كتاب الدر المنثور فى طبقات ربات الخدور قصص اشهر نساء العالم على مدى التاريخ حرف النون

حرف النون
نائلة بنت الفرافصة بن الأخوض
ابن عمرو. وقيل: ابن عفر بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن علي بن جناب الكلبية زوجة عثمان بن عفان, وكان سبب زواجه بها أن سعيد بن العاص تزوج هند بنت الفرافصة, فبلغ ذلك عثمان, فكتب إليه: “أما بعد, فإنه قد بلغني أنك تزوجت امرأة من كلب فاكتب إلي بنسبها وجمالها”.
فكتب إليه: “أما بعد, فإن نسبها أنها بنت الفرافصة بن الأخوص, وجمالها أنها بيضاء مديدة.
فكتب: “إن كانت لها أخت فزوجنيها” فبعث سعيد إلى الفرافصة يخطب ابنته على عثمان, فأمر ابنه ضبا أن يزوجها إياه, وكان ضب مسلما, وكان الفرافصة نصرانيا, فلما أرادوا حملها إليه قال لها أبوها: يا بنية, إنك تقدمين على نساء قريش هن أقدر على الطيب منك فاحفظي عني خصلتين فتكحلي وتطيبي بالماء حتى يكون ريحك شن ريح أصابه مطر, فلما حملت كرهت الغربة وحزنت لفراق أهلها فأنشدت تقول:
ألست يا ضـب بـالـلـه إنـنـي مصاحبة نحو المـدينة أركـبـا
إذا قطعوا حزنا تحث ركـابـهـم كما زعزعت ريح يراعا مثقبـا
لقد كان في أبناء حصن بن ضمضم لك الويل ما يغني الخباء المطنيا
فلما قدمت على عثمان قعد على سريره ووضع لها سريرا حياله فجلست عليه فوضع عثمان قلنسوته فبدا الصلع فقال: يا ابنة الفرافصة, لا يهولنك ما ترين من صلعي فإن وراءه ما تحبين, فسكتت, فقال: إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك. فقالت: أما ما ذكرت من الصلع فإني من نساء أحب بعولتهن إليهن السادة الصلع. وإما قولك: إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك فو الله ما تجشمته من جنبات السماوة أبعد مما بيني وبينك بل أقوم إليك. فقامت فجلست إلى جانبه فمسح رأسها ودعا لها بالبركة, ثم قال لها: اطرحي عنك رداءك. فطرحته, ثم قال لها: اطرحي خمارك. فطرحته, ثم قال لها: انزعي درعك. فنزعته, ثم قال لها: حلي إزارك. فقالت: ذاك إليك. فحل إزارها فكانت من أحظى نسائه عنده.
وروى عن أبي الجراح مولى أم حبيبة أنه قال: كنت مع عثمان في الدار فما شعرت إلا وقد خرج محمد بن أبي بكر ونائلة تقول: هم في الصلح. وإذا بالناس قد دخلوا من الخوخة ونزلوا برأس الحبال من سور الدار ومعهم السيوف فرميت بنفسي وجلست عليه, وسمعت صياحهم, فنشرت نائلة بنت الفرافصة شعرها فقال لها عثمان: خذي خمارك. فلعمري لدخولهم علي أعظم من حرمة شعرك, وأهوى رجل إليه بالسيف فاتقته بيدها فقطع إصبعين من أصابعها, ثم قتلوه وخرجوا يكبرون, ولما قتل عثمان قالت نائلة:
ألا إن خير النـاس بـعـد ثـلاثة قتيل الذي جـاء مـن مـصـر
ومالي لا أبكي وتبكي قرابـتـي وقد غيبت عنا فضول أبي عمرو
وكتبت نائلة إلى معاوية بن أبي سفيان وبعثت بقميص عثمان مع النعمان بن بشير وهذه صورة ما كتبت من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد, فإني أذكركم بالله الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة, وأنقذكم منم الكفر, ونصركم على عدوكم, وأسبغ عليكم نعمه, أنشدكم بالله وأذكركم حقه وحق خليفته الذي لم تنصروه وبعزمة الله عليكم فإنه قال: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) (الحجرات: 9), وأن أمير المؤمنين بغى عليه ولو لم يكن له عليكم حق إلا حق الولاية ثم أتى لحق على كل مسلم يرجو أيام الله أن ينصره لقدمه في الإسلام وحسن بلائه, وأنه أجاب داعي الله وصدق رسوله والله أعلم, إنه إذا انتخبه فأعطاه شرف الدنيا والآخرة وإني أقص عليكم خبره لأني كنت شاهدة أمره كله حتى قضى الله عليه.
إن أهل المدينة حصروه في داره يحرسونه ليلهم ونهارهم قياما على أبوابه بسلاحهم يمنعونه كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء, يحضرون فيقولون له: الإفك, فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر, وكان علي مع الحضريين ممن أهل المدينة ولم يقاتل مع أمير المؤمنين ولم ينصره ولم يأمر بالعدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به فظلت تقاتل خزاعة وسعد بن بكر, وهذيل, وطوائف من مزينة وجهينة وأنباط يثرب, ولا أرى سائرهم ولكني سميت لكم الذين كانوا أشد الناس عليه في أول أمره وآخره.
ثم إنه رمي بالنبل والحجارة فنهاهم علي وأمرهم أن يردوا عليهم نبلهم فردوها إليهم فلم يزدهم ذلك على القتال إلا جراءة, وفي الأمر إلا غراء, ثم أحرقوا باب الدار فجاءهم ثلاثة نفر من أصحابه فقالوا: إن في المسجد أناسا يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل فاخرج إلى المسجد حتى يأتوك.
فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مظلة عليه من كل ناحية, وما أرى أحدا يعادل فدخل الدار وقد كان نفر من قريش على عامتهم السلاح, فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست درعاً فوثب عليه القوم فكلمهم الزبير وأخذ عليهم ميثاقاً في صحيفة, وبعث بها إلى عثمان: إن عليكم عهد الله وميثاقة أن لا تضروه بشيء فكلموا وتحرجوا فوضع السلاح فلم يكن إلا وضعه حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبي بكر حتى أخذوا بلحيته وذبحوه ودعوه باللقب فقال: أنا عبد الله خليفته فضربوه على رأسه ثلاث ضربات وطعنوه في صدره ثلاث طعنات وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم فسقطت عليه وقد أثخنوه وبه حياة وهم يريدون قطع رأسه ليذهبوا بها فأتتني بنت شيبة بن ربيعة, فألقت نفسها معي عليه فتواطؤنا وطأ شديدا, وعرينا من ثيابنا, وحرمة أمير المؤمنين أعظم, فقتلوه -رحمة الله عليه- في بيته وعلى فراشه, وقد أرسلت غليكم بثوبه وعليه دمه, وإنه والله لئن كان سلم من قتله لم يسلم من خذله فانظروا أين أنتم من الله -عز وجل- فإنا نشتكي ما مسنا إليه ونستنصر وليه وصالح عباده ورحمة الله على عثمان, ولعن من قتله وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة, وشفي منهم الصدور, فحلف رجال من أهل الشام أن لا يطؤا النساء حتى يقتلوا قتلته أو تذهب أرواحهم فكانت هذه الرسالة بسببها واقعة صفين.
ناجية بنت ضمضم المري
هي أخت هرم بن ضمضم كانت من شاعرات العرب الذين يحضرون الوقائع ويحرضون على القتال ولها أشعار قالتها في أختها هرم -المذكور- حين قتله ورد بن حابس العبسي في حرب داحس:
يا لهف قلبي لهفة المفـجـوع أن لا أرى هرما على مودوع
من أجل سيدنا ومصرع جنبـه علق الفؤاد بحنظل مجـدوع
وقالت فيه أيضا:
دعته المنايا دعوة فـأجـابـهـا وجاور لحدا خارجا في الغماغم
عيشة راحوا يحملـون سـريره تعاوره أصحابه في التـزاحـم
فإن يك غالته المنايا وربـبـهـا فقد كان معطاء كثير التراحـم
ولها أيضا:
الواهب الـمـائة الـتـلا دلنا ويكفينا الـعـظـيمة
والدافع الخـصـم الألـد إذا تفوضح في الخصومة
بلسان لقـمـان بـن عـا د وفصل خطبته الحكيمة
ألجمتهم بـعـد الـتـجـا ذب والتدافع في الحكومة
نزهون الغرناطية
جوهرة لم يسمح الدهر, وفريدة فاقت على نساء العصر, فما الآداب إلا نقطة من بحرها الرائق, وما الجمال إلا من نور وجهها الشارق. لها ناد لم يؤمه إلا الأفاضل, ومجلس لم يجتمع فيه إلا كل عاقل, وكانت لطيفة المسامرة, حسنة المحاضرة, حافظة لأشعار العرب وأمثالها, ولم يكن بغرناطة إذ ذاك أحد من أمثالها, وهي من أهل المائة الخامسة ذكرها الحجازي في “المسهب” ووصفها بخفة الروح والانطباع الزائد والحلاوة وحفظ الشعر والمعرفة بضرب الأمثال, مع جمال فائق وحسن رائق, وكان الوزير أبو بكر بن سعيد أولع الناس بمحاضرتها ومذاكرتها ومراسلتها فكتب لها مرة:
يا من لـه ألـف خـل من عاشق وصـديق
أراك خلـيت لـلـنـا س منزلا في الطريق
فأجابته:
حللت أبا بكر مـحـلا مـنـعـتـه سواك وهل غير الحبيب له صدري
وإن كان لي كم من حبيب فـإنـمـا يقدم أهل الحق حب أبـي بـكـر
ولما قال فيها المخزومي:
على وجه نزهون من الحسن مسحة وتحت الثياب العار لو كان بـاديا
قواصد نزهون تـوارك غـيرهـا ومن قصد البحر استقل السواقـيا
قالت:
إن كان ما قلت حقـا من بعد عهد كـريم
وصرت أقبح شـيء في صورة المخزوم
فصار ذكري ذميمـا يعزى على كل لوم
وقال لها بعض الثقلاء ما على من أكل معك خمسمائة سوط فقالت:
وذي شـقـوة لـمـا رآنـي لــه تمنيه أن يصلي معي جاحم الضرب
فقلت له كلـهـا هـنـيئا فـإنـمـا خلقت إلى لبس المطارف والشرب
وقد اجتمعت مرة مع ابن قزمان في دار الوزير أبي بكر فقالت له عقب ارتجال بديع -وكان يلبس جبة صفراء-: أحسنت يا بقرة بني إسرائيل إلا أنك لا تسر الناظرين. فقال لها: إن لم أسر الناظرين فأنا أسر السامعين, وإنما يطلب سرور الناظرين منك يا فاعلة يا صانعة. وتمكن السكر من ابن قزمان وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة, فما خرج إلا وهو قد شرب كثيرا من الماء ثيابه تهطل.
فقال: اسمع يا وزير, وقال له أبياتاً, أضربنا عنها لعدم اللزوم وخروجها عن حد الآداب, فأمر له بما يليق من الثياب وأجزل له الصلة وكانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى, فدخل عليها أبو بكر الكندي فقال يخاطب المخزومي: لو كنت تبصر من تجالسه فأفحم وأطال الفكر فما وجد شيئا فقالت نزهون: لغدوت أخرس من جلالته البدر يطلع من أزرته والغصن يمرح في غلالته ومن شعرها:
لله در الليالي ما أحـيسـنـهـا وما أحيسن منها لـيلة الأحـد
لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد
نعمى جارية ظريف بن نعيم
كانت أدبية ظريفة ذات جمال زاهر, ولطف باهر. وكان سيدها شغف بها شديدا, فلما كان يوم وهو جالس في داره إذا بشرطة الحجاج دخلت عليه فأخذوه حتى أدخلوه عليه فقال: علي بالجارية. فقال أصلح الله الأمير إنها روحي فلا تكن سبب هلاكي, فأمر بالقبض عليه وأرسل من جاء بالجارية, فلما رآها علم أنها لا تبقى له إن عرف الخليفة بأمرها فوجه بها إلى الشام من ليلتها إلى عبد الملك وحبس الشاب, فلما زال عقله أطلقه وأخذ ماله وتوجه الشاب إلى دمشق فأقام بها مدة متنغص الحياة, فأراد أن يحتال على الاجتماع بالجارية فلم يمكن فوقع في رقعة أن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته نعمى أن تغني لي ثلاثة أصوات اقترحتها, ثم يفعل ما يشاء أن يفعل, فلما قرأ القصة اشتد غضبه, ثم عاوده الحلم, فلما انصرف أحضر الشاب والجارية وقال: مرها بما شئت. فقال لها: غني قول قيس بن ذريح:
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ولكنما الدنـيا مـتـاع غـرور
سأبكي على نفسي بعـين غـزيرة بكاء حزين في الوثـاق أسـير
وكنا جميعا قبل أن يظهر النـوى بأنعم حالي غـبـطة وسـرور
فما برح الواشون حتى بدت لـنـا بطون الهوى مقلوبة بظـهـور
فغنت فمزق أثوابه, ثم قال لها غني قول جميل:
فيا ليت شعري هل أبـيتـن لـيلة كليلتنا حتى نرى ساطع الفجـر
تجود علينـا بـالـحـديث وتـارة تجود علينا بالرضاب من الثغـر
فليت إلهي قد قضـى ذاك مـرة ويعلم ربي عند ذلك ما شكـري
ولو سألت مني حياتي بـذلـتـهـا وجدت بها أن كان ذلك من أمري
فغنت فغشي عليه ثم أفاق فقال: غني قول المجنون:
عرضت على نفسي العزاء فقيل لـي من الآن فايأس لا أعزك من صبـر
إذا بان من تهـوى وأصـبـح نـائيا فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
فلما غنت قام فألقى نفسه من شاهق فمات. فقال عبد الملك: لقد عجل على نفسه, أيظن أني أخرجت جارية وأعود فيها خذها يا غلام فأعطها لورثته. أو فتصدقوا بها عليه, فلما نزلوا بها نظرت إلى حفيرة معدة للسيل فجذبت يدها من الغلام وهي تقول:
من مات عشقا فليمت هكذا لا خير في عشق بلا موت
وأقلت نفسها في الحفيرة فماتت.
السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي الطالب
قال المقريزي: إن أمها أم ولد تزوجها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر فولدت له ولدين: القاسم وأم كلثوم ولم يعقبا وبعده تزوجت بالحسن بن زيد فولدت له نفيسة, وكانت نفيسة من الصلاح والزهد على الحد الذي لا مزيد عليه فيقال: إنها حجت ثلاثين حجة وكانت كثيرة البكاء تديم قيام الليل وصيام النهار فقيل لها: ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون, وكانت تحفظ القرآن وتفسيره, وكانت لا تأكل إلا في كل ثلاث ليال أكلة واحدة وذكر أن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- زارها من وراء الحجاب وقال لها: ادعي لي وكان (ب) صحبته عبد الله بن عبد الحكم وماتت -رضي الله عنها- بعد موت الإمام الشافعي بأربع سنين. وقيل: إنها كانت فيمن صلى على الإمام الشافعي -رضي الله عنه- وقد توفيت في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين للهجرة ودفنت في منزلها المعروف بخط درب السباع بمصر ويقال: إنها حفرت قبرها هذا وقرأت فيه مائة وسبعين ختمة وإنها لما احتضرت خرجت من الدنيا وقد انتهت في حزبها إلى قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة) (الأنعام: 12) ففاضت نفسها مع قوله تعالى: (الرحمة) (الأنعام: 12), وكان سبب دخولها إلى مصر كما قال ابن خلكان: إنها دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر وقيل: مع أبيها الحسن, وإنها لما استقر بها المقام ودخل الشافعي إلى مصر حضر إليها وسمع عليها الحديث وكان للمصريين فيها اعتقاد عظيم وهو إلى الآن باق كما كان, ولما توفي الإمام الشافعي أدخلت جنازته إليها وصلت عليه في دارها. ولما ماتت عزم زوجها على حملها إلى المدينة فسأله المصريون بقاءها عندهم ودفنت في الموضع المعروف بها الآن.
وقال الشيخ محمد الصبان في كتابه إسعاف الراغبين إن السيدة نفيسة -رضي الله عنها- ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة ونشأت بالمدينة في العبادة والزهد وكانت ذات مال ولما ورد الشافعي إلى مصر كانت تحسن إليه وربما صلى بها في رمضان. ولما قدمت مصر كانت بها بنت عمها السيدة سكينة ولها بها الشهرة التامة فخلعت عليها الشهرة, فصار للسيدة نفيسة القبول التام بين الخاص والعام, وماتت وهي صائمة فألزموها الفطر فقالت: وا عجباه لي منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة أأفطر الآن هذا لا يكون؟! ثم قرأت سورة الأنعام. فلما وصلت إلى قوله تعالى: (لهم دار السلم عند ربهم) (الأنعام: 127) ماتت ودفنت بمدفنها المشهور الآن.
وقال السخاوي في كتاب المزارات إن سبب قدوم السيدة نفيسة إلى مصر أنها حجت ثلاثين حجة, وفي الحجة الأخيرة توجهت مع زوجها إلى بيت المقدس, فزارت قبر الخليل إبراهيم, وأتت مع زوجها مصر في رمضان سنة ثلاث وتسعين ومائة وكان لقدومها إلى مصر أمر عظيم تلقاها الرجال والنساء من العريش, ونزلت أولا عند كبير التجار بمصر وهو جمال الديم عبد الله بن الجصاص وكان من أصحاب المعروف والبر, فأقامت عنده شهورا يأتي إليها الناس من سائر الآفاق للتبرك, ثم تحولت إلى مكانها المدفونة به وهبه لها أمير مصر السري بن الحكم وسبب ذلك أن بنتا يهودية زمنة تركتها أمها عندها وذهبت إلى الحمام فقدر الله شفاءها على يد السيدة -رضي الله عنها- وعند ذلك أسلمت البنت وأبواها وجماعة من الجيران يبلغ عددهم نحو السبعين نفرا, ولما شاع ذلك لم يبق أحد في مصر, إلا قصد زيارتها وكثر الناس على بابها فطلبت الرحيل إلى بلاد الحجاز فشق على أهل مصر ذلك وسألوها الإقامة فأبت, فركب إليها السري بن الحكم وسألها الإقامة فقالت: إني امرأة ضعيفة وقد شغلوني عن عبادة ربي ومكاني قد ضاق بهذا الجمع الكثيف. فقال لها السري: أما ضيق المكان فإن لي دارا واسعة بدرب السباع فأشهد الله أني قد وهبتها لك وأسألك أن تقبليها مني, وأما الجموع الوافرة فقرري معهم أن يكون ذلك يومين في كل أسبوع وباقي أيامك في خدمة مولاك فجعلت لهم السبت ويوم الأربعاء إلى أن توفيت. وقد أقبل على زيارتها في الحياة وبعد الممات خلق كثير لا يحصون من العلماء والخلفاء والأولياء وغيرهم وقيل: إن الحنفي كان يقول عند زيارتها السلام والتحية والإكرام من العلي الرحمن على نفيسة الطاهرة المطهرة سلالة البررة وابنة علم العشرة الإمام حيدرة السلام عليك يا ابنة الحسن المسموم أخي الإمام الحسين سيد الشهداء المظلوم السلام عليك يا ابنة فاطمة الزهراء وسلالة خديجة الكبرى -رضي الله تبارك وتعالى عنك وعن جدك وأبيك- وحشرنا في زمرة والديك وزائريك. اللهم بما كان بينك وبين جدها ليلة المعراج اجعل لنا من همنا الذي نزل بنا انفراج, واقض حوائجنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
وكان بعض زائريها يقول عند مشهدها:
يا رب إني مؤمن بمحمـد وبآل بيت محمد بتـوال
فبحقهم كن شافعا لي منقذا من فتنة الدنيا وشر مآل
وكان بعضهم يقول أيضاً:
يا بني الزهراء والنور الذي ظن موسى أنه نار قبس
لا أوالي قط من عـاداكـم أنهم آخر سطر في عبس
وبعد وفاتها صارت أرباب الدولة تبني ضريحها الشريف تبركا بمقامها المنيف, فمنهم ذات الحجاب المنيع والقدر الرفيع, والدة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب أنشأت رباطا بجوارها والملك الناصر محمد بن قلاوون أمر بإنشاء جامع بخطبة وشيد بناءه, ولما توفي الخليفة أمير المؤمنين أبو العباس أحمد بن العباس المعروف بالأسمر في سنة إحدى وسبعمائة أمر السلطان الناصر أن يدفن بالمشهد النفيسي فدفن هناك وأقيمت عليه قبة.
ومن النوادر التي حصلت في مشهد السيدة نفيسة كما قال الجبرتي في تاريخه والأمير علي باشا مبارك في خططه أنه في سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف اجتمع الخدام في المشهد النفيسي بواسطة كبيرهم الشيخ وأظهروا عنزا صغيرا وزعموا أن جماعة أسرى من بلاد النصارى توسلوا بالسيدة نفيسة وأحضروا ذلك العنز لذبحه في الليلة التي يجتمعون فيها للذكر والدعاء ويتوسلون في خلاصهم من الأسر, فاطلع عليهم الكافر فزجرهم وسبهم ومنعهم من ذبح العنز فرأى في المنام رؤيا هائلة فاعتقهم وأعطاهم دراهم وصرفهم مكرمين فحضروا إلى مصر ومعهم العنز فذهبوا بها إلى المشهد النفيسي وكثرت فيه الخرافات وتقاويل الناس فمن قائل: إنهم أصبحوا وجدوها عند المقام. ومن قائل: فوق المنارة. ومن قائل: سمعناها تتكلم. ومنهم من يقول: السيدة أوصت عليها وأن الشيخ سمع كلامها من القبر, ثم بعد هذه الشهرة أبرزها الناس وجعلها بجانبه وجعل يقول من الخرافات التي يستجلب بها قلوب الناس ويجمع بها الدنيا وتسامع الناس بذلك وأقبلوا من كل فج رجالا ونساء لزيارتها, وأتوا للشيخ بالنذور والهدايا, وعرفهم أنها لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق, ولا تشرب إلا ماء الورد والسكر المكرر, فأتوه من كل جانب بالقناطير من ذلك وعلموا للعنز القلائد والأطواق الذهبية, وافتتنوا بها وشاع ذلك الخبر عند الوزراء والأمراء وأكابر النساء فجعلن يرسلن كل على قدر مقامه من النذور, وازدحمن على زيارتها فأرسل الأمير عبد الرحمن كتخدا إلى الشيخ عبد اللطيف يتلمس منه الحضور إليه بالعنز ليتبرك بها هو وحريمه فركب الشيخ بغلته والعنز في حجره, وصحبته الطبول والبيارق والجم الغفير من الناس حتى دخلوا إلى بيت ذلك الأمير علىتلك الحالة, وصعد بها إلى المجلس وعنده كثير من الأمراء فتملس بها وأمر بإدخالها إلى الحريم للبركة, وكان قد أوصى بذبحها وطبخها, فلما ذبحوها وطبخوها أخرجوها مع الغداء فأكلوا منها وصار الشيخ يأكل والأمير يقول: كل يا شيخ من هذا التيس السمين. فيقول: والله إنه طيب ونفيس, وهو لا يعلم أنه عنزه وهم يتغامزون ويضحكون, فلما أكلوا وشربوا القهوة طلب الشيخ العنز فعرفه الأمير أن الذي كان بين يديه وأكل منه هو العنز, فبهت الشيخ عند ذلك ثم بكته الأمير ووبخه وأمر أن يوضع جلد العنز على عمامته, وأن يذهب به كما جاء بموكبه وبين يديه الطبول والأشائر ووكل به من أوصله إلى محله على الصورة المذكورة وفي ذلك يقول الأديب الكامل والشاعر الناثر عبد الله بن سلامة الأدكاوي:
ببنت رسـول الـلـه طـيبة الـثـنـا نفيسة لذ تظفر بما شئت مـن عـز
ورم من جداها كـل خـير فـإنـهـا لطلابها يا صاح أنفع مـن كـنـز
ومن أعجـب الأشـياء تـيس أراد أن يضل الورى في حبها منه بالعـنـز
فعاجلها مـن نـور الـلـه قـلـبـه بذبح وأضحى الشيخ من أجلها مخزي
نصرة إيلياس غريب
ولدت نصرة غريب بطرابلس الشام عام 1862 م من عائلة غريب وأمها من فاضلات النساء, فورثت منها طيب الأخلاق وصفاء النية ورقة الجانب وكانت وحيدتها فاعتنت بتربيتها وأرضعتها لبان العلوم في أحسن مدارس طرابلس فتمكنت منها المناقب الحسنة بالقدوة والتربية وهذه القوى الثلاث أي الوراثة والقدرة مصدر الأخلاق ودعامتها, فقلما يطيب فرع أصله خبيث, وقلما يخبث فرع أصله طيب.
ولما بلغت السابعة عشرة اقترنت بجناب الوجيه “عزتلو ادوار بيك إيلياس” وسكنا في مدينة الإسكندرية مدة ثم انتقلا إلى مصر القاهرة واشتهرت بين معارفها وسيداتها بالذكاء وصفاء النية, وعزة النفس, وحب الإنسانية. وقيل: إنها كانت تتصدق على الأرامل والمحتاجين الصدقات الكثيرة مع ما كانت عليه من الاقتصاد في النفقات الابتعاد عن الإسراف في المعيشة.
وكانت تعين زوجها في جميع أشغاله وفي تدبير بيتها, ولها الرأي الصائب والقول السديد كما شهد هو نفسه ولما جاءت إلى القاهرة ورأت أن ليس فيها عند الطائفة الأرثوذكسية جمعية خيرية أخذت تحث وجهاء هذه الطائفة على إنشاء جمعية مثل جمعية الإسكندرية لمساعدة المساكين.
وكانت تحب جريدة المقتطف العلمية وتطالعها وتذاكر في بعض مواضيعها, وتلتذ بالمذاكرة العلمية فتصغي إليها بكليتها كمن يفهم دقائق الأمور وكانت كثيرة المالعة دقيقة الانتقاد, وإذا أعجبها كتاب أشارت على صديقاتها بمطالعته وإذا رأت في كتاب ما لا ستحسن ذمته ولامت واضعيه.
وكانت اجتمعت مع مريم مكاريوس وأخريات من الفاضلات يتذاكرن في حالة المرأة الشرقية ووددن أن يعم تعليم البنات وتهذيبهن على أسلوب يصرفهن عن الاكتفاء بقشور التمدن الأوربي ويرغبهن باقتباس الفضائل السامية التي ترفع شأن المرأة وتؤهلها لتربية النوع الإنساني.
ولما كانت على هذه الصفات الحسنة لم تكن طويلة العمر مديدة الحياة حتى كانت تنفع بنات جنسها ولكن اختطفتها المنية وهي في ريعان الشباب فتوفيت مأسوفا عليها من الجميع.
نوار بنت أعين بن صعصعة
ابن ناجية بن عقال المجاشعي كانت أحسن نساء زمانها وجها وأجملهن خلقا, وأفصحهن منطقا. وكانت ذات أدب زائد, ومعرفة تامة بالأوابد, مكرمة عند قومها مسموعة الكلمة فيهم تزوج بها الفرزدق -الشاعر المشهور- رغما عنها. قيل: إن سبب زواجها به أنه كان خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيت به وكان الفرزدق وليها وهو ابن عمها, فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل. فقال لها: لا أفعل إلا أن تشهدي بأنك قد رضيت بمن أزوجك به ففعلت.
فلما توثق منها قال: أرسلي إلى القوم أن يأتوا, فجاء بنو عبد الله بن دارم فلما اجتمعوا في مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة ناقة حمراء سوداء الحدق فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى عبد الله بن الزبير حين أعياها أهل البصرة أن لا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود, وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتقاء الفرزدق وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعي له بالخلافة فلم تجد من يحملها إليه, وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة ويقال لهم: بنو أم النسير فسألتهم برحم تجمعهم وكانت بينها وبينهم قرابة فأقسمت عليهم ليحملنها, فحملوها فبلغ ذلك الفرزدق فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه وأوقروا له عدة من الإبل وأعين بنفقة فتبع النوار. وقال:
لولا أن يقول بنو عـدي ألم تك أم حنظلة النوار
أتتكم يا بني ملكان عنـي قواف لا تقسمها البحار
وقال فيهم أيضا:
لعمري لقد أردي النوار وسـاقـهـا إلى اليوم أحلام خفاف عقـولـهـا
أطاعت بني أم النسير فأصـبـحـت على قتب يعلو الفـلاة دلـيلـهـا
وقد سخطت مني النوار الذي ارتضى به قلبها الأزواج خاب رحـيلـهـا
وإن امرأ أمسى يخبـب زوجـتـي كساع إلى أسد الشرى يستبـيلـهـا
ومن دون أبـواب الأسـود بـسـالة وبسطة أيد يمنع الضيم طـولـهـا
وإن أمير الـمـؤمـنـين لـعـالـم بتأويل ما أوصى العباد رسولـهـا
فدونكها يا ابن الـزبـير فـإنـهـا مولعة يوهى الحجـارة قـيلـهـا
وما جادل الأقوام من ذي خصـومة كورها مشنوء إليهـا حـلـيلـهـا
فأدركها وقد قدمت مكة فاستجارت بخولة بنت منظور بن زبان الفزاري وكانت عند عبد الله بن الزبير, فلما قدم الفرزدق إلى مكة اشرأب الناس غليه ونزل على بني عبد الله بن الزبير فاستنشدوه واستحدثوه فكان مما أنشدهم قوله:
أمسيت قد نزلت بحمزة حاجتـي إن المنوه باسمه الـمـوثـوق
بأبي عمارة من وطئ الحصـى وجرت له في الصالحين عروق
بين الحواري الأغـر وهـاشـم ثم الخليفة بـعـد والـصـديق
وقال أيضا:
يا حمز هل لك في ذي حاجة عرضت أنصاره بمكان غير ممطور
فأنت أحرى قريش أن تكون لها وأنـت بـين أبـــي بـــكـــر ومـــنـــظـــور
بين الـحــوراي والـــصـــديق فـــي شـــعـــب صبـتـين فـي طــلـــب الإســـلام والـــخـــير
ثم شفعوه إلى أبيهم فجعل يقبل شفاعتهم في الظاهر حتى إذا جاء إلى خولة قلبته عن رأيه فمال إلى النوار فقال الفرزدق في ذلك:
أما بنوه فلم تقبل شفاعـتـهـم وشفعت بنت منظور بن زبانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا

فبلغ ذلك ابن الزبير فدعا بالنوار فقال: إن شئت فرقت بينكما أقتله فلا يهجونا أبدا, وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو فيقتل فقالت: لا أريد واحدة منهما. فقال لها: إنه ابن عمك وهو فيك راغب فأزوجك إياه, فقالت -وقد فضلت عذابها على هلاكه-: نعم قد رضيت. فدعا بالفرزدق.
وقال له: جئني بصداق النوار وإلا فرقت بينكما فقال الفرزدق: أنا في بلاد غربة فكيف أصنع وأنك تحكم علي لتثب عليها وتصطفيها لنفسك, وكان ابن الزبير حديدا. فقال لها: هل أنت وقومك إلا جالية العرب. ثم أمر فأقيم الفرزدق من مجلسه وأقبل على من حضر فقال: إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه فأجمعت العرب بما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة, ثم حتم على الفرزدق إن لم يحضر صداقها ليقتلنه شر قتله فبلغ ذلك الفرزدق فقال: إن ابن الزبير يعيرنا بالجلاء ثم قال:
فإن تغضب قريش ولتغضبي فإن الأرض توعبها تمـيم
هم عدد النجوم وكـل حـي سواهم لا تعد لهم نـجـوم
ولولا بيت مكة مـا ثـويتـم بما صبح المنابت والأروم
بها كثر العديد وطاب منكـم وغيركم أخيذ الريش هـيم
فهلا عن تعلل من غـدرتـم بخونته وعذبه الـحـمـيم
فعبد الله مهلا عـن أذاتـي فإني لا الضعيف ولا السؤم
ولكني صفـاة لـم تـدنـس تزل الطير عنها والعصوم
أنا ابن العاقر الخور الصفايا يضنوا حين فتحت العلـوم
فبلغ هذا الشعر ابن الزبير فأسره في نفسه وخرج يوما للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه فعمد إلى عنقه فكاد يدقها.
وقال له: لا بد أن تنفذ حكمي فتركه لا يعي ما يفعل, فقيل له: عليك بسلم بن زياد فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن الزبير بمال فذهب إليه وقص عليه قصته.
فقال له: كم صداقها؟ قال: أربعة آلاف دينار فأمر له بها وبألفين للنفقة فقال الفرزدق في ذلك:
دعي مغلق الأبواب دون فعالـهـم ولكن تمشي بي هبلت إلى سلـم
إلى من يرى المعروف سهلا سبيله ويفعل أفعال الرجال التي تمنـي
ولما ذهب إلى ابن الزبير ونقده المال سلمها له ومالها معها فقال الفرزدق: خرجنا ونحن متناغضان فعدنا ومحن متحابان وأنشد يقول لها:
هلمي لابن عمك لا تكـونـي كمختار على الفرس الحمارا
فجاء بها إلى البصرة فقال جرير:
ألا لا تلم عرس الفرزدق جامحـا فلو رضيت رمح استه لاستقرت
فقال الفرزدق مجيبا له:
وأمك لـو لاقـيتـهـا بـي مـرة وجاءت بها جرف إستها لاستقرت
وقيل: إنها لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم فقال فيها:
بني عاصم لا تجنبوها فإنـكـم ملاجئ للسوءات دسم العمائم
بني عاصم لو كان حيا أبوكـم للام بنيه اليوم قيس بن عاصم
فبلغهم ذلك الشعر وقالوا له: والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة: وكانت النوادر دائما تتخاصم معه وتغضب منه وتنفر عنه ومكثت معه زمانا طويلا, وهي في نكد وعدم راحة.
وكانت عندما تغضب منه تقول: ويحك أنت تعلم إنك إنما تزوجتني ضغطة وخدعة علي ولم تزل في كل ذلك على مضض حتى حلفت اليمين الموثق, ثم حنثت بها وتجنبت فراشه فتزوج عليها امرأة يقال لها: جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لجرير بن عباد بن ضبيعة فجعل يأتي النوار وبه ردغ وعليه الأثر فقالت له النوار: هل تزوجها إلا هدادية؟ -تعني حيا من بني أزد بن عمان- فقال الفرزدق:
تريك نجوم الله والشـمـس حـية كرام بنات الحارث بن عـبـاد
أبوها الذي قاد النعامة بـعـدمـا أبت وائل في الحرب غير تمادي
نساء أبوهن الأغـر ولـم تـكـن من الأزد في جاراتهـا وهـداد
ولم يك في الحي الغموض محلها ولا في العمانـيين رهـط زياد
عدلت بها مثل النوار فأصبـحـت وقد رضيت بالنصف بعد بعـاد
ولم تزل النوار بالفرزدق ترفق به وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها وأخذ عليها أن لا تفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج غيره بعده ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له.
وأخذت عليه أن يشهد الحسن البصري على طلاقها فأجابها لذلك واستصحب معه رواية أبي شفقل وراوية أخرى وصحبت النوار رجالا كثيرة كانوا يلوذون بالسواري خوفا من الفرزدق أن يراهم, فساروا جميعا حتى أتوا الحسن البصري.
فقال له الفرزدق: يا أبا سعيد, اشهد أن النوار طالق ثلاثا. فقال الحسن: قد شهدنا فلما انصرفوا.
قال الفرزدق لأبي شفقل: قد ندمت. فقال له: والله إني لأظن أن دمك يترقرق, أتدري من أشهدت! -يعني بذلك الحسن البصري- والله لئن رجعت لترجمن بالأحجار ومضى وهو يقول:
ندمت ندامة الكسعي لـمـا غدت مني مطلـقة نـوار
ولو أني ملكت يدي وقلبـي لكان علي للقدر الـخـيار
وكانت جنتي فخرجت منهـا كآدم حين أخرجه الضرار
وكنت كفاقئ عينيه عـمـدا فأصبح ما يضيء له النهار
وقيل: إن النوار أوصت الفرزدق قبل موتها أن يصلي عليها الحسن البصري فأخبره الفرزدق في ذلك.
فقال له: إن كانت وفاتها قبلنا فأخبرني بها فكان كذلك, وقد توفيت وأخرجت وجاء الحسن البصري وسبقهما الناس, فانتظروهما. فأقبلا والناس منتظرون, فقال الحسن: ما للناس؟ فقال الفرزدق: ينتظرون خير الناس وشر الناس. فقال الحسن: لست بخير الناس ولا شرها, ثم صلوا عليها ودفنوها.
وقال له الحسن: ما أعددت لهذا المضجع؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة, ثم نظر إلى قبر النوار وأنشد:
لقد خاب من أولاد آدم من مشى إلى النار مغلول القلادة أزرقا
أخاف وراء القبر إن لم يعافني أشد من القبر التهابا وأضيقـا
إذا جاءني يوم الـقـيامة قـائد عنيف وسواق يقود الفرزدق
نيكتورسيس
هي ملكة فرعونية من ملوك مصر وهي من ملوك الدولة السادسة المصرية, كانت أكثر نساء عصرها لطفا وجمالا, وأشهر بنات مصرها فضلا وكمالا, وأغزر علماء زمانها عقلا ودهاء, وأوفر الناس حزما وذكاء قيل: إن المصريين أشربوا حبها وفتنوا بها, فأدخلوها بعد الممات في مصاف المعبودات.
ومما ذكر عن دهائها أن فريقا من رجال الدولة وثبوا على أخيها وقتلوه إذ كان ملكا قبلها وكان ذلك منهم بغيا وظلما ولما خلفته على العرش دعت الباغين لمأدبة أعدتها لهم في قصر عظيم جميل قائم على أخدود بجوار نهر النيل ولما مدت الأسمطة وابتدأوا بالطعام وآلات الطرب عازفة تبدد بألحانها كتائب الأشجان, وتغنيهم بأغاريد تغنيهم عن ارتشاف سلافة ألحان, أمرت إذ ذاك بماء نهر النيل فنساب عليهم حتى أغرقهم عن آخرهم وكانوا زهاء الخمسين فلقوا كنودهم الذميم, وأملت عليهم إن كيد عظيم:
وما من يد إلا يد الله فوقها وما ظالم إلا سيبلى بأظلم

ماذا تعرف عن الملك فاروق و مصر فى عهد الملك فاروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *