الدولة العثمانية عوامل النهوض و اسباب السقوط صفحات من التاريخ الاسلامى فى شمال افريقيا الجزء الثانى عشر السلطان عبد المجيد الأول

المبحث التاسع
السلطان عبدالمجيد الأول
(1255-1277هـ/1839-1860م)

كان السلطان عبدالمجيد الأول ، ضعيف البنية شديد الذكاء، واقعياً ورحيماً، وهو من أجلّ سلاطين آل عثمان قدراً، أحب الاصلاح، وأدخل التنظيمات الحديثة، ورغب في تطبيقها في الحال. كما أدخل إصلاحات جمة في الجيوش العثمانية . وترقت في أيامه العلوم والمعارف، واتسعت دائرة التجارة ، وشيدت الكثير من المباني الفاخرة، ومدَّت في عهده أسلاك الهاتف وقضبان السكك الحديدية([1]).
تولى الحكم بعد وفاة والده السلطان محمود الثاني سنة 1839م وكان عمره السادسة عشرة من عمره، فكان صغر سنه هذا فرصة لبعض الوزراء التغريبيين لإكمال مابدأه والده الراحل من إصلاحات على الطريقة الأوروبية ، والتمادي في استحداث الوسائل الغربية، ومن هؤلاء الوزراء الذين ظهروا في ثياب المصلحين ومسوح الصادقين (مصطفى رشيد باشا) الذي كان سفيراً للدولة في (لندن) و (باريس)، ووصل الى منصب وزير الخارجية في أواخر عهد السلطان (محمود الثاني)، وكانت باكورة إصلاحاته استصدار مرسوم من السلطان عرف (بخط شريف جلخانة) أي المرسوم المتوج بخط السلطان الذي صدر عن سراي الزهر عام 1839م وجاء فيه: (… لايخفى على عموم الناس أن دولتنا العلية من مبدأ ظهورها وهي جارية على رعاية الأحكام القرآنية الجليلة والقوانيين الشرعية المنيفة بتمامها ولذا كانت قوة سلطتنا السنية ورفاهية وعماريه أهاليها وصلت حد الغاية، وقد انعكس الأمر منذ مائة وخمسين سنة بسبب عدم الانقياد والامتثال للشرع الشريف ولا للقوانين المنيفة بناءً على طروء الكوارث المتعاقبة والأسباب المتنوعة فتبدلت قوتها بالضعف وثروتها بالفقر….)([2]) ثم جاءت بيانات يمكن تلخيص بعضها فيما يلي:
1- صيانة حياة وشرف وممتلكات الرعايا بصورة كلية بغض النظر عن المعتقدات الدينية.
2- ضمان طريقة صحيحة لتوزيع وجباية الضرائب.
3- توخي العدل والإنصاف في فرض الجندية وتحديد أمدها .
4- المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلم وغير المسلم([3]).
وبدأ عهد جديد يسمى عهد التنظيمات الخيرية العثمانية التي كان من بينها احترام الحريات العامة والممتلكات والأشخاص بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية، ونص فيه على مساواة جميع الأديان أمام القانون([4]).
وفي جزيرة متلين اجتمع نفر من رجال الدين اليونانيين والأرمن واليهود، وهناك خطبهم “رضا باشا” -وهو من المنسوبين الى الاصلاح- باسم السلطان ، فقال : أيها المسلمون والنصارى واليهود، إنكم رعية إمبراطور واحد وأبناء أب واحد ، إن السلطان يسوي بينكم جميعاً)([5]).
(ولم يلق الخط الشريف أو الدستور الذي سانده “مصطفى رشيد” وقلة من المحيطين به ترحيباً أو تأييداً من الرأي العام العثماني المسلم؛ فأعلن العلماء استنكارهم وتكفيرهم لـ”رشيد باشا” ، وأعتبروا الخط الشريف منافياً للقرآن الكريم في مجمله وبخاصة في مساواته المسيحيين بالمسلمين، ورأوا أن ذلك -وبغض النظر عن النواحي الدينية- سيؤدي الى إثارة القلاقل بين رعايا السلطان.
وكان الهدف بالفعل هو ما خططت له الحركة الماسونية، وهو إثارة الشعور القومي لدى الشعوب المسيحية ضد الدولة)([6]).
وبهذا المرسوم طعنت عقيدة الولاء والبراء في الصميم، ونحيت جملة هامة من أحكام الشريعة الاسلامية فيما يتعلق بأهل الذمة وعلاقات المسلمين مع غيرهم([7]).
ومما يستلفت النظر أن استصدار خط شريف كلخانة كان “الثمن” الذي حصلت عليه بريطانيا والدول الأوروبية من السلطان العثماني في مقابل تسوية النزاع بينه وبين والي مصر “محمد علي باشا” الذي كان يريد الاستقلال والانفصال عن الدولة، أثناء أزمة العلاقات المصرية العثمانية المعروفة (1255-1257هـ/1839-1841م) وينبغي ألا يفهم من ذلك أن الضغط الأوروبي بوجه عام والبريطاني بوجه خاص، كان وحده منشأ حركة التنظيمات أو حركة التجديد والاصلاح العثمانية، خلال القرن التاسع عشر، فقد أسهم في هذه الحركة عامل آخر، هو اقتناع الدولة والمتأثرين بالثقافة والحضارة الأوروبية بضرورة إصلاح جهاز الدولة وتجديده على أساس اقتباس النظم الأوروبية أو استلها منها من غير مساس بالأحكام الشرعية([8]).
(وبهذا التصريح الخطير الذي أصدرته الدولة لتتقرب من دول أوروبا … مس السلطان التقاليد العثمانية في الشغاف، وتناول الشريعة الاسلامية بالتحريف، فإن التقاليد والشريعة كلاهما لايبيحان أن يتمتع المسلمون وغير المسلمين بنفس الحقوق في رعاية خليفة المسلمين ، لابد أن يكون تمييز بين المسلمين بنفس الحقوق في ذمة المسلمين ، فأما هذا التصريح الخطير فله دلالته، فهو ينطق بأن رجال الدولة اعترفوا بأن التقاليد القديمة لم تعد ميزاناً صالحاً للحكم ، ولابد من الأخذ باساليب الغرب ولو تعارض مع الشرائع والسنن)([9]).
وقد أنشأ رشيد باشا مجلساً للنواب ، ووضع للدولة قانوناً للعقوبات وفق الشرائع الحديثة واستقدام رجلاً فرنسياً ليضع قانوناً مدنياً حديثاً للدولة، واشتد في تطبيق قوانينه شدة حازمة ضمنت احترام الناس لها، وأعقب ذلك بإنشاء بنك جديد للدولة وأصدر أوراقاً مالية([10]) ثم صدر مرسوم آخر عام 1856م أكد فيه السلطان عبدالمجيد الأول المبادئ التي سبق له أن أعلنها على لسان رشيد باشا، وزاد فيه عدة امتيازات وحصانات لرعايا الدولة غير المسلمين([11])، وعرف في التاريخ العثماني بالخط الهمايوني الذي كان أكثر جرأة من الأول وأكثر اندفاعاً نحو الاقتباس من الغرب وقد تضمن الخط الهمايوني مايلي:
1.إلغاء نظام الالتزام والقضاء على الرشوة والفساد.
2.المساواة في التجنيد بين المسلمين وغير المسلمين.
3.معاملة جميع رعايا الدولة معاملة متساوية مهما كانت اديانهم ومذاهبهم([12]).
4.المحافظة على الحقوق والامتيازات التي تمتع بها رؤساء الملل غير الاسلامية.
5.القضاء على حواجز نظام الملل، ليتمتع كل مواطني الامبراطورية بمواطنة عثمانية متساوية.
6.أن تصبح المسائل المدنية الخاصة بالرعايا المسيحيين من اختصاص مجلس مختلط من الأهالي ورجال الدين المسيحيين يقوم الشعب بانتخابه بنفسه.
7.فتح معاهد التعليم أمام المسيحيين، لتفتح أمامهم وظائف الدولة .
8.السماح للأجانب بامتلاك الأراضي في الدولة كما وعد السلطان بالاستعانة برأس المال والخبرات الأوروبية بهدف تطوير اقتصاد الدولة([13]).
ويعتبر السلطان عبدالمجيد أول سلطان عثماني يضفي على حركة تغريب الدولة العثمانية صفة الرسمية، إذ إنه أمر بتبني الدولة لهذه الحركة وأمر بإصدار فرماني التنظيمات عامي 1854م،1856م وبهما بدأ في الدولة العثمانية ماسمي بعهد التنظيمات وهو اصطلاح يعني تنظيم شؤون الدولة وفق المنهج الغربي، وبهذين الفرمانين تم استبعاد العمل بالشريعة الاسلامية ، وبدأت الدولة في التقنين وإقامة المؤسسات([14]).
والحق أن السلطان عبدالمجيد كان خاضعاً لتأثير وزيره “رشيد باشا” الذي وجد في الغرب مثله وفي الماسونية فلسفته، ورشيد باشا هو الذي أعد الجيل التالي له من الوزراء ورجال الدولة، وبمساعدته أسهم هؤلاء في دفع عجلة التغريب التي بدأها هو([15]).
وحينما رأى المسلمون أن الدولة تساوي بهم النصارى واليهود، وتستبدل بالشريعة الحنيفة قوانين النصارى، وتخلع الأزياء القديمة الشريفة لتتخذ زي النصارى، وأحسوا كذلك أن حكومة رشيد لاتكاد تأتي أمراً إلا راعت فيه خاطر النصارى وحرصت أن لاتمسهم بأذى أو تنالهم بضيم -نفروا من ذلك نفوراً عظيماً، ولم يجد السلطان ورجال دولته من بد في إسقاطه وعزله أمام مظاهر السخط الشعبي، وخوفهم من وثوب المسلمين وثورتهم([16]).
غير أن عزل رشيد باشا لم يؤد الى وقف حركة التغريب من استقدام المزيد من الانظمة والقوانين من الغرب بعد أن مهد لها الطريق ، وفتحت لها الأبواب، ومع أن هذه المعارضة لرشيد باشا ودستوره قد نجحت في إقصائه سنة 1841م، إلا أنه عاد بعد أربع سنوات في عام 1845م تسانده مجموعة من أعضاء المحافل الماسونية الذين ركزوا السير في طريق التحول العلماني …([17])، وعاد بعد ذلك ليتولى الصدارة العظمى سنة 1846م وعزل منها سنة 1858م([18]).
وازدادت الأحوال سوءاً وانحطاطاً ، مما جعل رجال الدولة يفكرون حقيقة في التغيير والاصلاح فلا يجدون أمامهم غير الطريقة الأوروبية في الإصلاح، والوجهة التغريبية في التغيير التي بدء في اتخاذها، خصوصاً إذا علمنا أن كثيراً من رجال الدولة هؤلاء ممن بعثتهم الدولة للعمل في التمثيل السياسي الخارجي أو للدراسة العسكرية في الخارج، بعد أن خلت الساحة من ظهور مصلح إسلامي يعيد الأمور الى نصابها، ويقطع الطريق على أنصار الغزو الفكري بتبني إصلاح جاد يعتمد على المنهج الاسلامي([19]).
وكما قال الكاتب التركي الاستاذ “نجيب فاضل”: ولخلو الامبراطورية العثمانية طيلة ثلاثة قرون أو أربعة قرون من زعيم فكري أو مصلح اجتماعي كبير وأصيل، فقد ترك المجال للدوبلوماسيين السطحيين المنبهرين بالغرب والمقلدين له… وكانت النتيجة فقدان الروح، وضمور العقل، وذبول الارادة ، وعموم الشلل([20]).
وقد انتشرت أفكار الغزو الفكري بين الجمهور الاعظم من ساسة الترك وولاتهم، وركبوا متن التفرنج والتحلل من الدين ، حتى إن العلامة العراقي الآلوسي لما زار والي كركوك علي باشا عام 1267هـ أثنى عليه وامتدحه بحب العلماء واكرامهم، وبالأخلاق الفاضلة ، ثم قال بعد ذلك : (والظاهر أنه غير منحل العقيدة، ولا منتحل شيئاً من الآراء الإفرنجية الجديدة، حيث إنه لم يسمع منه جليس حديث لوندرة وباريس! ويكفي اهل البلد اليوم رحمة أن واليها سالم من تلك الوصمة، وقلما تنال هذه الرحمة في هذا الزمن الذميم!)([21]).
وقد استمر التيار التغريبي في محاولة إحكام السيطرة على جميع المجالات والأجهزة في الدولة العثمانية .
وعلى كل حال لقد كانت المعالم الرئيسة لحركة الاصلاح والتجديد العثمانية تدور حول نقاط ثلاثة هامة:
1- الاقتباس من الغرب فيما يتعلق بتنظيم الجيش وتسليمه في نظم الحكم والإدارة.
2- الاتجاه بالمجتمع العثماني نحو التشكيل العلماني .
3- الاتجاه نحو مركزية السلطة في استانبول والولايات([22]).
كانت سنة صدور خط كلخانة حدثاً في الأوساط الأوروبية يسجله أحد المنصرين الفرنسيين بقوله: (كان عام 1839م عاماً عظيماً بالنسبة للتوغل الفرنسي في تركية … لقد كان بداية التنظيمات والسنة الأولى في الإصلاح … ونحن رجال الدين سنبدأ بالاستفادة من هذه الليبرالية الخجولة، ونبدأ بإرسالية تبشيرية للتعليم الكاثوليكي)([23]) وقال السيد إيتيان الذي ترأس هذه الارسالية : (هذه أول إمكانية لتعزيز انتصار الايمان الذي سنعلمه ، ذلك لأن القرآن يحرم حتى ذلك الوقت التعليم([24]). لقد سافرت أول إرسالية مكونة من سبعة رجال دين في 21/11/1839م الى استانبول .. الأخوات يفتحن داراً لليتامى وفصولاً للتدريس في نهاية 1840م يصل عدد التلاميذ الى 230، وعام 1842م يصل العدد الى 500)([25]).
وهكذا لم تضيع أوروبة المسيحية وكنيستها وقتاً طويلاً للاستفادة من ظروف التحديث والتنظيمات؛ فبعد سبعة عشر يوماً من صدور الخط، كانت الارساليات التبشيرية الاولى تغادر مارسيلية باتجاه العاصمة العثمانية، وهي تحمل أفكارها العدائية للمسلمين ولقرآنهم الكريم الذي تتهمه بتحريم التعليم انتقلت عدوى التنظيمات الى الولايات العثمانية العربية شبه المستقلة وبسرعة ففي تونس أصدر محمد باي (عهد الأمان) عام 1857م ، وبناه على القواعد التالية:
أولاً: الحرية:
إذ أن الانسان لايستطيع بلوغ الفلاح إلا إذا كانت الحرية مضمونة له، وكان العدل سياجاً له ضد العدوان .
ثانياً: الأمان التام.
ثالثاً: المساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين أمام القانون:
وهذا متضمن في النقطة الثانية، لأن هذا الحق إنما هو ملك لجميع الناس، ويجب أن يكون للأجانب حقوق التونسيين، وأن يمارسوا الأعمال التجارية على أنواعها، وأن يكون لهم حق التملك([26]) وسارت مصر على هذا المنوال ، وبصدور هذه القوانين في استانبول وتونس ومصر، تحول التحديث الذي كان رغبة أوروبة تدعمها بعض فئات نخبوية -الى قوانين رسمية يتعهد فيها السلطان بإجراء التنظيمات اللازمة لتغريب المجتمع الاسلامي . وتحول الصراع من كونه ضغطاً خارجياً على الدولة العثمانية الى الداخل أي الى صراع داخلي عنيف بين سلطة اختارت أو أجبرت على تغريب المؤسسات ومجتمع يرفض هذه المؤسسات مستعيناً بالعلماء والفقهاء والدعاة الذين واجهوا بقوة تيار التحديث من منطلق أنه مخالف للشريعة الإسلامية([27]). إن من ابرز خصائص التنظيمات أنها:
1- كانت أولى الوثائق الرسمية التي لم تستمد مصدريتها من الشريعة الاسلامية ، بل اعتمدت مصدراً وضعياً للتشريع مستوحى من التجربة الدستورية الأوروبية، وقد احتوت على مفاهيم غربية مثل “وطن” التي تضمنها خط كلخانة بدلاً من “الأمة” فكانت والحالة هي أولى الخطوات نحو فصل الدين عن الدولة.
2- إن “إقرار الأمنية الكاملة” و “عهد الأمان” و”مجلس شورى النواب” أو المظاهر الأخرى المستوحاة من التجربة الغربية قد سمحت بإضفاء نوع من الشرعية على استمرار الحيف على العامة من ناحية، وفتحت الطريق لطبقة التجار الغربيين والمبشرين لإلحاق المجتمع العثماني بقوانيين السوق وبمعايير الفكر التبشيري من ناحية ثانية.
3- لقد تكلل خطا كلخانة وهمايون بدستور مدحت باشا عام 1876م. ولأول مرة في تاريخ الاسلام ودوله يجري العمل بدستور مأخوذ عن الدستور الفرنسي والبلجيكي والسويسري وهي دساتير وضعية علمانية.
لقد وضعت التنظيمات الدولة العثمانية رسمياً على طريق نهايتها كدولة اسلامية، فعلمنة القوانين، ووضع مؤسسات تعمل بقوانين وضعية، والابتعاد عن التشريع الاسلامي في مجالات التجارة والسياسة والاقتصاد، قد سحب من الدولة العثمانية شرعيتها في أنظار المسلمين ناهيك أن عدو الدولة أصبح داخلياً، فالتوغل الأوروبي في مستوياته الثقافية والاقتصادية والسياسية من ناحية، والمسلمون وعلماء الدين الذين يرتابون بمسلك الدولة من الناحية الثانية، سيبدأون صراعاً لن ينتهي حتى بعد نهاية الدولة العثمانية، بل استمر الى يومنا هذا([28]).
إن من الأهمية بمكان أن نقوّم ماحدث ولقد ترك السلطان عبدالحميد الثاني في مذكراته شهادته التاريخية، لقد حاول انقاذ الدولة العثمانية، بعد أن دارت عليها الدوائر وأحكم عليها الحصار، لقد كان سلطاناً واعياً لحقيقة الدعوات التحديثية التي اتخذت لها تسمية “الحركة الاصلاحية” تغطية لنواياها الحقيقية في ربط الدولة العثمانية بالغرب، وعن ذلك فحاربه الدستوريون ويهود الدونمة وعزلوه. وفي أواخر عهده كتب وهو سلطان مسلوب الإرادة يكشف حقيقة التجديد والإصلاح يقول:
(التجديد الذي يطالبون به تحت اسم الاصلاح سيكون سبباً في اضمحلالنا. ترى لماذا يوصي أعداؤنا الذين عاهدوا الشيطان بهذه الوصية بالذات. لاشك أنهم يعلمون علم اليقين أن الإصلاح هو الداء وليس الدواء ، وأنه كفيل بالقضاء على هذه الامبراطورية إذا أردنا أن نتبنى بعض الاصلاحات، فعلينا أن نأخذ بالحسبان الظروف السائدة في البلاد،وأن لانقيس الأوضاع على اساس المستوى الفكري لحفنة قليلة من الموظفين، ويجب أن يكون في الحسبان شكوك طبقة العلماء في كل ماهو أوروبي. الأوروبيون يتوهمون أن السبيل الوحيد في الخلاص هو الأخذ بحاضرتهم جملةً وتفصيلاً. لاشك أن طراز التطور عندنا هو غير ماعند الأوروبيين، علينا أن نتطور تحت ظروف طبيعية ومن تلقاء أنفسنا، وأن نستفيد من الظروف الخارجية في حالات خاصة. ومن الظلم الفادح أن نتهم بمعاداة كل شيء يأتي من الغرب)([29]).
لقد أصاب ميزان العدل في تقويمه لحركة الاصلاح العثمانية وبين كيفية الاستفادة من حضارة الغرب وأرى من الفائدة للقارئ الكريم أن يتعرف على موقف الاسلام من الحضارة الغربية وغيرها من الحضارات الجاهلية الأخرى وكيف تكون الاستفادة من هذه الحضارات؟
إن الاستفادة من الحضارة الغربية الكافرة وغيرها على ثلاثة أنواع:
1- الاستفادة من الصناعات وأصولها والاكتشافات العلمية ، والعلوم التجريبية والعسكرية والطبيعية، كالرياضيات والكيمياء والفيزياء ، والهندسة والاحياء والفلك بعد أن تمحص وتصفى من شوائب المؤثرات الجاهلية، وتصاغ بقوالب إسلامية صافية، فهذه الأمور مابين: واجب([30]) أخذه واقتباسه ، وهو مايحتاجه المسلمون حاجة ماسة، أو لاتقوم بعض الواجبات إلا به، كالسلاح، والنظم العسكرية، في مجالات الدعوة الى الله ، والجهاد في سبيله … فكل مايحتاجه المسلمون -من المباحات- في هذا المجال فيجب أخذه والاستفادة منه ، والمسلمون أحق به.
كذلك مايتحقق به قيام الدول الاسلامية -من الوسائل المباحة- مع التحفظ الكامل والوعي التام، يجب الأخذ به، وإلاّ فتركه أولى. أو مباح([31]) وهذا قليل لأن الله أوجب على المسلمين الأخذ بالأسباب والحيطة لاكتفاء والاستغناء عما في أيدي الكفار أياً كان .
الثاني: التقليد في العبادات والعقائد والمبادئ والمفاهيم والتصورات والآراء الفلسفية ، حول الكون والحياة والانسان،والتي تتصل بالعقيدة، فهذه الأمور لاتفصيل فيها، فهي محرمة قطعاً، والاستمداد فيها من الكفار ردة أو كفر إذا اعتقد المقلد صحتها ودان بها، وعلى الأقل تكون حراماً مع جهل حقيقتها.
الثالث: التقليد في الأخلاق وإنماط السلوك والآداب والثقافة والفكر، والانتاج الفني ، ونحو ذلك ، فهذه الأمور لاتخلو إما أن تتعارض مع أصول الاسلام وقواعده أو توقع فيما نهى الشارع عن تقليد الكفار فيه، فهذا أمر محرم، أو تكون مم يجهل أمره وحكمه فهو على الأقل مكروه، أما الشيء الذي يعتبر فضيلة -في تلك الحضارة- وما أقله -فقد يكون مباحاً([32])- والله أعلم.
ولقد تحدث بعض العلماء والمفكرين المسلمين والمعاصرين حول التقليد وكيفية الاستفادة من الحضارة الغربية.
مصطفى صادق الرافعي يقول : (وإني أرى أنه لاينبغي لأهل الأقطار العربية أن يقتبسوا من عناصر المدنية الغربية اقتباس التقليد، بل أقتباس التحقيق، بعد أن يعطوا كل شيء حقه من التمحيص. فإن التقليد لايكون طبيعة إلا في الطبقات المنحطة!! على أننا لانريد من ذلك إلا نأخذ من القوم شيئاً ، فإن الفرق بعيد بين الأخذ من زخرف المدينة وأهواء النفس، وفنون الخيال ورونق الخبيث)([33]).
حسن البنا يقول: (من الحق أن نعرف أننا بعدنا عن هدى الاسلام وأصوله، وقواعده، والاسلام لايأبى أن نقتبس النافع ، وأن نأخذ الحكمة أنىّ وجدناها ولكنه يأبى كل الإباء أن نتشبه في كل شيء بمن ليسوا من دين الله على شيء، وأن نطرح عقائده وفرائضه وحددوده وأحكامه، لنجري وراء قوم فتنتهم الدنيا واستهوتهم الشياطين)([34]).
أبو الأعلى المودودي يقول: إن كان هناك شيء ينبغي ويستحق أن تأخذه أمة من الأمم الأخرى فإنما هو نتاج أبحاثها العلمية، وثمرات قواها الفكرية ، ومعطياتها الاكتشافية ومناهجها العلمية التي تكون قد بلغت بها معارج الرقي في الدنيا . إن أي أمة في الأرض إذا كان في تاريخها أو في نظمها الاجتماعية أو في أخلاقها درس نافع، فمن الواجب أن نأخذه منها، ومن الواجب أن نستقصي أسباب رقيها وازدهارها بكل دقة وتمحيص، ونأخذ منها مانراه ملائماً لحاجتنا وظروفنا.
ولكننا إذا أعرضنا عن هذه الأمور الجوهرية ورحنا نأخذ من أمم الغرب ملابسها وطرقها للمعيشة وأدواتها للأكل والشرب، برغم أن فيها السر لنجاح تلك الأمم ورقيها فلا يكون ذلك إلا دليلاً على غباوتنا وبلادتنا وحماقتنا ، فهل لأحد عنده العقل أن يعتقد أن كل ما أحرزه الغرب من التقدم والرقي في مختلف حقول الحياة، إنما أحرزه بالجاكيت والبنطلون وربطة العنق والقبعة والحذاء؟!
أو أن من أسباب رقيه وتقدمه أنه يتنالو طعامه بالسكين والشوكة؟ أو أن أدواته للزينة والرفاهية والمساحيق والمعاجين والأصباغ هي التي قد رسمت به الى أوج الرقي والكمال؟!!
فإن لم يكن الأمر كذلك – والظاهر انه ليس كذلك- فما للتقدميين المتشدقين بالإصلاح عندنا لايندفعون أو مايندفعون إلا بهذه المظاهر([35])؟!
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قال في (أضواء البيان) عارضاً موقف المسلمين من الحضارة الغربية:
(الاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية تشتمل على نافع وضار، أما النافع فيها فهو من الناحية المادية ، وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه، وما تصمنته من المنافع للانسان أعظم مما يدخل تحت التصور، فقد خدمت الانسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد حيواني، وأما الضار منها فهو الاهمال بالكلية الناحية التي هي رأس كل خير ولاخير البتة في الدنيا بدونها، وهي التربية الروحية للانسان وتهذيب أخلاقه)([36]).
ثم قال بعد أن ذكر حكم الانتفاع من النافع منها:
(وقد انتفع الرسول r بدلالة “ابي الأريقط الدؤلي” له في سفر الهجرة على الطريق مع أنه كافر، فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للاسلام والمسلمين من الحضارة الغربية هو أن يجتهدوا في تحصيل ماأنتجته من النواحي المادية ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون جلا وعلا، فتصلح لهم الدنيا والآخرة. والمؤسف أن أغلبهم يعكسون القضية فيأخذون منها الانحطاط الخلقي، والانسلاخ من الدين والتباعد من طاعة خالق الكون، ولا يحصلون على نتيجة مما فيها من النفع المادي، فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين)([37]).
سيد قطب يقول :(ولقد كان رسول الله r يتشدد مع أصحابه -رضوان الله عليهم- في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج بقدر مايفسح لهم في الراي والتجربة في شؤون الحياة العلمية المتروكة للتجربة والمعرفة كشؤون الزرع وخطط القتال وأمثالها من المسائل العلمية البحتة التي لاعلاقة لها بالتصور الاعتقادي، ولا بالنظام الاجتماعي، ولا بالارتباطات الخاصة بتنظيم حياة الانسان وفرق بين هذا وذلك بيّن ، فمنهج الحياة شيء، والعلوم البحتة والتجريبية والتطبيقية شيء آخر، والاسلام الذي جاء ليقود الحياة بمنهج الله ، هو الاسلام الذي وجه العقل للمعرفة والانتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة ….)([38]).
ثم أورد قصة عمر ، حين رأى معه النبي r ، شيئاً من التوراة وغضب عليه حتى رجع، الحديث وقوله r: ( لاتسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا …) الحديث.
فقال : (هؤلاء هم أهل الكتاب .. وهذا هو هدي رسول الله r ، في التلقي عنهم في أمور تختص بالعقيدة والتصور ، أو بالشريعة والمنهج، ولا ضير وفق روح الاسلام وتوجيهه -من الانتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة علماً وتطبيقاً، مع ربطها بالمنهج الايماني: من ناحية الشعور بها وكونها من تسخير الله للانسان، ومن ناحية توجيهها والانتفاع بها في خير البشرية، وتوفير الأمن له والرخاء ، وشكر لله على نعمة المعرفة ونعمة تسخير القوى والطاقات الكونية، شكره بالعبادة، وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير البشرية.
فأما التلقي عنهم في التصور الإيماني ، وفي تفسير الوجود ، وغاية الوجود الانساني، وفي منهج الحياة وانظمتها وشرائعها ، وفي منهج الأخلاق والسلوك -أيضاً- أما التلقي في شيء من هذا كله فهو الذي تغير وجه رسول الله r ، لأيسر شيء منه، وهو الذي حذر الله الأمة المسلمة عاقبته، وهو الكفر الصّراح)([39]).
إن موجة تقليد الغرب بدأت عارمة حين دبّ الضعف والوهن في الخلافة العثمانية وتكالبت قوى الهدم بتقويضها -في الداخل والخارج- وحين شعرت هذه الدولة الضعيفة بالنقص أمام الدول النصرانية الفتية، فاتجهت الدولة العثمانية الى تقليد تلك الدول وأخذت من إنتاجها الجديد؛ وقد وافق هذا -شلل- في التفكير لدى المسلمين وبعد عن منهج الله الأصيل ، فاستمدت من الكفار ، دون وعي أو إدراك أو تفكير في أسباب تقدم تلك الدول الكافرة ودون أن تجد في اللحاق بها بالجد والاعتماد على القوة الذاتية، والجهود المسلمة….!([40])
وبدأت موجة التقليد الأعمى قوية عارمة تدفعها -بحمق وعنف – الاهواء والانحرافات في الداخل، والجهود الماكرة المخططة من الخارج، فأخذت البلاد الاسلامية تسلك هذا الطريق واحدة تلو الأخرى، ابتداء من تركيا فمصر والشام ثم تونس وإيران والهند.
والعجيب أن كل إتجاهات التقليد في العالم الإسلامي بدأت بالإحساس بالضعف العسكري والحاجة إلى تنظيم الجيوش في البلدان الإسلامية ومن ثم نشأت عقدة الاعتماد على الغرب والإعجاب بكل ماهو غربي وافد من بلاد الكفار مهما كان فاسداً وتافهاً، واحتقار كل ماهو شرقي مهما كان صالحاً وعظيماً([41]).
لقد نهى الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم عن التقليد الأعمى، فمقته وحذر من مغبته، في آيات كثيرة، ومناسبات عديدة، وأساليب متنوعة، ولاسيما تقليد الكفار، فتارة بالنهي عن تبعيتهم وطاعتهم، وتارة بالتحذير منهم، ومن الاغترار بمكرهم والانصياع لآرائهم والتأثر بأعمالهم وسلوكهم وأخلاقهم.
وتارة بذكر بعض خصالهم التي تنفِّر المؤمنين منهم، ومن تقليدهم.
وأكثر مايرد التحذير في القرآن من – اليهود – والمنافقين، ثم من عموم أهل الكتاب والمشركين.
وقد بين الله – سبحانه وتعالى – في القرآن أن تقليد الكفار وطاعتهم منه ماهو ردة فقال: { إن الذين أرتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا مانزَّل الله سنطيعكم في بعض الأمر } ( سورة محمد الآيتان 25-26 ).
وحيث جعل الله في شريعته الكمال فقد نهى عن اتباع غيرها من الأهواء والنظم البشرية، ونهى عن اتباع الكفار والذين لايعلمون فقال: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } ( سورة الجاثية: 18-19 ).
وقال تعالى في معرض التحذير من أهل الكتاب: { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ماتبين لهم الحق} ( البقرة، آية: 109 ).
وقال: { مايود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } ( البقرة: 105 ).
وقال: { يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء } ( المائدة، آية: 51 ).
وكذلك نهى عن طاعتهم واتباع أهوائهم وخصالهم السيئة فقال: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } ( البقرة، آية: 120 ).
وقال: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } ( آل عمران، آية: 100 ).
وقال: { ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك } ( المائدة، آية: 49 ).
وبين خطر موالاتهم واتخاذهم بطانة، وأن ذلك فيه خطر عام يهدد مصالح الأمة وكيانها، فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا بطانة من دونكم لايألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر } ( سورة آل عمران، آية: 18 ).
كما جاء النهي عن التقليد والتحذير منه بأسلوب القصة فإن الله سبحانه وتعالى – ذكر في القرآن الكريم الأمم الكافرة الغابرة وأخبارها ومواقفها العدائية ضدّ دعوة التوحيد ومسيرة الإيمان على مدار التاريخ، وما حصل لها من أنواع العقوبات والعذاب جزاء ضلالها وانحرافها، وهو بذلك يأمرنا بأخذ العبرة والعظة، وبالاعتبار بهم والاتعاظ بقصصهم والابتعاد عن تقليدهم، وتجنب سلوك نهجهم([42]).
وذلك مثل قوله تعالى لمّا ذكر مافعله بأهل الكتاب من المثلات { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ( الحشر، آية: 9 ).
وقال تعالى: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } ( سورة يوسف، آية: 111 ).
وقسم العلماء الآيات التي نهت عن تقليد الكفار في القرآن على قسمين:
قسم بين أن مخالفتهم في عامة الأمور أصلح للمسلمين، وهذا تدل عليه جميع الآيات.
وقسم بين أن مخالفتهم مطلوبة وواجبة شرعاً، وهذا تدل عليه بعض الآيات([43]).
ووردت في السنة – عن رسول الله r – أحاديث عامة تنهى عن التقليد الأعمى، والتشبه الممقوت، وتحذر من مغبة ذلك فقال r في معرض النهي عن التشبه بكل مالم يشرعه أو يقره الإسلام، والنهي عن تقليد كل ماهو على غير سلوك المسلمين، مثل قوله r :” من تشبه بقوم فهو منهم “([44]) كما وردت أحاديث كثيرة وصحيحة في النهي عن تقليد الكفار – عموماً – وأهل الكتاب، والمشركين، والمجوس، وأهل الجاهلية، فقال r في مناسبات عديدة:
” خالفوا اليهود “([45])
” خالفوا المشركين”([46])
” ولا تتشبهوا باليهود”([47])
وحين حذر r من تقليد الكفار وماينتج عنه من خطر على عقيدة المسلمين وكيانهم، علّل ذلك بما هم عليه من انحراف وضلال، فعن جابر t قال : قال رسول الله r :
(لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق ، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم، ماحل له إلاّ أن يتبعني)([48]).
كما بين r -محذراً- ومشيراً الى ماسيحصل للمسلمين بتخليهم عن منهج الله واقتفائهم آثار اليهود والنصارى والأمم المنحرفة، وذلك فيما رواه أبو سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا يارسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن ؟؟)([49]).
إن من مقاصد الشريعة منع المسلمين من التقليد الأعمى، إذ أن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وقد أكمل الله الشريعة للناس { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا} (سورة المائدة: آية 30).
لقد جعل الله الشريعة مشتملة على كل المصالح في كل الأزمان والأمكنة ولكل الناس، فلا حاجة للاستمداد من الكفار أو تقليدهم وواضح مايحدثه التقليد من خلل في شخصية المسلم، من الشعور بالنقص والصغار، والضعف والانهزامية، ثم البعد والعزوف عن منهج الله وشرعه، فقد أثبتت التجربة أن الأعجاب بالكفار وتقليدهم سبب لحبهم والثقة المطلقة بهم والولاء لهم والتنكر للاسلام ورجاله وابطاله وتراثه وقيمه وجهل ذلك كله وهذا ماحدث للدولة العثمانية وولاياتها التابعة لها في القرنين الماضيين، حين تخلوا عن رسالتهم وحين استسلموا لسلطان الغرب ونهلوا من سمه الزعاف([50]).
إن الحكم الشرعي للتقليد يختلف باختلاف نوعه وكيفيته ومدى خطورته وأثره، كما يختلف باختلاف المقلِّد والمقلَّد، والعلاقة الشرعية بينهما، واعتقاد المقلِّد في تقليده لغير المسلمين. فيكون التقليد كفراً إذا كان في العقائد لأصول الإيمان وأصول العقيدة، أو الأحكام القطعية في الشريعة، أو مسائل الغيب الثابتة بالنص، وذلك كتقليد النصارى في عقيدة التثليث وتقليد الشيوعيين في إنكار النبوات والأديان.
وكتقليد الدول الكافرة في تعطيل حدود الله واعتقاد عدم صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق، وغير ذلك.
ويكون التقليد فسقاً حين يكون في الأخلاق الفاسدة وارتكاب المنكرات والمعاصي كشرب المسكرات ونحوه.
ويكون حراماً مطلقاً، كموافقة الكفار في أعيادهم واحتفالاتهم وتقليدهم في ذلك.
ويكون مكروهاً كالتقليد غير المقصود ولا المتعمد في أمور الحياة العامة – إذا لم يمس العقيدة ولم يكن من خصائصهم وسماتهم.
وإذا خيف أن يؤدي التقليد إلى شيء من الأمور السابقة، – الكفر أو الفسوق أو الحرمة أو الكراهة – اتخذ الحكم ذاته، سداً للذريعة.
ويكون التقليد مباحاً بشروط وقيود، كالتقليد في الإنتاج المادي والعلوم الإنسانية والتجريبية البحتة، والتجارب العسكرية ونحوها، وذلك بعد صياغتها صياغة إسلامية وتنقيتها من شوائب ( الجاهلية ) وتجريدها من مصالح الكفار وبألاّ تتعارض مع المصالح الشرعية الدينية والدنيوية([51]).
إن النظرة الفاحصة في تاريخ الأمم واستقراء أحوالها تبين لنا أن التقليد بين أمة وأمة، وبين قوم وقوم، يحدث بينهما من التشابه والتفاعل والانصهار، مايضعف التمايز والاستقلال في الأمة المقلِّدة ويجعلها مهتزة الشخصية، واقتضت سنة الله في خلقه أن الأمة الضعيفة المغلوبة تعجب بالأمة القوية المهيمنة الغالبة([52]) ومن ثم تقليدها فتكسب من أخلاقها وسلوكها وأساليب حياتها، إلى أن يصل الأمر إلى تقليدها في عقائدها وأفكارها وثقافتها وأدبها وفنونها، وبهذا تفقد الأمة المقلِّدة مقوماتها الذاتية وحضاراتها – إن كانت ذات حضارة – وتعيش عالة على غيرها.
وإذا لم تستدرك الأمة المغلوبة أمرها، وتتخلص بجهودها الذاتية وجهادها من وطأة التقليد الأعمى فإنه – ولابد – أن ينتهي بها الأمر إلى الاضمحلال والاستعباد وزوال الشخصية تماماً، فتصاب بأمراض اجتماعية خطيرة من الذل والاستصغار والشعور بالنقص وعدم الثقة بالنفس، أضف إلى ذلك كله التبعية السياسية والاقتصادية والانهزامية في كل شيء وبالنسبة للأمم الربانية ذات الرسالة الإلهية – كالأمة الإسلامية – فإن تقليدها لغيرها يصرفها عن رسالتها ويصرف جهدها وطاقاتها عن دين الله ويرهقها بالبدع والخرافات ومالم يشرعه الله من النظم والقوانين، والأمراض الخلقية مما يؤدي بها في النهاية إلى التخلي عن رسالتها ومن ثم الولاء للكفار والطواغيت وهذا إيذان ببطش الله وعقابه، كما ورد في قصص القرآن عن أمم كثيرة من هذا النوع، والأمة اليوم واقعة بما وقعت فيه تلك الأمم من التقليد الأعمى للكفار والتخلي عن رسالة الله والتبعية والولاء للكافرين في كل شئون الحياة، والحكم بغير ما أنزل الله واستباحة الزنى والربا والفجور، ومع هذا مازالت تمنُّ على الله بإسلامها([53]).

([1]) انظر: تاريخ الدولة العثمانية، د. علي حسون ، ص198.
([2]) انظر: الدولة العثمانية، د. علي حسون ، ص185.
([3]) المصدر السابق نفسه، ص186.
([4]) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية، د. علي الزهراني (2/266).
([5]) انظر: الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها (1/253).
([6]) انظر: قراءة جديدة في التاريخ العثماني ، ص208.
([7]) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية (2/267).
([8]) انظر: الدولة العثمانية، د. اسماعيل ياغي ، ص154.
([9]) انظر: الشرق الاسلامي ، حسين مؤنس ، ص256.
([10]) صدرت بدون رصيد معدني وبالتالي فقدت قيمتها ولم ينصهم المستشارون الأجانب.
([11]) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية (2/268).
([12]) انظر: تاريخ العرب الحديث مجموعة علماء ، ص140.
([13]) انظر: تاريخ العرب الحديث، ص140.
([14]) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية (2/268).
([15]) انظر: مذكرات السلطان عبدالحميد، ترجمة محمد حرب، ص3.
([16]) انظر: الشرق الاسلامي ، حسين مؤنس، ص256.
([17]) انظر: قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص209.
([18]) انظر: الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها (1/181).
([19]) انظر: الانحرافات العقدية العلمية (2/270).
([20]) انظر: السلطان عبدالحميد حياته وأحداث عصره، ص43.
([21]) انظر: نشوة المدام في العودة الى مدينة السلام، ص103.
([22]) انظر: الدولة العثمانية ، د.اسماعيل ياغي ، ص152.
([23]) انظر: الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، د. قيس العزاوي، ص60.
([24]) المصدر السابق نفسه، ص61.
([25]) المصدر السابق نفسه، ص61.
([26]) انظر: الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، ص61.
([27]) المصدر السابق نفسه، ص62.
([28]) انظر: الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، ص63.
([29]) انظر: الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، ص76.
([30]) انظر: مجلة المنار لمحمد رشيد (1/551،553).
([31]) انظر: مجلة المنار لمحمد رشيد رضا (ج1/551/553).
([32]) انظر: التقليد والتبعية ، د. ناصر عبدالكريم الغفل، ص38.
([33]) انظر: وحي القلم (3/203).
([34]) رسائل الامام الشهيد حسن البنا، ص307، طبعة دار الاندلس.
([35]) انظر: الاسلام في مواجهة التحديات المعاصرة للمودودي ، ص163-164.
([36]) انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/412).
([37]) انظر : التقليد والتبعية ، د. ناصر العقل، ص41.
([38]) انظر: في ظلال القرآن ، سيد قطب (4/20/21).
([39]) انظر: التقليد والتبعية ، ص42.
([40]) المصدر السابق نفسه، ص20.
([41]) انظر: التقليد والتبعية ، ص21.
([42]) انظر: التقليد والتبعية، ص51.
([43]) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية، ص17.
([44]) سنن أبي داود، كتاب لباس الشهرة (2/367).
([45]) وردت في عدة أحاديث منها قوله r : (خالفوا اليهود فإنهم لايصلون في نعالهم).
([46]) في صحيح البخاري.
([47]) سنن أبو داود ابواب الاستئذان.
([48]) مسند الامام أحمد (2/338).
([49]) البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب لتتبعن سنن من كان قبلكم ، المجلد الثالث، الجزء التاسع، ص83.
([50]) انظر: التقليد والتبعية، ص81.
([51]) انظر: التقليد والتبعية، ص83.
([52]) انظر: مقدمة ابن خلدون، فصل اقتداء المغلوب بالغالب، ص147.
([53]) انظر: التقليد والتبعية ، ص114،115.

ماذا تعرف عن الملك فاروق و مصر فى عهد الملك فاروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *