما وهبـوا

ويسلبوا ضرر الإملاق بالكرم

التدبيج

سود الوقائع حمر البيض في حرب

خضر المرابع بيض الفعل والشيم

تشبيه شيئين بشيئين

كأنهم في عجاج النقع حين بدوا

بدور تم بدت في حندس الظلم

التنكيت

للجمع فلـوا ومـا فـلـت عـزائهـم

وهي المواضي على استئصال كل عم

المساواة

هم النجوم فما أسنى مطالعهم

في أفق ملته البيضا يهديهم

نفى الشيء بإيجابه

لا يمزج الشك منهم صفو معتقد

ولا يشين النقي باللم واللـمـم

جمع المؤتلف والمختلف

بالسبق فازوا بتخصيص تقدهم

فيه خليفته الصديق و القدم

المدح في معرض الذم

لا عيب فيهم سوى أن لا يضام لهم

وفد ولا يبخلوا بالرفد في العـدم

الازدواج

طه الذي إن اخف ذنبي ولذت به

أمنت خوفي ونجاني من النقم

التصريع

ولا طمحت إلى شيء من الكرم

إلا وبلغني فـوق الـذي أرم

الفرائد

ما هبت الريح إلا شمت برق وفا

لي فيه وبل غطا من ديمة النعم

براعة المطلب

يا أكرم الرسل سؤلي فيك غير خف

وأنت أكرم مدعو إلـى الـكـرم

العقد

حسبي بحبك أن المرء يحشر مع

أحبابه فهنائي غير منحـسـم

حسن الختام

مدحت مجدك والإخلاص ملتزمي

فيه وحسن امتداحي فيك مختتمي

إن ختام هذه القصيدة لم يأت في قصيدة غيرها من حسن الذوق السليم. ومن كثرة ما لها من العلم والفهم والإطلاع وسرعة الجواب فيه بدون روية سألها سائل نظما عن وطء النائمة، فقال:

ما قولك يا ستنا العـالـمة

في رجل دت على نـائمة

تفتحت تحسبه بـعـلـهـا

وهي بما لذ لـهـا رائمة

فاستيقظت فأبصرت غـيره

عضت على إصبعها نادمة

فهل لها من فتوة عنـدكـم

مأجورة من ذاك أم آثـمة

فأجابته على البديهة قائلة:

قالت لكم ستكم الـعـالـمة

أنا لأهل العلم كالـخـادمة

أنقل ما قالوا وما أخـبـروا

عن التي قد نكحت نـائمة

الشافعي قال لهـا أجـرهـا

ما لم تكن في نكحها عالمة

والمالكي قال أنا فـتـوتـي

مأجورة في ذاك لا آثـمة

والحنفي قال أتى رزقـهـا

في ظلمة الليل وهي حالمة

والحنبلي قال أنا فـتـوتـي

في هذه النكحة كـالآثـمة

لو لم يكن لذ لها طـعـمـه

لانتهضت من تحته قـائمة

وقد توفيت في القرن العاشر من الهجرة رحمها الله رحمة واسعة.

ماذا تعرف عن الملك فاروق و مصر فى عهد الملك فاروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *