كتاب الدر المنثور فى طبقات ربات الخدور قصص اشهر نساء العالم على مدى التاريخ حرف العين الجزء الثانى

عائشة بنت السيد عبد الرحيم الرفاعي

كانت والهة في الله خاشعة، تتكلم على الخواطر، وكانت عد من أعظم أهل الحال، وقفت مرة فوق سطح الدار والفقراء يتواجدون في الرواق فقالت للنساء اللواتي حولها: أعطاني الله حالا إن أردت منعت عن هؤلاء ما هم فيه.

فقالت النساء لها: بالله يا سيدتنا إلا ما فعلت، فرمقت حلقة الفقراء، فسكن القوم كأن لم يكن هناك ذكر ولا وجد، وفضحك أخوها السيد شمس الدين محمد.

وقال لولده: اذهب فقبل رأس عمتك وقل لها: فلتنفض على الناس مما أفاض الله لها. ففعل، فرمقت القوم مرة ثانية، فرجعوا لوجدهم وما كانوا عليه.

توفيت بأم عبيدة في بغداد سنة 635 هجرية ودفنت بمشهدها المبارك – رضي الله عنها.

عائشة عصمت بنت إسماعيل باشا تيمور بن محمد كاشف تيمور

أديبة فاضلة، حكيمة عاقلة، بارعة باهرة، شاعرة ناثرة، رضعت أفاويق الأدب وهي في مهد الطفولية وتحلت بحلى لغات العرب قبل تضلعها باللغات التركية، وفاقت على أقرانها فصاحة عند بلوغها سن الرشاد، وصارت ندرة زمانها بين أهل الإنشاء والإنشاد، ولم تدع لولادة مقالا، ولم تترك للأخيلية مجالا، وقد أخنست الخنساء وأنستها صخر، وسارت في مضمار أدباء هذا العصر.

تعلمت العلم والدب في مصر القاهر على أساتذة أفاضل بين أبويها، وكان أكثر ميلها إلى علم النحو والعروض حتى بلغت في الشعر حدا لم يبلغه غيرها من نساء عصرها. ولدت سنة 1256 هجري بمدينة القاهرة والدتها جركسية الأصل معتوقة والدها إسماعيل باشا تيمور، ولما انطوى بساط مهدها، وفرقت بين أبيها وجدها بادرت والدتها إلى تعليمها فن التطريز واستحضرت لها آلات التعليم، وكانت أفكارها غير متجهة لتلك بل جل مرغوبها تعلم القراءة والكتابة، وقد علم منها هذا الميل من ائتلافها مع كتاب والدها، وكلما كانت والدتها تمنعها عن الحضور مع الكتاب وتجبرها على تعلم التطريز تزداد هي نفورا من طلب والدتها.

ولما رأى والدها تلك المحاورات تفرس فيها النجابة وقال لوالتدها: دعيها فإن ميلها إلى القراءة أقر. وأحضر لها اثنين من الأساتذة: أحدهما: يدعى إبراهيم أفندي مؤنس كان يعلمها القرآن والخط والفقه. والثاني: يدعى خليل أفندي كان يعلمها علم الصرف واللغة الفارسية.

وبعدما تعلمت القرآن الشريف تاقت نفسها إلى مطالعة الكتب الأدبية – وأخصها الدواوين الشعرية – حتى تربت عندها ملكة التصورات لمعاني التشبيهات الغزلية وخلافها، ولما صارت قريحتها تجود بمعان مبتكرة لم يسبقها عليها غيرها رأى والدها أن يستحضر لها أساتذة عروضيين من النساء الأديبات، وقبل إتمام ذلك صار زواجها من السيد الشريف محمود بك الإسلامبولي ابن السيد عبد الله أفندي الإسلامكبولي كاتب ديوان همايوني بالأستانة سابقا، وذلك كان في سنة 1271 هجرية.

وهنالك اقتصرت عن المطالعة وإنشاد الأشعار والتفت إلى تدبير المنزل وما يلزم له وخصوصا حينما رزقت بالأولاد والبنات، وبقيت على ذلك حتى كبرت لها بنت كان اسمها توحيدة فألفت إليها زمام منزلها، وكان في تلك الفترة توفي والدها في سنة 1289 هجرية، وزوجها في سنة 1292 هجرية، وصارت حاكمة نفسها، فأحضرت لها اثنتين لهما إلمام بالنحو والعروض: إحداهما: تدعى فاطمة الأزهرية. والثانية: ستيتة الطبلاوية – وصارت تأخذ عليهما النحو والعروض حتى برعت وأتقنت بحوره وأحسنت الشعر، وصارت تنشد القصائد المطولة والأزجل المتنوعة، والموشحات البديعة التي لم يسبقها أحد على معانيها ومن ذلك قد جمعت ثلاثة دواوين بالثلاث لغات: العربية، والتركية، والفارسية.

وقبل أن تشرع في طبعها توفيت كريمتها توحيدة وهي في سن الثامنة عشرة من عمرها فاستولى على الترجمة الحزن والأسف الشديد حيث أنها كانت مدبرة منزلها، ولم تحوجها لأحد سواها، وهناك تركت الشعر والعروض والعلوم وجعلت ديدنها الرثاء والعديد والنوح مدة سبع سنوات حتى أصابها رمد العيون، وهنالك كثرت لواحيها وعواذلها من أولادها وصويحباتها ونهوها لتقلع عما هي فيه، وأخيرا سمعت قول الناصحين وقللت شيئا فشيئا من البكاء والنوح حتى شفاها الله من مرض العيون فجمعت ما وجدته من أشعارها فوجدت بعضه والباقي تفرق مدة حزنها، فجاء منه ديوان بالتركي سمته (شكوفة) وهو تحت الطبع الآن بالأستانة العلية، وديوان عربي سمته (حلية الطراز) وقد طبع ونشر وكان له وقع عظيم في النفوس وقبول زائد عند أهل الدب، وبعد ذلك رأت نفسها أنها قادرة على التأليف فألفت كتابا سمته (نتائج الأحوال) فجاء غريبا في بابه وقد طبع ونشرا أيضا، ولما انتشرت مؤلفاتها – المذكورة – سارت في حديثها الركبان إلى أقصى العمران، وطار صيتها في الآفاق، ووردت إليها التقاريظ من كل جهبذ أديب، ولوذعي أريب.

وجميع ما ورد لها من التقاريظ مكتوب في مؤلفاتها – المذكورة – التي منها هذا التقريظ الآتي من السيدة وردة اليازجي الذي أبدعت فيه لرقة معانيه على ديوان حلية الطراز وهذا نصه:

(سيدتي ومولاتي، إنني قد تشرفت باطلاعي على حلية طرازكم التي تحلى بها جيد العصر، وأخجلت بسبك معانيها خنساء صخر، ألا وهي الدرة اليتيمة التي لم تأت فحول الشعراء بأحسن منها، وقصر نظم الدر عنها، وشنفت بحسن ألفاظها مسامعنا حتى غدا يحسدها السمع والبصر، وسارت في آفاقنا مسير الشمس والقمر، ولقد تطفلت مع اعترافي بالعجز والتقصير بتقريظ لها وجيز حقير، فكنت كمن يشهد للشمس بالضياء، أو بالسمو للقبة الزرقاء، راجية من لدنكم قبوله بالإغضاء، ولا زلتم للفضل منارا يسطع، وبين الأدباء في المقام الأرفع بمن الله وكرمه:

حبذا حلية الطراز أتـت مـن

مصر تزهو باللؤلؤ المنظـوم

حلية لعقـول لا حـلـية الـو

شي وكنز المنطوق والمفهوم

أنشأته كـريمة مـن ذوات ال

مجد والفخر فرع أصل كريم

شمس علم تأتي القصائد منهـا

سائرات في الأفق سير النجوم

كل بيت بكل مـعـنـى بـديع

ما على السكر فيه من تحريم

قد أعاد الـزمـان عـائشة ف

يها فعاشت آثار علـم قـديم

هام قلبي على السماع وأمسـى

ذكرها لذتي وفيها نعـيمـي

هام قلبي على السماع وأمسـى

ذكرها لذتي وفيها نعـيمـي

هي فخر النساء بل وردة فـي

جيد ذا العصر زينب بالعلوم

فأدام المولى لـهـا كـل عـز

ما بدا الصبح بعد ليل بـهـيم

ومن تقاريظ كتاب (نتائج الأحوال) التقريظ الآتي ذكره من السيدة وردة اليازجي أيضا وهو (سيدتي ومولاتي، أعرض أنني بينما أنا ألهج بذكر ألطافكم السنية، وأتنسم شذا أنفاسكم العبقرية، وأترقب لقاء أثر من لدنكم يتعلل به الخاطر، ويكتحل بإثمد مداده الناظر، وصلتني مشرفتكم الكريمة، وفريدة عقد وردكم اليتيمة، فجلت عن العين أقذاءها، وردت إلى النفس صفاءها، فتناولها بالقلب لا بالبنان، وتصفحت ما في طيها من سحر البيان. فقلت:

هذا الكتاب الذي هام الفؤاد به

يا ليتني قلم في كف كاتبـه

لعمري إنه كتاب حوى بدائع المنثور والمنظوم، وتحلى من درر الفصاحة فأخجلت لديه دراري النجوم، وقد تطفلت على مقامكم العالي بهذا الجواب ناطقا بتقصيري، وضمنته من مدح سجاياكم الغراء وما يشفع لدى مكارمكم في قبول معاذيري، لا زلتم للفضل معدنا وذخرا وللأدب كنزا وفخرا:

أتت فشفت بطيب الوصل قلبي

فتاة تيمت قلبي الـمـحـب

بديعة منظر سلـبـت فـؤادي

ومن لي أن أطالبها بسلـبـي

جلت وجها كبدر التـم لـكـن

يلوح من الغدائر تحت حجب

لها وشم كخط السحـر وافـى

لديه الخال بالتنقـيط يسـبـي

فصيحة منطق ناغت بـلـفـظ

كسلسال من الصهباء عـذب

أتت تروي لنا عن لطـف ذات

غدت باللطف تسبي كل لـب

وقد أهدت تحيات تـحـاكـي

شذا النسمات عاطرة المهـب

رسول للـولاء دعـت فـؤادي

فبادر عند دعوتـهـا يلـبـي

ولاء كريمة مـن خـير قـوم

سموا شرفا على عجم وعرب

سراة شاع ذكرهم فـأمـسـى

مناط المدح فيشرق وغـرب

لقد ورثوا المعالي مـن قـديم

وصانوها بشفرة كل غضـب

هم النجب الأولى كرموا وطابوا

ولم يلدوا كذلك غير نـجـب

وحسبك منهـم خـود تـبـدت

بهذا العصر تخجل كل نـدب

فتاة زينب جيد الـمـعـالـي

بدر من حلي الآداب رطـب

أهيم بها علـى بـعـد ومـاذا

على الأقدار إن سمحت بقرب

على مصر السلام وساكنـيهـا

وما في مصر من ماء وترب

على ربع به قلـبـي مـقـيم

ومن لي أن أقيم مكان قلبـي

ألا يا من سمت فيكل فـضـل

ونالت كل خلق مسـتـحـب

ومن فاضت مكارمها فأحـيت

لدي من القريحة كل جـدب

لقد أوليتنـي كـرمـا وجـودا

بمدح من صفاتك جاء ينبـي

ثاء لسـت مـنـه غـير أنـي

به فاخرت أترابي وصحبـي

ورب مؤلف كالروض أجـرت

عليه سما البلاغة أي سحـب

تهادت فيه أبكار المـعـانـي

تجر من الفصاحة ذيل عجب

لقد طابت فكاهـتـه وأهـدى

لأسقام القرائح خـير طـب

جلا الحكم التي كانت مـنـارا

لكل بصيرة في كل خطـب

رأيت نـتـائج الأحـوال فـيه

ممثلة تلوح بـغـير نـقـب

لتميورية العصر المـحـلـى

بما نسجت يداها كل حـقـب

أديبة معشـر شـرفـت أصـولا

وسارت بـين أقـلام وكـتـب

حوت قصب السباق بـكـل فـن

وراضت في المعاني كل صعب

ودونـك غـادة عـذراء وافـت

بمهجة شيق لـلـقـاك صـب

وأني لو قدرت جعـلـت ذاتـي

بها سطرا ينادي الركب سربـي

تقر بعجز من نظمـت حـلاهـا

وتلتمس القبول وذاك حسـبـي)

ومن إنشاء المترجمة نثرا ما قالته مرة، ونشر في جريدة الآداب يوم السبت الموافق 9 جمادى الثانية سنة 1306 هجرية تحت عنوان (صعر المعارف) وهي:

لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات

(إني وإن كنت لست أهلا لمجال المقال في هذا المضمار ومعترفة بقصر اليد عن قبض زمام المنال لاعتكافي بخيمة الإزار، لكني أرى من خلال أطرافه أن مناهج التربية ظرف الكنوز وبحدود مسالك التأديب مفاتيح كل جوهر مكنوز، فالواجب على كل ذي نفس كريمة أن يميل كل الميل إلى تلك السبل الفخيمة ويحث كل عزيز له أن يرتع في مراتعها القويمة ليحظى بتلك الجواهر اليتيمة مع أني أرى الهيئة الشرقية لا تنظر إلا ما هو أمامها من الصالح فتحض به نفسها، ولو التفت إلى ما بعد يومها وتفقدته لعضت أنامل الندم على ما فرطت ووجدت بالالتفات إلى حكم بارئ النسمات، وموجد المخلوقات، وهي المصانع البديعة الربانية، والمباني الأصيلة الطبيعية صيرورة مدار عمران هذا العالم على الزوجين ولو أمكن الانفراد لخص عالم الأسرار أحدهما دون الآخر وهو الأفضل ولم يفقره إلى ما هو دونه، فكان التأمل في هيولى هذا الكون موجبا على الهيئة الرجولية العناية بتأديب البنات وتهذيب العائلات، لأن ثمرة الؤدد راجعة إليها، فلربما إنه قعد أمر الرجل فأدهشه، فلمته الزوجة بأطراف بناتها الرقيقة وأخمدت جذوة ولوعه بتدابيرها الدقيقة، وهو مع ذلك يجتهد في أن يكتم فضلها بين أفراد الهيئة ويحذر من إعلانه خشية أن يقال: هي ذات معلومية، فيكدر عيشه الصافي وهذا بخلاف الدولة الغربية فالأسف ثم الأسف على هيئة لم تمض فحصها في هذا النسق البديع ولم تجهد نفسها في البحث على هذا الشرف الرفيع، والعجب ثم العجب على مدينة تشغف بتزيين فتياتها بحلي مستعار، وتستعين على إظهار جمالهن بزخرف المعادن والأحجار، وتتخيل أنها زادتهن بسطة في الحسن والدلال، والحال أنها ألقت تلك الأحداث في أخدود الوبال، لأنه لم يعد عليهن من تلك المستعارات إلا العجب والغرور المؤدي بهن إلى ساحة المباهاة والفجور، وذلك لكف بصيرتهن عن الإدراك وعدم علمهن بنتائج الأحوال، وعواقب الأمور.

قد زينت بالدر غـرة جـبـهة

وتوشحت بخمار جـل أسـود

وتطوقت بالعقد تبهـج جـيدهـا

والجهل يطمس كل فضل أمجد

فلو اجتهدت الهيئة الرجلية في حسن سلوكهن بالتربية، وجذبتهن بشواهد المدينة إلى طرف الإطلاع لتتوجت تلك الغانيات من تلقائها بيواقيت المعلومية، وتقلدت بلآلئ التفقه، وكلما شبت ألفت خطواتها في طرق الإدراك، وأدركت مزية حليها الأصيل فزادته جلاء، وفطنت بغلاء قيمته فأوقرته بهاء وسناء، واستغنت بلمعة شرفه عن أرفع جوهر قماش، ولو كان ملبسها ثوبا من الشاش:

إن العلوم لأصل الفخر جوهـرة

يسمو بها قدر الوضيع ويشرف

فوجودها في درج مهجة فاضل

من حازها بين الآنام مشـرف

فأستوهبكم العفو يا أربا العقول عما سأقول: نحن معاشر المخدرات أدرى منكم بنشأة الأطفال من بنين وبنات، إذ من المعلوم أن الطفل حيثما صار على كف القابلة بادر أولا بالبكاء، ثم هجع برهة لفتوره مما لاقاه من التعب لاسيما إطلاق صوته في الصياح الذي لم يكن سبق له، ثم ينتبه محركا جيده يمينا وشمالا فاتحا فاه لطلب الغذاء، فترضعه أمه، فينام على أثر الشبع، فترى منه بسيمات خفيفة في أثناء نومه، وهذا دليل على أن دنيانا دار هم، ومحل أحزان وغم كثيرة الجفاء قليلة الصفاء، فإذا أخذ الطفل في النمو وبلغ خمسة أشهر كانت أول فطنته معرفة أمه ثم أبيه، وتناول الشيء حيث هو منها لإيصاله إلى فيه، فلكم التأمل في مبنى هذه الإشارة الخفيفة والعبارة اللطيفة، ثم كلما اشتدت أعصابه وقويت أعضاؤه علا صياحه فتبادره الوالدة بألحان معدة إليه فيصغي لسماع تلك الألحان. وإذا ضاق صدره من ألم عالجته بكل حنان، وحملته ودارت به من مكان إلى مكان فيفرج كربه ويتلطف ألمه، وهو يظن ذلك التلطف والتسكين بقدرتها وتبيت في قلق وضنك من الشفقة عليه فإذا عوفي أتى إليه الوالد بما يبهجه وتقر به عينه حسب قدرته، فإذا كبر وترعرع وطمحت نفسه للشراسة الطفلية اخترعت له أمه ما يليه عن ذلك وخوفته بمخترعات الأسماء منها ما يتخيل به إرهابا، وإذا صاح ذكرته به، وإذا تشيطن نادت به إليه فيسكت الطفل وتارة تذكر له أباه وتوجس به منه شرا فتوقع في قلبه من جهته الرعب فيستعظم قدرته ويكبره في عينه، ويجعل هيبته إنسان قلبه ومركز ذاته.

فيا ليت شعري ماذا يكون من أمر هذه الفقيرة إلى العلوم وهي خاوية الوفاض عما تستحقه إن في ذلك لحكما:

إن المصابيح إن أفعمتها دسما،

أهدت لوامعها في كل مقتبس

وإن خلا زيتها جفت فتائلـهـا

أين الضياء لخيط غير منغمس

وكيف تحسن الشفقة الوالدية بإساءة المشفق عليه، فلو عنيت رجالنا معاشر الشرقيين بتربية بناتهم وأجمعت على تلقين العلوم لهن بمقدار شفقتهم لنالت أرفع مجد، وأهنأ جد، ولعوضت تلك الفتيات عن ذلك القلق براحة العرفان، وأوسعت بسواعد معلوميتهن مضيق السلوك إلى ساحة الإذعان، وقامت بواجبات التدبير وهمت بوقاية أساس حليتها من التدمير لأن تخرب الدور بعد انقطاع أهلها طبيعي والطبيعي ليس بضار إنما هدم سقف الشرف بصرصر الجهل مع وجود الديار هو العار بل النار ومن المستغربات أن يفرط الغارس في تمهيد الأصل، ويأسف على اعوجاج الفرع، هو المؤدي به، فلو أروت الرجال غرائسها من قرارة المعرفة والعرفان لا تكأت في ثقل الأحمال على قويم تلك الأفنان، وصعدت بمساعدتهن أعلى الدرج، وتمسكت بأقوى الحجج.

ولكن تعالت هيئتنا هذه في التنمق عن التهذيب بحجة أوهى من بيت العنكبوت وهي أنهن إذا تعلمن الكتابة يعلقن بالهوى ومغازلة السوى بالجوى، وبادرن بالمراسلات ألم يطرق مسامعهم روايات الأميين، وأحاديث الجاهليين. فيا رجال أوطاننا وملاك زمام شأننا لم تركتموهن سدى، وذهلتم عن مزايا التأمل في (ما تفعل اليوم ستلقاه غدا) فمن أكم بخلتم عن أن تمدوهن بزينة الإنسانية الحقيقية، ورضيتم بتجردهن عن حليتها البهية، وهن بين أنامل سطوتكم أطوع من قلم، وخضوعهن لسلطتكم أشهر من نار على علم، فعلام ترفعون أكف الحيرة عند الحاجة كالضال المعنى، وقد سخرتم بأمرهن وازدريتم باشتراكهن معكم في الأعمال واستحسنتم انفرادكم في كل معنى فانظروا عائد اللوم على من يعود.

وإني أروم إظهار مقالي هذا ولكني لم أر ساعدا يكون لي مساعدا حتى منحنى المراد مفتاح درج ما كنه الفؤاد، وهي رسالة إحدى السيدات التي ترى تربية البنات من الوجبات، فيا لها من سيدة جلت بلوامع انتباهها في الليلة الليلاء سرجا، ورقت بقوة إدراكها في هذا السبق درجا، وانشقت أذهان السامعين من زهر فطنتها أرجا، وكحلت بإثمد نصحها عيون الناظرين فأحيت بصيره، وأدارت أسنة اللوم عنهن لأنها بقدرهن خبيرة فحق لي أن أهنئ المخدرات بفضل تلك المشارة التي شنفت مسامع الأيقاظ بهذه الإشارة هذا وإني أرى أنجم مصابيحها الغراء تنور بين أيدي الفضلاء، وتهدي أن يميل كل دان بالالتفات إلى ذلك الثناء المشهود، وتشغف كل مبصر منه يوصله إلى سبيل المقصود، والسلام على من اتبع الهدى).

ومن مراسلاتها إلى السيدة وردة – كريمة الشيخ ناصيف اليازجي – ردا على خطاب ورد للمترجمة منها وهو: (بسم الله أقول، وعزة مآثر البراعة، وعذوبة مذاق مزايا البلاغة، إني لأغبط كتابي لدى لقاء من أؤدي إليه جوابي فلو تطاوعني الإرادة لقرنت عين الإنسان بكل عين من حروفه، وصيرت نفس مرآة العيان قرطي مظروفه، أو قبل الشمل هديا لجعلت قربانه أبعد، أو رام أعظم رشوة وهبت إليه وجدا لم أجد له حد، وذلك عندما أقبل كتابكم من سماء المعاني بعبقري الخطاب، ونقشت رقة أرقام زبدة معانيه على صحاف الصدر، فنطق الجنان قبل اللسان بالترحاب، فلله در كتاب ما نطقت ولادة إلا بحروف هجايته، وما تغزل قيس إلا بألفاظ كادت تداني براعة بدايته، قد أسس بشير يراعه بخلاصة تأثير مآله حديقة الحق بالود وسقى عطير مداده غرائس صدق تفتر عن كل غرام ووجد، وقد عن لي أن أتتوج بتلك الحلية التي توسطت في فتح باب يانعة الوداد وأنالتني نشيق تفاحات وردت هي لانتعاش الروح عين المراد فأملي أن لا تبخلي علي بتلك العاطرة ما هب الصبا، كما انك لا تبرحين من بالي ما لاح كوكب، لا زال سنا عرفانك لائحاً بتيجان الربا وذكاء بهائك يبدي سلام من حملها حبكم وصبا).

ومن مراسلاتها للسيدة وردة المذكورة أيضا: (استهل براعة سلام حمل الشوق رسالته وتقلد الشفق ما نشقت ناشقة عرف الوداد كفالته، ولو رضيت المجال في صدق المقال لنطق بخالص الوفاء مداد حروفه، وأقام بأداء التحية العاطرة قبل فض ختام مظروفه ولعمري قد توجته أزاهر الثناء بلآلئ غراء، وكالمنه زواهر الوفاء من خالص الوداد إلى حضرة من لا تزال تستروح الأسماع بنسيم أنبائها صباحا ومساء، وتشوق الأرواح إلى استطلاع بدر إنسانها الكامل أطرافا وإناء، ومما زادني شوقا إلى شوق حتى لقد شب فيه طفل الشفق عن الطوق اجتلائي حديقة الورد القدسية ونافجة الدب المسكية، فيا لها من حديقة رمقتها أحداق الأذهان فاقتبست نورا ونوار، وانتشقتها مسام الآذان فثلمت طربا وسرورا.

ومنذ سرحت في أرجاء تلك اليانعة إنسان العيون، وشرحت بأفكار البصيرة أسرار ذلك الدر المصون لم أزل بين طرب أتوشح بوشاحه، وأدب أتعجب من حسن اختتامه وافتتاحه وجعلت أغازل من نرجس تلك الروضة عيونا ملكت مني الحواس وأهصر من غصون ألفاتها كل ممشوق أهيف مياس، وأتأدب في حضرة وردها خوفا من شوكة سلطانه، وإن حياتي بجميل الالتفات ضاحكة عن نفيس جمانه، وإذا بالياسمين الغض قد ألقى نفسه على الثرى ونادى بلسان الإفصاح هل لهذه النضرة نظيرة يا ترى، فأشار المنثور بكفة الخضيب أن لا نظير لتلك الغادة، ونطق الزنبق بلسان البيان لا تكتموا الشهادة، فعند ذلك صفق الطير بأكف الأجنحة وبشر وجرى الماء لإذاعة نبأ السرور، فعثر بذيل النسيم وتكسر، وتمايلت أغصانها المورقة، لسماع هذا الحديث، وأخذت نسماتها العاطرة في السير الحثيث إذاعة لتلك البشائر في العشائر ونشرا لهذا الفضائل التي سارت مسير المثل السائر، فقلت بلسان الصادق الأمين بعد تحقق هذا النبأ اليقين هكذا هكذا تكون الحديقة وإلا وكذلك لتكتب الفضائل وتملي:

وحدثتني يا سعد عنهم فزدتـنـي

غراما فزدني من حديثك يا سعد

فتحمل عني أيها الصديق تحية إلى ربة هاتيك الحديقة واشرح لديها حديث شغفي بفضلها الباهر على الحقيقة، واعتذر عن كتابي هذا فقد جاء يمشي على استحياء، وكلما حرضه الشوق على القدوم يبطئه الحياء وكيف وقد حل في منبع الفضائل والمقام الذي لم يدع مقالا لقائل، كأني إنما أهدى الثمر إلى هجر وأمنح البحر الخضم بالمطر أدام الله معالي تلك الحضرة وزادها في كل حال بهجة ونضرة ما لاح جبين هلال وبلغ غاية الكمال). ومن شعرها البديع قولها:

بيد العفاف أصون عز حجـابـي

وبعصمتي أسمو على أتـرابـي

وبـفـكـرة وقـادة وقــريحة

نقـادة قـد كـمـلـت آدابـي

ولقد نظمت الشعر سيمة معشـر

قبلي ذوات الخدر والأحـسـاب

ما قتلـه إلا فـكـاهة نـاطـق

يهوي بلاغة منطـق وكـتـاب

فبنية المهدي ولـيلـى قـدوتـي

وبفطنتي أعطيت فصل خطابي

لله در كواعب نـسـبـوا لـهـا

نسج العلا لعوانـس وكـعـاب

وخصصن بالدر الثمين وهامت ال

خنساء في صخر وجوب صعاب

فجعلت مرآتي جـبـين دفـاتـر

وجعلت من نقش المداد خضابي

كم زخرفت وجنات طرسي أنملـي

بعذار خط أواهـب شـبـابـي

ولكم أضا شمع الذكا وتضـوعـت

بعبير قولـي روضة الأحـبـاب

منطقت ربات البها بـمـنـاطـق

يغبطنها في حضرتي وغـيابـي

وحللت في نادي الشعـور ذوائبـا

عرفت شعائرها ذوو الأنـسـاب

عوذت من فكري فنون بلاغـتـي

بتميمة غـرا وحـرز حـجـاب

ما ضرني أدبي وحسن تعـلـمـي

إلا بـكـونـي زهـرة الأبـاب

ما سائني خدري وعقد عصابـتـي

وطراز ثوبي واعتزاز رحـابـي

ما عاقني خجلي عن الـعـلـيا ولا

سدل الخمار بلمتـي ونـقـابـي

عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت

صعب السباق مطامح الـركـاب

بل صولتي في راحتي وتفـرسـي

في حسن ما أسعى لخـير مـآب

ناهيك من سر مصـون كـنـهـه

شاعت غرابته لـدى ا؟لأغـراب

كالمسك مختـوم بـدرج خـزائن

ويصوغ طيب طيبـه بـمـلاب

أو كالبحار حوت جواهـر لـؤلـؤ

عن مسها شلـت يد الـطـلاب

در لشوق نوالـهـا ومـنـالـهـا

كم كابد الغواص فـعـل عـذاب

والعنبر المشهور وافق صونـهـا

وشؤنه تتـلـى بـكـل كـتـاب

فأنرت مصباح البارعة وهي لـي

منح الإله مـواهـب الـوهـاب

وقولها وقد توسلت بالمقام النبوي صلى الله عليه وسلم:

أعن وميض سري في حندس الظلـم

أم نسمة هاجت الأشواق من أضـم

فجدد إلى عهد بـالـغـرام مـضـى

وشاقني نحو أحبابـي بـذي سـلـم

دعا فؤادي من بعـد الـسـلـو إلـى

من كنت أعهد في قلبي من الـقـدم

وهاجني لحبيب عشـق مـنـظـره

يمحو ويثبت ما يهواه من عـدمـي

يمحو سلوي كما يمـحـو إسـاءتـه

حبي له فعذابي فـيه كـالـنـعـم

رام الوشاة سلوي عـن مـحـبـتـه

ولـم أوف لـهـم عـذلا ولـم أرم

كيف استنار الجوى يا من تملكـنـي

وشاهد العشق في العشاق كالعـلـم

فيا له معرضا عني ومـعـتـرضـا

بين الفراغ وقلبي فهو متـهـمـي

حسبي من الحب ما أفضى إلى تلفـي

وما لقـيت مـن الآلام والـسـقـم

إني رددت عنانـي عـن غـوايتـه

وقلت يا نفس خلي باعـث الـنـدم

ولذت بالمصطفى رب الشـفـاعة إذ

يدعو المنادي فتحيا الناس من رمـم

طه الذي قد كسى إشراق بعـثـتـه

وجه الوجود سناء الرشد والـكـرم

طه الذي كلـلـت أنـوار سـنـتـه

تيجان أمته فضـلا عـلـى الأمـم

نعم الحبيب الذي من الـرقـيب بـه

وهو القريب لراجي المجد والنعـم

روحي الفداء ومن لي أن أكـون لـه

هذا الفداء وموجودي كـمـنـعـدم

وما هي الروح حتى أفتديتـه بـهـا

وهي البقاء بقاء الظلم والـظـلـم

والعمر أوفت ثقال الوزر لمـحـتـه

وبددته صروف الدهر بـالـتـهـم

أين الرشاد الـذي أعـددتـه لـغـد

غويت عنه فزلت بالهوى قـدمـي

من لي بأطلال بان عز منـظـرهـا

تسقي بطل من الآماق منـسـجـم

تحط أثقـال وزر لا تـقـوم بـهـا

شم الرواسي من راس ومـنـهـدم

كم بنبع زلـل قـد فـاض مـن يده

أروى الأوام وأسقى منه كـل ظـم

والجذع أن له من بـعـده جـزعـا

لما نأى عنه مولى العرب والعجـم

لانت له الصخرة الصـمـاء طـائعة

مذ مسها سيد الـكـونـين الـقـدم

فيا لها معجـزات مـا لـهـا عـدد

أقلها ما بـدا نـار عـلـى عـلـم

ولا يحيط به مدحي ولـو جـعـلـت

جوارحي ألسنا ينطقن بـالـحـكـم

وإنما أرتجي من مـدحـه قـبـسـا

يهذي الصراط ويشفي الروح من ألم

وكيف لي باتعاظ النـفـس آمـرتـي

بالسوء ناهيتي عن مورد الـنـعـم

فما التماسي عـن خـير يقـربـنـي

إلى النعيم ولا نسقي بمـنـتـظـم

لكن لي أسوة أشفي بـهـا وصـبـي

حسن ارتباطي بحبل غير منفـصـم

ومـنة الـلـه دين وصـفـه قــيم

لحجني أن أخف يوم لـلـقـا يقـم

وما سوى فوز كوني بعـض أمـتـه

ذخرا أفوز به مـن زلة الـوصـم

إلا التماسي عفواف بالشـفـاعة لـي

من خاتم الرسل خير الخلق كلـهـم

مددت كف الرجا أرجو مـراحـمـه

وقد حللت به في شهـره الـحـرم

محمد المصطفى مشكاة رحمـتـنـا

مصباح حجتنا فـي بـعـثة الأمـم

يا من به أفـتـدي يوم الـزحـام إذا

أبديت ناصية مفـجـومة الـوسـم

أقول حين أوافي الحشر في خجل

إن الكبائر أنست ذكرة الـلـمـم

يا خير من أرتجي إن لك تكن مددي

وأزلتي يوم وضع القسط والدمي

فأشفع بحب الذي أنت الحبيب لـه

لولاك ما أبرز الدنيا من الـعـدم

عليك أزكى صلاة الله ما افتتحـت

أدوار دهر وما ولت بمختـتـم.

وقولها غزلا:

منثور حسنك في الحشا سطرته

ورقيم خطك طالما كررتـه

سطر العذار تلوته فوجـدتـه

يومي لسفك دمي وقد سلمته

وقولها في الخمريات:

لاح الصبوح وبـهـجة الأوقـات

فاشرب وعاطي الصب بالكاسات

واجلب براحك للقلـوب تـروحـا

فالراح تبدع نـشـأة الـلـذات

وانهض فديتك فالزمان مراقـبـي

فالحظ لي فـي كـل يوم آتـي

ودع الوشاة وما تقول عـواذلـي

فالعين عيني والصفات صفاتـي

ودعني ومالي في الفؤاد بحبـهـا

لما صبا بشقـائق الـوجـنـات

لا غرو أن كان الرشـيق يديرهـا

في معهد الغزلان والـبـانـات

فانا الأسير بظل روض كرومهـا

ولو أن في عتقي هني حـياتـي

وأنا الشهيد بحب ذوق عصيرهـا

إن كان في حب الكؤوس مماتي

جهل العواذل ما تريد بشـربـهـا

نفسي وما تلقى من السـكـرات

تسليني عن جـفـوة أم صـبـوة

لفؤادي المضنى من الحسـرات

شتان بين ظنونـهـم وسـرائري

والله يعلم منـتـهـى غـاياتـي

كما باتت الأحداق يسقى طلـهـا

روض الجوى وحدائق اللوعات

يا عاذلي كف المـلام فـإنـنـي

صلب بدت بين الـورى آياتـي

قل ما تشاء فإن قولك مطـربـي

وحديث من أهوى دوا عـلاتـي

إن شئت لمني أو فهـدد وانـتـه

فأليم لومك في الهوى لـذاتـي

لعبت بي الأشجان حتـى إنـنـي

لم أدر من أهوى ومن هو ذاتي

ورسا بي الشوق الخؤن لمعـهـد

أهو العلى أم غرفة الـجـنـات

وقلوها تهنئة بمولود:

تجلى النور في أفق المعالـي

وحل البدر في أوج الكمـال

وأزهرت الكواكب مسفـرات

عن البشرى كإشراق الليالي

وأبدى الدهر مـولـودا زكـيا

تلوح علـيه آيات الـجـلال

عطاره بلائحة الـتـهـانـي

أتى الأعتاب والإقبال عالـي

فألبسنا مـن الأفـراح تـاجـا

وكللـه بـأنـواع الـلآلـي

فطب صدرا وقر به عـيونـا

ودم فرحا بهاتيك الـخـلال

فمشكاة السعود لديك تـنـمـو

وعباس علي النضر غالـي

مخايله الشريفة مـعـلـنـات

بأن سيكون في أبهى الخصال

ويقفوا الشبل في وصف أبـاه

كما يقفوا الرشا أثر الغـزال

وقال مشطرة لهذين البيتين:

وليلى ما كفاها الهجـر حـتـى

أطالت في دجى ليلـي أنـينـي

وكل تجلدي بالـصـبـر لـمـا

أباحت في الهوى عرضي وديني

فقلت لها ارحمي الأمي قـالـت

كذا خط اليراع على الجـبـين

فدع قلق الصغار وكن صـبـورا

وهل في الحب يا أمي ارحمـي

وقالت في تشطيرهما أيضا:

وليلى ما كفاها الهجـر حـتـى

أذاعت بعد كتمان شـجـونـي

وحـين تـبـينـت آيات وجـدي

أباحت في الهوى عرضي وديني

فقلت لها ارحمي الأمي قـالـت

جننت وفي الهوى بعض الجنون

وهبني كنت أمك كـيف أحـنـو

وهل في الحب يا أمي ارحميني

وقالت مخمسة للبيتين المذكورين:

إليك معنـقـي يكـفـيك إفـتـا

جهلت صبابتي أم هل عرفـتـا

فلا أقوى علـيك وأنـت أنـتـا

وليلى ما كفاها الهجر حـتـى

أباحت في الهوى عرضي ودين

بروض جمالها أمت وقالت

وإن عثر المتـيم مـا أقـالـت

وكم صدت في هجري أطـالـت

فقلت لها ارحمي الأمي قالـت

وهل في الحب يا أمي ارحميني

وقالت تهنئ الخديوي السابق:

كللت تاج البدر قربا بـالـشـرف

مذ حل في مصر ركابك وانعطف

طربت بمقدمك السني وعـطـفـه

مصر السعيدة والسرور بها هتف

لما عزمت عزمت يصحبك الثـنـا

والعود جدد بالهنا ما قد سـلـف

وتزينت بكر الحبور وأصـبـحـت

مجلوة بين الرفـاهة والـتـرف

وتجملت مصر بما جـاء الـهـنـا

ورخيم مطربها على عود عكـف

وبك الأماني قد تبسـم ثـغـرهـا

والصفو مال بقده حسن الـهـيف

وتراقصت مهج النفوس لبشرهـا

كبلابل غردن في روض أنـف

أضحى يقول بسعد بابك نيلـهـا

أقل سرت الدنيا ومن فيها شغف

رقمت جمال بها قدومك عصـمة

بمداد تحرير سناه شفي وشـف

وبمعجم في معرب قـد أرخـت

كللمت تاج البدر قربا بالشرف

وقالت ترثي ابنتها:

إن سـال مـن غـرب الـــعـــيون بـــحـــور

فالـــدر بـــاغ والـــزمـــان غـــــدور

فلـكـل عـــين حـــق مـــدرار الـــدمـــا

ولـكــل قـــلـــب لـــوعة وبـــثـــور

ستـر الـسـنـا وتـحـجـبـت شـمـس الـضـحـى

وتـنـقـبـت بـعـــد الـــشـــريف بـــدور

ومـضـى الـذي أهـوى وجـرعـنـــي الأســـى

وغـدت بـقـلـبـــي جـــذوة وســـعـــير

يا لـيتـه لـمـا نــوى عـــهـــد الـــنـــوى

وافـى الـعـيون مـــن الـــظـــلام نـــذير

ناهـيك مـا فـعـلـت بـمـاء حـشــاشـــتـــي

نار لـهـا بـين بـين الــضـــلـــوع زفـــير

لوثـب حـزنـي فـي الـورى لـم يلــتـــفـــت

لمـصـاب قـيس والـمــصـــاب كـــثـــير

طافـت بـشـهـر الـصـوم كـاســـات الـــردى

سحـــرا وأكـــواب الـــدمـــوع تــــدور

فتـنـاولـت مـنـهـا ابـنـتـي فــتـــغـــيرت

جنـات خـد شـانـــهـــا الـــتـــغـــيير

فذوت أزاهـير الـــحـــياة بـــروضـــهـــا

والـقـد مـنــهـــا مـــائس ونـــضـــير

لبـسـت ثـياب الـسـقـم فـي حــفـــر وقـــد

ذاقـت شـراب الـــمـــوت وهـــو مـــرير

جاء الـطـبـيب ضـحـى وبـشـر بـالـشـــفـــا

إن الـطـبـيب بـطـبـــعـــه مـــغـــرور

وصـف الـتــجـــرع وهـــو يزعـــم أنـــه

بالـبـرء مـن كـل الـســقـــام بـــشـــير

فتـنـفـسـت لـــلـــحـــزن قـــائلة لـــه

عجـل بـبــرئي حـــيث أنـــت خـــبـــير

وارحـم شـبــابـــي إن والـــدتـــي عـــدت

ثكـلـى يشـير لـهـا الـجـــوى وتـــشـــير

وارأف بـهـا قـد حـرمـت طــيب الـــكـــرى

تشـكـو الـسـهـاد وفـي الـجـوف فـــتـــور

لمـا رأت يأس الـــطـــبـــيب وعـــجـــزه

قالـت ودمـع الـمـقـــلـــتـــين غـــزير

أمـاه قـد كـل الـطـبـــيب وفـــاتـــنـــي

ممـا أؤمـل فــي الـــحـــياة نـــصـــير

لو جـاء عـراف الــيمـــامة يبـــتـــغـــي

برئي لـرد الـطـــرف وهـــو حـــســـير

يا روع روحـي حـلـهـا نـزع الـــضـــنـــى

عمـا قـلـيل ورقـــهـــا ســـتـــطـــير

أمـاه قــد عـــز الـــقـــاء وفـــي غـــد

ستـرين نـعـشـي كــالـــعـــروس يســـير

وسـينـتـهـي الـمـسـعـى إلـى الـلـحـد الــذي

هو مـنـزلـي ولـه الـجـمـــوع تـــصـــير

قولـي لـرب الـلـحـد رفـقـا بـابــنـــتـــي

جاءت عـروسـا سـاقـهـــا الـــتـــقـــدير

وتـجـلـــدي بـــإزاء لـــحـــدي بـــرهة

فتـراك روح راعـــهـــا الـــمـــقـــدور

أمـاه قـد سـلـفـــت لـــنـــا أمـــنـــية

يا حـسـنـهـا لـو سـافـهـا الـــتـــيســـير

كانـت كـأحـلام مـضـت وتــخـــلـــفـــت

مذ بـان يوم الـــبـــين وهـــو عـــســـير

عودي إلـــى ربـــع خـــلا ومـــآثـــــر

قد خـلـفـت عـنــي لـــهـــا تـــأثـــير

صونـي جـهـاز الـعـرس تـذكــارا فـــلـــي

قد كـان مـنـه إلــى الـــزفـــاف ســـرور

جرت مـصـائب فـرقـتـي لـــك بـــعـــد إذ

لبـس الـسـواد ونـفـذ الــمـــســـطـــور

والـقـبـر صـار بـغـــصـــن قـــدي روضة

ريحـانـهـا عـنـــد الـــمـــزار زهـــور

أمـاه لا تـنـسـي بــحـــق بـــنـــوتـــي

قبـري لـئلا يحـــزن الـــمـــقـــبـــور

ورجــاء عـــفـــو أو تـــلاوة مـــنـــزل

فسـواك مـن لـي بـــالـــحـــنـــين يزور

فلـعـلـمـا أحـظـى بــرحـــمة خـــالـــق

هو راحـــم بـــر بـــنـــا وغـــفـــور

فجـبـتـهـا والـدمـع يحـبـس مـنـطـــقـــي

والـدهـر مـن بـعــد الـــجـــوار يجـــور

بنـتـاه يا كـبـدي ولـوعة مـــهـــجـــتـــي

قد زال صـفـو شــأنـــه الـــتـــكـــدير

لا تـوصـي ثـكـلــى قـــد أذاب فـــؤادهـــا

حزن عـــلـــيك وحـــشـــرة وزفــــير

قسـمـا بـغـض نـواظـر وتــلـــهـــفـــي

مذ غـــاب إنـــســـان وفـــارق نــــور

وقـبـلـتـي ثـغـرا تـقـضـي نـــحـــبـــه

فحـرمـت طـيب شــذاه وهـــو هـــطـــير

والـلـه لا أسـلــو الـــتـــلاوة والـــدعـــا

ما غـردت فـوق الـــغـــصـــون طـــيور

كلا ولا أنـسـى زغــير تـــوجـــعـــنـــي

والـقـد مـنـك لـدى الـثـــرى مـــدثـــور

إنـي ألـفـت الـحـزن حـــتـــى إنـــنـــي

لو غـاب عـنـي سـاءنــي الـــتـــأخـــير

قد كـنـت لا أرضـى الـتــبـــاعـــد بـــرهة

كيف الـتـصـبـر والـــبـــعـــاد دهـــور

أبـكـيك حـتـى نـلـتـــقـــي فـــي جـــنة

برياض خـلـد زينـــتـــهـــا الـــحـــور

إن قـيل عـائشة أقـــول لـــقـــد فـــنـــي

عيشـي وصـــبـــري والإلـــه خـــبـــير

ولهي على توحيدة الحسن التي قد غاب بدر جمالها المستور

قلبي وجفني واللسان وخالقي

راض وبـــاك شـــاكـــر وغـــفــــور

متـعـت بـالـرضـوان فـي خـلـد الـــرضـــا

ما زينـــت لـــك غـــرفة وقـــصــــور

وسـمـعـت قـول الـحـق لـلـقـوم ادخـــلـــوا

دار الـسـلام فـسـعـيكــم مـــشـــكـــور

هذا الـنـعـيم بـه الأحــبة نـــلـــتـــقـــي

لا عـيش إلا عـــيشـــه الـــمـــبـــرور

ولـك الـهـنـاء فـصــدق تـــاريخـــي بـــدا

توحـيدة زفـت ومــعـــهـــا الـــحـــور

وقولها غزلا:

ملك الفؤاد وقد هـجـر

بدر المحاسن مذ ظهر

عذب الرضاب مهفهـف

يسبي المتيم بالـحـور

ما حيلتـي فـي حـبـه

ألا الخضوع لما أمـر

من منجدي وجـفـونـه

منها المحب على خطر

وا حيرتي فـي حـبـه

وا طول شجوي بالخفر

أشكو الغرام ويشتـكـي

جفن تعذب بالسـهـر

يا قلب حسبك ما جـرى

أحرقت جسمي بالشرر

رام الحبيب لك الضنـى

لم ذا وأنت له مـقـر

لكن تعـذيب الـهـوى

ما للشجي منه مـفـر

قابـلـتـه مـتـثـنـيا

ناهيك من غصن خطر

واتيتـه مـتـبـسـمـا

كالبدر لما أن سـفـر

يا بدر حكمك الـهـوى

فاحكم ونفذ مـا أمـر

ألق الوشاح وخـلـنـي

أصلى سعيرا في سقر

وعن العذار فلا تـسـل

ولنت أولى من عـذر

ودع الظلام على الضـيا

واستر بطرتك اغـرر

سامت بها الثغـر الـذي

يفتر عن غالي الـدرر

واصدع بحسنك وافتخـر

تيها بجيدك والـطـرر

فالشمس تخجل عنـدمـا

تبدو ويستحي القـمـر

وقولها غزلا أيضا:

ملك الفؤاد وقد رشـى

بدر تكنى بـالـرشـا

عذب الرضاب مهفهف

يسبي الشجي إذا مشى

ما حيلتي فـي حـبـه

إلا سعير في الحشـا

وقالت مخمسة:

وعذري الهوى العذري وهـو يمـين

به مقسم الـتـبـريح لـيس يمـين

لأفتكمن ضرب الـصـفـاح تـبـين

عيون عن السحر المـبـين تـبـين

يسالمها المشتـاق وهـي تـخـون

عجبت لها تنسى وقلبي حافظ

وإنسانها ينسى النهى وهـو واعـظ

وأعجب من ذا الفتك وهي لـواحـظ

مراض صحاح ناعـسـات يواقـظ

لها عند تحريك الجفـون سـكـون

فآهالها مرضي على شدة القوى

وهاروت عن أجفانها السحر قد روى

ولا ذنب للولهان في لـوعة الـجـوى

إذا إبصرت قلبا خليا مـن الـهـوى

وأومت بلطف حـل فـيه فـتـون

يقاد لها طوعا أسريرا وطالما

أضاعت بوادي التيه صبا ومغـرمـا

وكم فوقت سهما وكم سفـكـت دمـا

وما جردت من مرهفـات وإنـمـا

تقول له كن مـغـرمـا فـيكـون

وقولها في صدر جواب:

سلام قد حوى منـظـوم در

سلوا عنه الرسالة حين عنت

ولو رامت تعبر عن ضمـير

وما لاقى بكم قلبي لغنـت

وقالت استغاثة:

أين الطريق لأبواب الفـتـوحـات

أين السبيل إلى نيل الـعـنـايات

أين الدليل الذي أرجو الرشـاد بـه

إلى سبيل المعالـي والـهـدايات

أين السلوك الذي أسرار لمـحـتـه

مصباح نور لمشكاة المـنـاجـاة

أين الخلوص الذي آثاره سـبـقـت

يوم الرحيل إلى دار السـعـادات

كيف الخلاص وأحداث الشقا وطني

وقد رمتني بها أيدي الشـقـاوات

كيف المسير إلى أرض المنى وأنـا

بطاعة النفس في قيد الضـلالات

كيف العدول بقصد السبل عن عوج

أمضي بسعي إلى دار الندامـات

كيف الرحـيل بـلا زاد وراحـلة

تحث سير لأرض الاستقـامـات

ولي حقـائب بـالأوزار مـثـقـلة

وعيس كدحي كلت عن مراداتـي

فيا أولي الحزم حلوا عقد مشكلتـي

وكيف أبلغ أقطار الـسـلامـات

عتبت نفس على ما ضاع من عمري

في ملهـيات وغـفـلات وزلات

فخالفت مقصدي جهلا وما اتعظـت

ولمحة العمر ولت في الخسارات

فلو بكت مقلتي للحشر ما غسـلـت

ذنوب يوم تقضي في الجـهـالات

ولو تبدد قلـبـي حـسـرة وأسـى

على الذي مر من تفريط أوقاتـي

لم يجد لي غير دق الكف مـن نـدم

على عظيم إساءاتي وغفـلاتـي

إن طال خوفي فقد أحيا الرجا أملي

في غافر الذنب خلاق السمـوات

فاز المخفون واستن التـقـاة إلـى

دار السلام وفردوس الكـرامـات

وكان شغلي خضوعي زلتي أسفـي

ووضع خدي على أرض المذلات

وطوع أمارتي بالـسـوء قـيدنـي

عن الوصول لغايات الكـمـالات

فلم يسعني بأثقال الـذنـوب سـوى

ساحات غفران علام الخـفـيات

وقولها:

مرارة الصبر خصت بـالـحـلاوات

وجدت في مرها حلوى السـلامـات

صيانتي في كهوف الصبر أنفـع لـي

من حصن كسرى ومن أعماق أغمات

كم بات دهري يريني نهج تـربـيتـي

فينئني بقـبـولـي وامـتـثـالاتـي

وما احتجابي عـن عـيب أتـيت بـه

وإنما الصون من شأنـي وغـاياتـي

وكلما شب دهري في مـعـانـدتـي

لم يلق منـي لـه إلا الإطـاعـات

وكلما آدنـي ظـلـمـا بـمـثـقـلة

عدلت سيري كما يرضى بمرضاتـي

كم قابلتنـي لـيال ريحـهـا سـعـر

بطيئة السير ترمي بـالـشـرارات

لاقيتها بجميل الصبـر مـن جـلـدي

وبت أسقي الثرى من غيث عبراتـي

كم أقعدتـنـي أيام بـصـدمـتـهـا

وقمت بالعزم مشهور الـعـنـايات

وكم حليفة سـعـد إذ تـعـنـفـنـي

تقول سعيك مـذمـوم الـنـهـايات

فأخفض الطرف من حـزن أكـابـده

وأهمل الدمع من تلك الـمـقـالات

وكم شكرت بأرض الظلم نـاصـيتـي

فقمت من سجدتي أتلـو تـحـياتـي

وما منحت بيوم قـد أتـى غـلـطـا

بالأنس إلا وقامـت فـيه غـاراتـي

ومذ أتت عذلى تبغـي مـصـادرتـي

ظلما منحتهم أسنـى الـكـرامـات

وكلما عـددوا ذنـبـا رمـيت لـبـه

بسطت للعفو راحات اعتـرافـاتـي

وكلما حرروا منشور مظـلـمـتـي

وأثبتوا في الورى ظلما جـنـاياتـي

أظهرت شكري لهم بالرغم عن أسفـي

وكان ما كان من فرط التهـابـاتـي

ولم أفه لـذوي ود لـمـعـرفـتـي

أن الحبيب حبيب في الـمـسـرات

أقوم والضـيم تـطـوينـي نـوائبـه

طي السجل ولم أسمـعـه أنـاتـي

أخفي الأسى إن حسود جاء يسألـنـي

لأين يسعى وأومى لابتـهـاجـاتـي

إن ضل سعي فهادي الصبر يرشدنـي

إلى طريق رشادي واستقـامـاتـي

ولم أزل أشتكي بنى ومظـلـمـتـي

لعالم الجهر مـنـي والـخـفـيات

علت ولاة الصفا أشهى نـجـائبـهـا

لتقضي الفوز من وادي الـمـودات

وبت باليأس في بطحاء مـتـربـتـي

وكان شغلي بضحى دق راحـاتـي

أقول للصبر لا عتـب عـلـى زمـن

أعطى لأبنائه أسمـى الـعـطـيات

فقال مهلا ولا تغررك شـوكـتـهـم

فالصحو يعقبه سود الـغـمـامـات

فليس كـل مـلـوم دام مـكـتـئبـا

وما السعيد سـعـيد لـلـمـلاقـاة

فدهرهم غرهم جهلا وما عـلـمـوا

أن الزمان قـريب الالـتـفـاتـات

فما توارت بغاة الغـم مـن أسـفـي

حتى أناخوا بأجـبـال الـنـكـايات

تذكر الدهر عـادات لـه سـلـفـت

وقد نسوها بحانـات الـخـلاعـات

ورد دهري سهام الـحـقـد صـائبة

إليهم فـغـدوا فـي شـر حـالات

فما استطابوا أمانيهـم ولا قـنـصـوا

حتى استوينا بكهف الاعتـكـافـات

قال الدهاة سهام الدهر قـد وقـعـت

من ذلك الجمع في كـشـح ولـيات

فقلت أنعم بـه مـن حـاذق فـطـن

وإنـه لـحـقـيق بـالـعــدالات

ظنوا الزمان أباح السعد طـالـعـهـم

وأنه اختص نجمي بالـنـحـوسـات

والصبر أشهدني ما كنت أغبـطـهـم

عليه عاد اعتبـارا فـي الـبـرات

فلا يهولنـك حـرمـان بـلـيت بـه

ولا يغـرك إقـبـال غـدا آتــي

كلاهما والذي أنـشـأك مـن عـلـق

يفنى ويعدم في بعض اللـمـيحـات

أين الملوك الألي كانـت أوامـرهـم

محدودة كـسـيوف مـشـرفـيات

تمحى وتثبت ما رامت وما رفـضـت

بين الأنـام بـأقـوال سـمـــيات

قد أحكم الدهر مر ما هم فما لبـثـوا

حتى انطووا في الثرى طي السجلات

فكم مضى عزمهم في عز سطـوتـم

فولا وفعلا بـتـسـديد الـرياسـات

وكم سرى في الورى منشور سلطتهـم

شرقا وغربا بأنـواع الـسـياسـات

يؤب بالـعـجـز أقـواهـم إذا ألـم

به ألـم ويبـدي شـر حـســرات

يلوذ ضعفا بـأذيال الـطـبـيب ومـا

يغني الطبيب لدى فتك الـمـنـيات

وكم لفقد عزيز مـنـهـم سـكـبـت

مدامع بالـنـعـمـا مـصـونـات

وطالما أحرقت حسـراتـهـم كـبـدا

تضعضعت منه أركان الشهـامـات

فلا تقل لـي مـتـاع وهـو عـارية

واليأس عندي راحات استراحـاتـي

وقد بسطـت أكـف الـذل ضـارعة

لخالق الخلق جـبـار الـسـمـوات

وبت أدعـو عـلـيم الـسـر قـائلة

يا غافر الذنب جد لي باستجابـاتـي

يا كاشف الضر عن أيوب مـرحـمة

حين استغاثك من مس المـضـرات

وصاحب الحوت قد أنجيتـه كـرمـا

لما دعا بابتهال في الـضـراعـات

أنقذته يا إله الـعـرش مـن ظـلـم

لظلمه النفس لاقـتـه بـاعـنـات

وابيضت العين من يعقوب وانسكـبـت

حزنا على يوسف في فيض عبـرات

ومذ شكا البث للـرحـمـن عـاد لـه

نور العيون قرينـا بـالـمـسـرات

ويوسف السيد الصـديق حـين دعـا

في ظلمة السجن من أسنى العنايات

ومذ علمت بإخلاص الخلـيل غـدا

والنار من حوله في روض جناتي

عادت سلاما وبردا بعدما اشتعـلـت

ولم يفه من يقين بـالـشـكـايات

وقد رفـعـت يمـين الـذل داعـية

إليك يا رب أرجو غفـر زلاتـي

ربي إلهي معبودي ومـلـتـجـئي

إليك أرفع بثـي وابـتـهـالاتـي

قد ضرني طعن حسادي وأنت تـرى

ظلمي وعلمك يغني عن سؤالاتـي

فامنن علي بألطاف لتـخـرجـنـي

من الضلال إلى سبل الـهـدايات

أنت الخبير بحالي والبـصـير بـه

فافتح لهذا الدعابـات الإجـابـات

فكيف أشكو لمخلوق وقـد لـجـأت

لك الخلائق فـي يسـر وشـدات

فيا لها من جراح كلما اتـسـعـت

أعيت طبيبي رغما عن مداواتـي

أنت الشهيد علـى قـول أفـوه بـه

ما دمت عائشة فالحمـد غـاياتـي

عائدة المدينة

أم ولد حبيبي بن الوليد المرواني. كانت جارية حالكة اللون تروي عن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة وغيره من علماء المدينة المنورة وهبها محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان الحبيب بن الوليد المرواني فقدم بها إلى الأندلس وقد أعجب بعلمها وفهمها وفرط ذكائها واتخذها لفراشه، وبقيت عنده معززة مكرمة إلى أن توفاها الله تعالى.

عاتكة بنت عبد المطلب الهاشمية

كانت من أوفر النساء القرشيات عقلا، وأحلاهن منطقا، وأحسنهن تصورا وتبصرا، ومما يروى عنها أنها قد رأت قبل قدوم ضمضم بثلاثة أيها رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وتخوفت أن يدخل على قومك شر أو مصيبة فاكتم علي ما أحدثك. قال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته أن: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، وأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بأعلى صوته: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت أسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها فلقة.

قال العباس: إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديقا، فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش.

قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل، هشام ورهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال لي: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت إليه حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد مناف متى حدثت فيكم هذه البينة؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التي رأتها عاتكة. قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم قد زعمت عاتكة في رؤياها أنها قالت: انفروا في ثلاث فنتربص بكم هذه الثلاث فإن يكن ما قالت حقا فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكبت كتابا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب.

قال العباس: فوالله ما كان إليه مني كبيرا إلا أن حجدت ذلك وأنكرت أن تكون رات شيئا قال: ثم تفرقنا، فلما أمسينا لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع برجالكم ويتناول النساء وأنت تسمع ولم يكن عندك غيرة بشيء مما سمعت. قلت: قد والله فعلت ما كان مني إليه من كبير، وأيم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفينكموه.

قال: فغدوت في اليوم الثالث من الرؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه قال: فدخلت المسجد فرأيته والله إني لأمشي نحوه العرضنة ليعود لبعض ما كان فأوقع به.

وكان رجلا خفيفا حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتد قال: قلت في نفسي: ما له لعنه الله أكل هذا فرقا أن أشاتمه، فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي: يا معشر قريش، اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان بن حرب قد عرض لها محمد في أصحابه ل أرى أن تدركوها الغوث الغوث قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر.

قال: فتجهز الناس سرعا وقالوا: لا يظن محمد وأصحابه أن يكون كعير ابن الحضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا وأرغب قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أبو لهب بن عبد المطلب تخلف فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكان ذلك في وقعة بدر وخبرها مشهور ومن شعرها قولها ترثي أباها مع إخوتها في حال حياته حين طلب منها ذلك.

أعينـي جـودا ولا تـبـخـلا

بدمعكما بعـد نـوم الـنـيام

أعيني واستعبروا واسـكـبـا

وشوبا بكاء كما بـالـمـدام

أعيني واستخركا واسـجـمـا

على رجل غير نكس كهـام

على الجحفل في الـنـائبـات

كريم المساعي وفي الذمـام

على شيبة الحمد وأرى الزنـاد

وذي مصدق بعد ثبت المقـام

وسيف لدى الحرب صمصامة

ومردي المخاصم عند الخصام

وسهل الخليقة طـلـق الـيدين

وف عد ملي صميم اللـهـام

تبـنـك فـي بـاذخ بـيتــه

رفيع الذؤابة صعب المـرام

وقولها في الحماسة:

سائل بنا فـي قـومـنـا

وليكف من شر سماعـه

قيسا وما جمـعـوا لـنـا

في مجمع باق شنـاعـه

فيه السـنـور والـقـنـا

والكبش ملتمع قنـاعـه

بعكاظ يعـشـى الـنـاظ

رين إذا هم لمحوا شعاعه

فيه قـتـلـنـا مـالـكـا

قصرا وأسلمه رعاعـه

ومـجـد لأعـادرنـــه

بالقاع تنهسـه ربـاعـه

ولها أشعار كثيرة غير هذه لم نقف عليها لعدم ورودها في كتب التاريخ.

عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل

كانت من الفصاحة على جانب عظيم، وقد أعطيت شطر الحسن فعشقها عبد الله بن أبي بكر الصديق وكلف بها حتى كاد أن يطير عقله، فلما تزوج بها أقام سنة لم يشتغل بسواها، فلما كان يوم الجمعة وهو معها إذ فاتته الصلاة وهو لا يدري وجاء أبوه فوجده عندها فقال له: أجمعت؟ فقال: وهل صلى الناس؟ فقال: قد ألهتك عن الصلاة طلقها فطلقها، واعتزلت ناحية فلما كان الليل قلق قلقا شديدا فأنشد:

أعاتك لا أنساك مـا ذر شـارق

وما ناح قمري الحمام المطوق

لها منطق جزل ورأى ومنصب

وخلق سوي في حياء ومصدق

فلم أر مثلي طلق اليوم مثلـهـا

ولا مثلها في غير شيء يطلق

وكان أبو بكر على سطح يصلي فسمعه فرق له فقال له: راجعها، ثم ضمها إليه وأعطاها حديقة على أن لا تتزوج بعده وأنشد:

أعاتك قد طلقت من غـير ريبة

وروجعت للأمر الذي هو كائن

كذلك أمـر الـلـه غـاد ورائح

على الناس فيه ألفة وتـبـاين

ومازال قلبي للتـفـرق طـائرا

وقلبي لما قد قدر الله سـاكـن

ليهنك أني لا أرى فيك سخـطة

وأنك قد تمت عليك المحاسـن

فإنك ممن زين الـلـه وجـهـه

وليس لوجه زائنه اللـه شـائن

فلما قتل بالطائف رثته فقالت:

رزئت بخير الناس بـعـد نـبـيهـم

وبعد أبي بكر وما كـان قـصـرا

ف لله عينا من رأى مثـلـه فـتـى

أكر وأحمى في الهياج وأصـبـرا

إذا شرعت فيه أوسـنة خـاضـهـا

إلى الموت حتى يترك الموت أحمرا

فآليت لا تنـفـك عـينـي سـخـينة

عليك ولا ينفك جـلـدي أغـبـرا

مدى الدهر ما غنـت حـمـامة أيكة

وما طرد الليل الصباح المـنـورا

وتزوجها عمر بعد أن استفتى عليا في ذلك فأفتى بنها ترد الحديقة إلى أهله وتتزوج ففعلت فذكرها علي بقولها: فآليت لا تنك البيت، ثم قال: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف: 3) ثم تزوجها بعده الزبير وبعده الحسين بن علي – عليه السلام – حتى قال عمر: من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة، وخطبها علي فقالت: إن لأضن بك عن القتل، وخطبها مروان بعد الحسين فقالت: ما كنت متخذة حما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت عاتكة ترثي عمر بن الخطاب:

عين جودي بعبرة ونحـيب

لا تملي على الإمام النحيب

فجعتني المنون بالفارس المـع

لم يوم الهياج والـتـلـبـيب

عصمة الناس والمعني على الده

ر غياث المنتاب والحـروب

قل لأهل الضراء والبؤس موتوا

قد سقته المنون كأس شعوب

ولها فيه أيضا:

وفجعـتـنـي فـيروز لا در دره

بأبيض تال للكـتـاب نـجـيب

رؤئف على الداني غليظ على العدا

أخي ثقة في النائبـات مـنـيب

متى ما يقل لا يكذب القول فعلـه

يريع إلى الخيرات غير قطـوب

وقالت ترثيه أيضا:

من لنفس عادها أحزانـهـا

ولعين شفها طول السهـد

جسد لفف فـي أكـفـانـه

رحمة الله على ذاك الجسد

فيه تفجيع لمولـى غـارم

لم يدعه الله يمشي بسبـد

فيه تفجيع لمولـى غـارم

لم يدعه الله يمشي بسبـد

وقالت ترثي الزبير، وتخاطب عمرو بن جرموز الذي قتله غدرا عند رجوعه من حرب الجمل:

غدر ابن جرموز بفارس بهـمة

يوم اللقاء وكان غير مـعـرد

يا عمرو لو نبهتـه لـوجـدتـه

لا طائشا رعش الجنان ولا اليد

شلت يمينك إن قتلت مسـلـمـا

حلت عليك عقوبة المتـعـمـد

عن الزبير لـذو بـلاء صـادق

سمح سجيته كريم المـشـهـد

كم غمرة قد خاضها لـم يثـنـه

عنها طرادك يا ابن فقع القردد

فاذهب فما ظفرت يداك بمثـلـه

فيمن مضى ممن يروح ويغتدي

وقالت ترثي الحسين عليه السلام:

وحسينا ولا نسـيت حـسـينـا

أقصـدتـه أسـنة الـعـداء

غادروه بكـربـلاء صـريعـا

جادت المزن في ذرى كربلاء

عاتكة ابنة معاوية بن أبي سفيان الأموي

كانت في الحسن أعجوبة زمانها، وفي الأدب نادرة أقرانها، تعلمت الغناء وضروبه ولها في بعض ألحان وكان يختلف إليها بعض مغنيات مكة والمدينة فتحسن صلتهن وتجيزهن وتطلب منهن أن لا يقطعن عنها.

وفي بعض السنين لم يأتها أحد من مكة والمدينة فاستأذنت من أبيها أن يسمح لها بالحج، فسمح لها، فتجهزت بجهاز عظيم لم ير مثله، وسارت على البر تحملها وركبها المطايا، فلما وصلت لمكة نزلت بذي طوى، فمر بها وهب الجمحي – المعروف بأبي دهبل – وكان شاعرا جليلا، غيسانيا جميلا. فجعل النظر وجمرات الوجد تتأجج بفؤاده قاذفة بالشرر، وكان الوقت هجيرا والجواري رافعات عنها الأستار، ففطنت له، فذعرته وشتمته كثيرا، ثم أمرت بالسجوف فحجب بظلامها شمس النهار فقال:

إني دعاني الحين فاقتادنـي

حتى رأيت الظبي بالبـاب

يا حسنة إذ سبنـي مـدبـرا

مستترا عني بجـلـبـاب

سبحان من أوقفها حـسـرة

صبت على القلب بأوصاب

يذود عنها أن تطـلـبـهـا

أب لها لـيس بـوهـاب

أحلها قصرا منـيع الـذرى

يحمى بأبواب وحـجـاب

فشاعت أبياته في مكة واشتهرت وغنى بها حتى سمعتها عاتكة إنشادا وغناء فطربت لها وسرت وبعثت إليه تهديه فتراسلا وتحابا، ولما صدرت عن مكة خرج في ركبها إلى الشام، فكانت تتعاهده باللطف والإحسان حتى إذا وردت دمشق ورد معها فانقطعت عن لقائه فمرض حتى عز شفاء دائه فقال:

طال ليلي وبت كالـمـجـنـون

ومللت الثـواء فـي جـيرون

وأطلت المقام بالـشـام حـتـى

ظن أهلي مرجحات الظنـون

فبكت خشية التـفـرق جـمـل

كبكاء القرين إثـر الـقـرين

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغواص

ميزت من جوهر مـكـنـون

وإذا ما نسبتهـا لـم تـجـدهـا

في سناء من الـمـكـارم دون

ثم خاصرتها إلى القبة الـخـض

راء تمشي في مرمر مسنـون

قبة من مراجـل ضـربـوهـا

عند برد الشتاء في قـيطـون

عن يساري إذا دخلت من الـبـا

ب وإن كنت خارجا عن يميني

ولقد قلت إن تطاول سـقـمـي

وتقلبت ليلتـي فـي فـنـون

ليت شعري أمن هوى طار نومي

أم براني الباري قصير الجفون

ففشا هذا الشعر حتى بلغ معاوية فصبر حتى إذا كان يوم الجمعة دخل عليه الناس يسلمون وينصرفون، وكان فيهم وهب، فلما أزمع الرجوع ناداه معاوية حتى إذا خلا لهما الجو قال: ما كنت أحسب أن في قريش أشعر منك تقول:

ليت شعري أمن هوى طار نومي

أم براني الباري قصير الجفون

غير أنك قلت:

وإنا ما نسبتها لم تجـدهـا

في سناء من المكارم دون

والله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت وأي شيء زدت في قدرها ولقد أسأت بقولك، ثم خاصرتها فقال: والله لم أقل هذا، وإنما قيل عن لساني فقال معاوية: أما مني فليهدأ روعك لني عليم بعفاف فتاتي، وإنه مغتفر لفتيان الشعراء التشبيب بمن أرادوا، ولكني أكره لك جوار أخيها يزيد فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك، فحذر وهب ورحل إلى مكة، فبينما معاوية في مجلسه يوما ذا بخصي يقول له: لقد سقط يا أمير المؤمنين إلى عاتكة اليوم كتاب أبكتها تلاوته بما أصارها حتى الساعة حزينة فقال: علي به، يألطف حيلة، فلما أوتيه قرأ فيه:

أعاتك هلا إذ بخـلـت فـلا تـرى

لذي صبوة زلفى لديك ولا يرقـى

رددت فؤادا قد تولى بـه الـهـوى

وسكنت عينا لا تمـل ولا تـرفـا

ولكن خلعت القلب بالوعد والمـنـى

ولم أر يوما منك جودا ولا صدقـا

أتنسين أيامي بـربـعـك مـدنـفـا

صريعا بأرض الشأم ذا سقم ملقى

وليس صديق يرتـضـي لـوصـية

وأدعو لدائي باشراب فما أسـقـى

وأكبر همي أن أرى لك مـرسـلا

فطول نهاري جالسا أرقب الطرقا

فوا كبدي إذ ليس لي منك مجـلـس

فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى

رأيتك تزدادين للـصـب غـلـظة

ويزداد قلبي كل يوم لكم عشـقـا

فبعث إلى يزيد فلما جاء وجده مطرقا كئيبا فاستجلاه الأمر فقال: هو نبأ يقلق فيمرض فيحير إن هذا الفاسق القرشي كتب إلى أختك بهذه الأبيات، فلم تزل باكية حتى الساعة. قال يزيد الخطب دون ما تتوهم بعد لنا يرصده ويقتله فقال معاوية: يا يزيد، والله إن تقتل قرشيا هذا حاله صدق الناس مقاله. قال: يا أمير المؤمنين، إنه نظم أبياتا غير هذه وتناشدها المكيون، فسارت حتى بلغتني فأوجعتني وحملتني على ما أشرت. فقال: وما هي؟ فأنشد:

ألا لا تقل مهلا فقد ذهب المهـل

وما كان من يلحى محبا له عقل

حمى الملك الجبار عني لقـاءهـا

فمن دونها تخشى المتألف والقتل

فلا خير في حب يخاف وبـالـه

ولا في حبيب لا يكون له وصل

فوا كبدي إني اشتهرت بحـبـهـا

ولم يك فيما بيننـا سـاعة بـذل

ويا عجبا أني أكـاتـم حـبـهـا

وقد شاع حتى قطعت دون السبل

فقال معاوية: قد والله فهمت المعنى لأني أراه يشكو الحرمان فالخطب فيه يسير، ثم حج عامئذ للسبب عينه ولما انقضت المناسك دعا بإشراف قريش وشعرائهم وأجزل لهم الصلاة.

فلما أزمع وهب الانصراف قال: إيه يا وهب ما لي أرى يزيد ساخطا عليك في قواريض تأتيه عنك وشعر تنطق به فبدأ أبو دهبل يطيل الاعتذار ويحلف أنه مكذوب عليه فقال معاوية: لا بأس عليك وما يضرك ذلك فأي بنات عمك أحب إليك، قال: فلانة، فقال: قد زوجتك بها وأمهرتها بألفي دينار ووهبتك ألف دينار.

فلما استوفاها قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عما مضى فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق فقد أبحت به دمي وأما ابنة عمي فهي طالق بتاتا فسر معاوية ووعده بإدرار الصلة كل عام وهو لم يقل فيها شعرا ووفى بوعده وبقيت عاتكة مغرمة به إلى أن ماتت.

عاتكة بنت يزيد بن معاوية

وأمها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز، تزوجها عبد الملك بن مروان فهي أم يزيد بن عبد الملك بن مروان وكان يحبها بعبد الملك حبا مفرطا فغضبت عليه مرة وكان بينهما باب محجبة، فأغلقت ذلك الباب فشق غضبها على عبد الملك، وشكا إلى رجل من خاصته يقال له: عمر بن بلال الأسدي فقال: ما لي عندك إن رضيت؟ قال: حكمك فأتى عمر إلى بابها وجعل يتباكى وأرسل إليها السلام، فخرجت إليه حاضنتها ومواليها فقلن: ما لك؟ قال: نزعت إلى عاتكة ورجوتها وقد علمت مكاني من أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده قلن: وما لك؟ قال: ابناي لم يكن لي غيرهما قتل أحدهما صاحبه.

فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به. فقلت: أنا الولي وقد عفوت قال: لا أعود الناس على هذه العادة، فرجوت أن ينجي الله ابني هذا على يدها، فدخلن عليها فذكرن ذلك لها فقالت: وكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له قلن: إذا والله يقتل فلم يزلن بها حتى دعت بثيابها فلبستها، ثم خرجت نحو الباب، فأقبل حديج الخصي قال: يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت. قال: ويلك، ما تقول قال:قد والله طلعت فأقبلت وسلمت، فلم يرد عليها السلام فقالت: أما والله لولا عمر ما جئت إن أحد بينه تعدى على الآخر فتله فأردت قتل الآخر وهو الولي وقد عفا قال: إن أكره أن أعود الناس على هذه العادة قالت: أنشدك الله يا أميرا لمؤمنين فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية وقد طرق بابي فلم تزل به حتى أخذت برجله فقبلتها فقال: هو لك ولم يبرحا حتى اصطلحا، ثم راح عمر بن بلال إلى بعد الملك فقال: كيف رأيت قال: رأينا أثرك، فهات حاجتك. قال: مزرعة بعدتها وما فيها، وألف دينا، وفرائض لولدي وأهلي. قال: ذلك لك، ثم اندفع عبد الملك يتمثل بشعر كثير (وإني لأرعى قومها من جلالها).

ولعاتكة هذه حكاية مع الشعراء وذلك ما حكاه نصيب قال: إنه خرج هو وكثير والأحوص غب يوم أمطرت فيه السماء فقال: هل لكم في أن نركب جميعا فنسير حتى نأتي العقيق؟ قالوا: نعم، فركبوا أفضل ما عندهم من الدواب ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب، وتنكروا ثم ساروا حتى أتوا العقيق، فجعلوا يتصفحون الأماكن حتى رفع لهم سواد عظيم، فأموه حتى أتوه فإذا وصائف وخدم ونساء بارزات فسألنهم أن ينزلوا فنزلوا ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم فلم تلبث أن جاءت المرأة فقالت: ادخلوا فدخلوا على امرأة جميلة برزة على فرش لها فرحبت وحيت وإذا كراسي موضوعة فجلسوا جميعا في صف واحد كل إنسان على كرسي.

فقالت: إن أحببتم أن تدعو بصبي لنا فنعرك أذنه ونصيحة فعلنا وإن شئتم بالغداء فقالوا: بل تدعين بالصبي ولن يفوتنا الغداء فأومأت بيدها إلى بعض الخدم فلم يكن إلا كلمح البصر حتى جاءت جارية جميلة عليها مطرف قد سترت نفسها به فكشفوه عنها وإذا جارية ذات جمال قريبة من جمال مولاتها فرحبت بهم وحيتهم فقالت لها مولاتها: خذي ويحك من قول نصيب عافى الله نصيبا.

ألا هل من البين المفرق من بد

وهل مثل أيام بمنقطع السعـد

تمنيت أيامي أولئك والـمـنـى

على عهد عاد ما تعيد ولا تبدي

فغنته، فجاءت به كأحسن ما سمع بأحلى لفظ وأشجى صوت، ثم قالت لها: خذي أيضا من قول نصيب عافاه الله:

أرق المحب وعاده سهـده

لطوارق الهم التي ترده

وذكرت من رقت له كبدي

وأبى فليس ترق لي كبده

لا قومه قومي ولا بلـدي

فنكون حينا جيرة بلـده

ووجدت وجدا لم يكن أحد

من اجله بصبابة يجـده

إلا ابن عجلان الذي تبلت

هند ففات بنفسه كمـده

قال: فجاءت به أحسن من الأول فكدت أطير سرورا، ثم قالت: ويحك خذي أيضا قوله:

فيا لك من ليل تمتعـت طـولـه

وهل طائف من نائم متـمـتـع

نعم إن ذا شجو متى يلق شـجـوه

ولو نائما مستعـتـب أو مـودع

له حاجة قد طالما قـد أسـرهـا

من الناس في صدر بها يتصـدع

تحملها طول الزمان لـعـلـهـا

يكون لها يوما من الدهر منـزع

وقد قرعت في أم عمرو لي العصا

قديما كما كانت لذي الحلم تقـرع

قال نصيب: فجاءني والله شيء حيرني وأذهلني طربا لحسن الغناء وسرورا باختيارها لشعري وما سمعت فيه من حسن الصنعة وجودتها وإحكامها، ثم قالت: خذي من قوله أيضا:

يا أيها الركب إني غير تابعـكـم

حتى تلموا وأنتم بي ملمـونـا

فما أرى مثلكم ركبا كشكلـكـم

يدعوهم ذو هوى أن لا يعوجونا

أم خبروني عن داء بعلـمـكـم

وأعمل الناس بالداء الأطبونـا

قال نصيب: فوالله لقد زهوت بما سمعت زهوا خيل لي أني من قريش، وأن الخلافة لي ثم قالت: حسبك يا بنية هات الطعام يا غلام فوثب الأحوص وكثير وقالا: والله لا نطعم لك طعاما ولا نجلس لك في مجلس فقد أسأت عشرتنا واستخففت بنا وقدمت شعر هذا على شعرنا، وأسمعت الغناء فيه وإن في أشعارنا لم يفضل شعره وفيها من الغناء ما هو أحسن من هذا فقالت علة معرفة كل ما كان مني فأي شعر كما أفضل من شعره أقولك يا أحوص؟

يقر بعيني ما يقر بـعـينـهـا

وأحسن شيء ما به العين قرت

أو قولك يا كثير في عزة:

وما حسبـت ضـمـرية جـدورية

سوى التيس ذي القرنين أن لها بعلا

أو قولك فيها:

إذا ضمرية عطست فنكهـا

فإن عطاسها طرف السفاد

فخرجا مغضبين، وبقي نصيب فتغدى عندها وأمرت له بثلثمائة دينار وحلتين وطيب، ثم دفعت له مائتي دينار وقالت: ادفعها إلى صاحبيك فإن قبلاها وإلا فهي لك، قال نصيب: فذهبت بالبدرة حتى أتيت رفيقي، فعرضت عليهما نصيبهما فأبيا أن يأخذاه، فأخذته لنفسي وبلغها الخبر فقالت: حسنا والله فعلت، وبقي كثير والأحوص يترقبان لها الفرص حتى يهجواها بشيء فلم يقدرا عليها خوفا من بأسها وسطوتها ومداراة لها، وأما هي فبقيت مكرمة عند عبد الملك، وفي خلافة ولدها أيضا حتى ماتت في آخر خلافة ولدها ودفنت بما يليق بها من الرفعة والإكرام.

عاصية البولانية بنت عبد العزى الطائي

كانت شاعرة مجيدة وشعرها قليل، قيل: إن بني محارب غزت طيئاً وفتكت فيهم لغياب سراتهم ورجعت غانمة فقالت عاصية تندب قومها وتهجو محاربا بقولها:

أعاصي جودي بالدموع السواكب

وبكى لك الويلات قتلى محارب

فلو أن قومي قتلتهـم عـمـارة

كرام سراة من رؤوس الذوائب

صبرنا لما يأتي به الدهر عامـدا

ولكنما آثارنا فـي مـحـارب

قبيل لئام إن ظهرنـا عـلـيهـم

وإن يغلبونا يوجدوا شر غالـب

عبدة محبوبة بشار بن برد

كانت ذات عقل وأدب، وفصاحة وكياسة، وصوت حسن، ومنطق عذب وكان سبب عشق بشار لها أنه كان له مجلس يجلس فيه يقال له: البردان، فبينما هو في مجلسه ذات يوم وكان النساء يحضرنه إذ سمع كلام امرأة أشجاه نغمها وحسن ألفاظها فدعا بغلامه فقال: إني قد علقت امرأة فإذا تكلمت فانظر من هي واعرفها فإذا انقضى المجلس وانصرف أهله فاتبعها وأعلمها أني لها محب وأنشدها هذه الأبيات. وعرفها أني قلتها فيها.

قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم

الأذن كالعين توفى القلب ما كانا

ما كنت أول مشغوف بـجـارية

يلقى بلقيانها روحا وريحـانـا

يا قوم أذني لبعض الحي عاشـقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانـا

فأبلغها الغلام الأبيات فهشت لها وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها فيأكلن عنده ويشربن وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها ولا تطعمه في نفسها ومما قال فيها:

قالت عقيل بن كعب إذ تعلـقـهـا

قلبي فأضحى به من حبهـا أثـر

أني ولم ترها تهذي فقلـت لـهـم

إن الفؤاد يرى ما لم ير البصـر

أصبحت كالحائم الحران مجتنـبـا

لم يقض وردا ولا يرجى له صدر

وقال فيها أيضا وهو أجود ما قال فيها:

يزهدني في حب عبدة مـعـشـر

قلوبهم فيها مخـالـفة قـلـبـي

فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى

فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحـب

فما تبصر العينان في موضع الهوى

ولا تسمع الأذنان إلا من القـلـب

وما الحسن إلا كل حسن دعا الصبـا

وألف بين العشق والعاشق الصب

وجاءته يوما مع خمسة نسوة قد مات لإحداهن قريب يسألنه أن يقول شعرا ينحن عليه به فوافينه في مجلسه المسمى بالبردان وكان له مجلس يجلس فيه بالغداة يسميه البردان، وآخر يجلس فيه عشية يسميه الرقيق فاستأذن بالدخول عليه فأذن لهن، فلما دخلن نظرن إلى النبيذ مصفى في قنانيه.

فقالت إحداهن: هو خمر وقالت الأخرى: هو زبيب وعسل. وقالت الثالثة: هو نقيع زبيب. فقال: لست بقائل لكن حرفا أو تطعمن من طعامي وتشربن من شرابي فأمسكن ساعة، ثم قالت إحداهن: ما عليكن من ذلك فأقمن يومهن وأكلن من طعامه وشربن من شرابه وأخذن من شعره، وبلغ ذلك الحسن البصري فعابه فبلغ بشاراً كلامه، وكان بشار يلقب الحسن البصري بالقس فقال:

لما طلعن مـن الـرقـي

ق علي بالبردان خمسـا

وكـأنـهــن أهـــلة

تحت الثياب رفقن شمسا

باكـرن طـيب لـطـيمة

وغمسن في الجادي غمسا

فسألنني من فـي الـبـيو

ت فقلت ما يحوين انسـا

ليت العـيون الـنـاظـرا

ت طمس عنا اليوم طمسا

فأصبن من طرف الحـدي

ث لذاذة وخرجن ملسـا

لولا تـعـرضـهـن لـي

يا قس كنت كأنت قـسـا

ماذا تعرف عن الملك فاروق و مصر فى عهد الملك فاروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *